عشرات من الشباب الجزائري يحلمون أن يحطوا رحالهم بأرض الأحلام أوروبا، بطريقة شرعية أو سرية على متن قوارب الموت لأحد الصيادين اليائسين بشواطىء وهران ومستغانم وغيرها نحو وجهة مجهولة وعلى متن وسائل غير مضمونة، فبعد الفشل في شراء تأشيرة العبور إلى أوروبا قد يلجأ بعض الشباب إلى المخاطرة بحياتهم هروبا من الواقع ومعاناة المعيشة التي يشهدونها يوميا في أرض الوطن والمغروسة بين أنياب الفقر وفي ضياع متواصل ينتهي بأصحابه للاعتقاد أن الموت في هكذا وضعيات يكون ربما أهون من الاستمرار في العيش تحت سقف الميزيرية والقرف. كل الحكاية تبدأ من هنا من نقيضين لا ثالث لهما فإما حياة كريمة أو أخرى مرصعة بالذل وبينهما خط رفيع يشق طريقه إلى مغامرات وقصص شباب جزائري ربما فقد كل مبررات البقاء كما يقول بعضهم والذهاب إلى الميريا أو كرتخينا الإسبانية لعله يسترجع فكرة أنا أنسان ويحقق مطلبه الأساسي في الحياة (أريد العيش لكن بأي طريقة وبأي ثمن وبأي مسلك يأخذه هؤلاء الشباب حتى يصلوا إلى مبتغاهم، فلا إجابة أمام هذا الكم الهائل من التساؤلات سوى جملة واحدة الهربة فالبوطي أو الهجرة السرية أو الحرّاقة بتشديد الراء ونطق القاف جيما مصرية، ورغم العواقب الوخيمة للكثير ممن ساروا في (طريق الماء مثلما يسمون البحر فإن أفراد تلك الطائفة في تزايد مستمر). شبكات تهريب البشر تبيع الموت بالملايير حوادث قفزت على أسوار المعقول وحبلى بالتساؤلات حول تكشير ظاهرة الهجرة السريّة عن أنيابها لتحتّل واجهة الأحداث، على الرغم من الجهود المبذولة من المصالح الأمنية لوضع حدّ للرحلات السريّة، إلاّ أنّ جميع الأنظار مشدودة وبقوّة نحو السواحل الإسبانية - بوابة أوروبا-، بل أصبحت الظاهرة أكثر تنظيما ، بعد بروز نشاط شبكات تهريب البشر المنظّمة للرحلات السريّة على ضفاف الشواطئ والتي أصبحت مشاريع مدرّة للأرباح بامتياز يجنى من ورائها الملايير في ظرف ساعات!. وبين التجاذب المطروح ما بين الآلام التي صنعتها (البوطيات) وزوارق الصيد والنزهة، والرعب الذي تصدح به أخبار انتشال الجثث المتعفّنة والمفقودين الميؤوس من العثور عليهم أحياء من جانب، وأحلام الشباب المبنية على المخاطرة والمغامرة والمقامرة والعبارة التي لا تزال المئات من الألسنة ترددها (ياكلنا الحوت وماياكلناش الدود) الشعار الحزين لشبان جزائريين كثر، لتتربّع هذه المأساة على عرش المنغّصات ومعكّرات صفو العائلات. أسالت وسائل الإعلام حبرا كثيرا حول هذه الظاهرة، ومن خلال هذا الربورتاج في جزئه الأول سنحاول إزالة اللبس ورفع الغطاء عن المآسي التي تلاحق العشرات من العائلات المفجوعة بفقدان أبنائها وفلذات أكبادها التي جرتها أذيال الهجرة السرية. عائلات تبكي أبناءها المفقودين في عرض المتوسط ما أصعب وما أقسى أن تفقد الأم فلذة كبدها بدون وداع، أو حتى موعد باللقاء مجددا، لكن الأصعب والأمرّ هو أن تفقده فجأة ودون مقدمات ثم لا تعرف عنه خبرا ولا له موطنا