هي معاناة لأمهات تكبّد فيها فلذات أكبادهن الويلات، فهم شباب استهوت قلوبهم حبّ المعرفة والاطلاع على ما يوجد وراء البحر، فالبعض منهم اختار الغربة من أجل الذهاب للدراسة، والبعض الآخر فضّل السفر للعمل وآخرون اختاروا سبيلا لهجرة سرّية، غير مبالين بحجم المعاناة التي ستلحقهم في بلاد غريبة وتلك التي تلحق بوالديه من فراقه، وهو نفس الإحساس الذي يشعر به المتغرب أكثر هو حنينه لوالدته، التي سهرت على تربيته وتعليمه إلى أن صار شابا يافعا، ليحن أيضا لبلده الأصلي ومسقط رأسه. ابتسام رزيوق هذا ما قالته بعض الأمهات لنا، فهي روايات تعددت وتنوعت من حيث بداياتها، مكانها، زمانها، ومضمونها ولكن في الأخير هي معاناة واحدة لأمهات يعانين لفراق أبنائهن، هذا من دون الحديث على مأساة أمهات فقدن أبناءهن في عرض البحر وهو حال الكثير من الشباب الذي اختار لنفسه الانتحار غير المباشر. شباب جعلوا الغربة باب رزق لهم تعاني الكثير من الأمهات وفي صمت كل لحظة من لوعة فراق أحد أبنائها، الذي فضل ديار الغربة على منزلها، وهو حال خالتي دليلة التي رغم أن دموعها لم تجف لحد اليوم، إلا أنها لم ترض بكبت معاناتها في قلبها بل فضلت مشاركتنا فيها، وبدأت تحكي لنا معاناتها لفراق وسفر ابنها إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية للعمل، والتي لم تره قرابة العام تقول إنها لم تعد تقوى على الحديث عنه أمام الناس، فكلما ذكر اسمه أمامها أحس بدموعها تنهمر على خدّيها، حيث تقول إنّه كثيرا ما كان يغيب عنها بحكم لعبه في بعض الأندية الوطنية للهواة لكرة القدم بالجزائر وهوسه بها، فكان دائم التنقل على مستوى ولايات داخل التراب الوطني، لكن هذه أول مرة أحسّ أنه بعيد عني بعد السماء عن الأرض، لكن تعود وتقول أنه الحمد لله فهو دائم الاتصال بها، وتستطيع رأيته يوميا عبر التقنية التكنولوجية للانترنت وهي السكايب (كثّر خيرها) تقول خالتي دليلة، لتردف قائلة: لكن لا شيء يضاهي رأيته أمامي وضمّه إلى صدري. ...وآخرون غدر بهم الموت في عرض البحر خالتي زينب واحدة من الأمهات اللائي فارقهنّ فلذات أكبادهن إلى الأبد، ونحن نتحدث معها لاحظنا حجم الأسى والحزن العميقين لهذه الأم، الذي خطف منها الموت ابنها الوحيد عندما كان مسافرا مع رفاقه بطريقة غير شرعية في عرض البحر ، حقيقة ونحن نسمعها لم نستطع تمالك أنفسنا ولم نشعر إلا والدموع تنهمر على خدّنا من بكاء وحرقة هذه الأم المسكينة التي سرق منها الموت أعزّ ما تملك على حد تعبيرها. جزائريون جعلوا من القارة الأوروبية مهد علمهم لنعود ونلتقي بأم أخرى هاجر ابنها إلى المملكة البريطانية بعد أن حصل على منحة لمواصلة مشواره الدراسي هناك، فهي دائمة التفكير والاشتياق له لأنه يزاول دراسته في إنجلترا فهو ذهب للدراسة 4 سنوات كاملة، ولا تراه إلا نادرا بحكم دراسته وعمله في نفس الوقت الذي جعله دائم الانشغال. وترى أنه متى ما أتّم دراسته فهي لابد من تزويجه مخافة أن يتغرب عنها مجددا. تزوج بأجنبية فتخلى عن أمه رواية أخرى مؤسفة ومحزنة ترويها خالتي فاطمة عن ابنها الذي سافر إلى إسبانيا بغية العمل، ليذهب بعدها دون رجعة بعدما تزوج بامرأة أجنبية هناك، لتقول إنه في البداية كان دائم الاتصال بها، لكن بعد زواجه تغير وأصبح نادرا ما يتصل للاطمئنان عنها، مع العلم أنها لم تره قرابة 5 سنوات، حيث لم تفهم إلى الآن لماذا أصبح هكذا ولم يستطع حتى المجيء لرؤيتها خاصة وأنها مرضت ولازمت الفراش ل 6 أشهر، لكن لا حياة لمن تنادي فابني تغير ولم يعد كما كان تقول خالتي فاطمة. حنينه لأهله ووطنه أعاده للوطن الأم يقول محدّثنا عبد الكريم وهو شاب عائد من بلاد الغربة بعدما كان يعمل في ألمانيا، أنه عمل بها 6 سنوات ولكن لم يستطع أن يتأقلم وقد قضى طول تلك المدّة وهو يشعر بالوحدة، بالرغم من تعرفه إلى أصدقاء جدد جزائريون منهم، مغاربة وعرب، إلا أن هناك إحساس بالغربة والفراغ يتملك كل متغرب ولا يستطيع فهمه إلا من عايشه، بالإضافة أنني لم أستطع أن أترك والدتي التي كنت أشتاق إليها وأكلها الطيب دائما، ولا أخفي عليكم كان شوقي يزداد للوطن وليس أنا فقط بل كل المغتربين في المناسبات والأعياد الدينية خاصة، فقررت العودة لأستقر في بلادي وأعيش بكرامتي يقول عبد الكريم. نعم هي قصص تعددت وروايات تنوعت وعلى حجم اختلافها فهي كانت سببا لحزن ومعاناة الكثير من الأمهات اللواتي رحل عنهن فلذات أكبادهن إلى بلاد بعيدة وغريبة، فهن يتحملن قسوة الفراق بصمت، ولايجدن إلا الدموع عسى أن تكون بردا لألم وحرقة القلب.