أو أرضا.. تلك هي حالة عشرات الأمهات من ولاية وهران، مازالت قصصهن تدمي القلوب قبل العيون، وحكاياتهن لا تنتهي عند أمواج البحر الذي أخذ أبناءهن ذات يوم من شهر أوت 2012... في كل كلمة تسترجع الواحدة منهن أنفاسها طلبا لرحمة الله الذي لا ينسى عباده، بعدما استنفذن كل المحاولات وطرقن أبواب كل البشر من مسؤولين ومحامين لا أحد يملك الجواب فقط الوعود ومشاركة في المأساة هناك خلف البحر يوجد أبناؤنا أو وراء قضبان سجن الناظور لا أحد يعرف لكن الأكيد أن هؤلاء الأمهات لا يردن الاستسلام..لأن أبناءنا أحياء هكذا قلن لنا مؤمنين بالفرضية الأخرى، وهي الموت مثلما كان مصير آلاف الشباب الجزائريين منذ سنوات، لكننا كنا نخجل ألف مرة لأنهن كن أقوى منا وهن الجريحات بلا دماء، والحزينات إلى إشعار آخر ! هي دموع أمهات الحراقة على أبناء أصبحوا في عداد المفقودين، اتخذوا من قوارب الموت وسيلة لعبورهم للضفة الأخرى من البحر المتوسط....لا اتصال هاتفي يطفئ الجمرة ولاجثة هامدة تضع حدا لتوقعاتهم، فمع كل دقيقة انتظار لن يأتي إلا سراب... ففي رحلتنا التي قادتنا إلى مدينة وهران اقتربنا بعائلات الحراقة المفقودين بتاريخ 23 أوت 2012 الذين عرضوا حياتهم لخطر الموت وركبوا أمواج البحر التي لا ترحم أحدا عندما تغضب حوّلت عائلات بأكملها في وهران إلى قطعة من نار وجهنم يتغذى بها أفرادها بشكل يومي. حكايات قاسية، مرة ومؤلمة وقفت عليها جريدة (أخبار اليوم) وعايشت معاناة عائلات احترقت أفئدة أمهات وأخوات وإخوان بعدما لم يصلهم أي خبر عن أبنائهم ليصبحوا في عداد المفقودين، وكانت وجهتنا الأولى حي الصباح بوهران أين التقينا الأخ الصغير لمحمد فبمجرد حديثنا وسؤالنا عن محمد تغرغرت عيونه بالدموع ليرد ربي يسمعنا عليه الخير، كان سؤالي الأول، كيف قرر محمد الحرقة؟ ليجيب أنه كان في كل مرة يتحدث عن الهجرة أو كما قال هو (الهدة) لأن جاءته الفرصة يوم 23 أوت 2012 أخبر أخاه الصغير أنه ذاهب ودعه ولحد الآن لم ترد عنه أي أخبار، ليتبادر إلى ذهني السؤال عن ردة فعل الأولياء لحظة سماعهم الخبر، ليقول إن الأب توفي بعد حوالي عام ونصف لعدم تحمله الصدمة، أما الأم فلا تزال تبكي فلذة كبدها إلى حد اليوم. لتكون وجهتنا الثانية حي الياسمين بوهران أين ذهبنا إلى منزل عمي عبد القادر أب أحد ال 14 حراقا المفقودين، علما أن أغلبهم من نفس الحي ليروي لنا قصة الهواري ويقول إنه هجر البلاد يوم 23 أوت 2012 من منطقة كرستل بسواحل وهران، مشيرا في سياق حديثه إلى أنه لم يسمع بخبر هجرته إلا بعد أربعة أيام من اختفائه من الشارع، ولم يرده أي خبر عنه، إلا بعض الاتصالات الهاتفية من رقم إسباني، هذا الرقم الذي تم به الاتصال ب 4 عائلات ممن هاجر أبناؤهم البلاد بطريقة غير شرعية، وعند إعادة الاتصال من طرف العائلات لهذا الرقم يرد رجل إسباني ويقول إنه رئيس سجن، وعند سؤالهم عن أبنائهم المفقودين رد عليهم قائلا (لم تردنا أي معلومات ويقطع الاتصال، فبهذا الوقت تفسّخ بصيص الأمل لدى الكثير من العائلات التي لم تعد تطالب بغير بعض المعلومات عند أبنائها إذا كانوا على قيد الحياة أو في عداد الوفيات لتنطفئ جمرة الحيرة، وما كدنا ننهي الحديث مع عمي عبد القادر حتى رن جرس المنزل، إذ إحدى أمهات الحراقة أخذتنا إلى بيتها وهي تنزل دموعا بلا صوت وعند وصولنا منزل خالتي الهوارية أخذت صور زكريا البالغ من العمر 18 سنة لتحكي لنا قصة هجرته قائلة: (زكريا كان يعمل بإحدى الورشات كلحام يتقاضى أجرا يكفيه لمصروفه الشهري، لم يكن يعاني من أي اضطرابات سوى أنه كان دائم الاختلاف مع أبيه، إلى أن اتصل بأخيه الأكبر عباس عندما كان في عرض البحر ليودعه ويقول سلم على بابا ويما وقولهم يدعولي ويصلولي زوج ركعات)، حاول عباس إقناعه بالعودة ولامه على عدم إخباره وكيف يترك والدته هكذا دون توديعها إلى أنه رفض الحديث مع أمه لكي لا يضعف، وعند سماع الأم بالخبر سقطت تحت تأثير الصدمة، وليواصل عباس الحديث ويقول (قبل أيام من هجرته جاء زكريا وطلب مني 3 ملايين سنتيم ليشتري معدات خاصة به ويباشر العمل لوحده، فلم يكن عباس يملك المال في ذلك الوقت غير أنه قام ببيع ملابسه التي كان قد اشتراها قبل يومين بمناسبة العيد ليعطي لزكريا النقود لكنه لم يكن يدري ما يخفي زكريا، لم يكن يدري أن بهذه النقود سيشتري خطر الموت). أما خالتي بدرة أم لخضر صاحب 18 سنة هي الأخرى راح ابنها ضحية الهجرة غير الشرعية ولم تصلها أي معلومات عن ابنها إلى حد الآن، غير أنها متفائلة بأن ابنها لا يزال على قيد الحياة، بعد أن قامت ابنتها بالاتصال بمستشفى طنجة بالمغرب أين ردت عليها ممرضة لتقول لها إن هؤلاء الحراقين كانوا بمستشفى طنجة في حالة خطيرة بعد استنشاقهم لمازوت المحرك البوطي وقد تم إسعافهم جميعا وهم على قيد الحياة، لكن لم تستطع إخبارها إلى أين أخذوهم خوفا على نفسها. ويزال البحث جاريا عن شباب غادروا عاصمة الغرب منذ صائفة 2012، لتنقطع منذ ذلك الحين أخبارهم، وبين الشائعات التي فعلت فعلتها تصغي آذان العائلات لكلّ كبيرة وصغيرة عن (الحرّاقة وتتابع باهتمام كلّ ما يرد عنهم في وسائل الإعلام ومختلف الجهات، هذه المأساة التي حدثت نهاية شهر أوت من عام 2012 ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فحسب الأخبار القادمة من غرب البلاد تؤكد أن الملف لم يغلق بعد، حيث أن البحث لازال جاريا عن عشرات المفقودين، تماما كما يمكن أن تتكرر الظاهرة بأوجه أخرى قد تكون أكثر تراجيدية من البحث عن مفقودين، وإذ كان البعض يرمي بثقله لمكافحة الظاهرة بحيثيات ومواد قانونية، فإن الواقع يؤكد أنه لايمكن القضاء على ظاهرة لها امتدادات اجتماعية وجذور سياسية بمرسوم أو نص قانوني). واقع مرفوض يرمي إلى مستقبل مجهول ولكن السؤال الذي يبقى مطروحا (ما السبب الذي يدعو شبابنا إلى التخلي عن الأهل والوطن والذهاب بطريقة انتحارية إلى وحش الغربة؟)، ولكن للأسف لماذا شبابنا شباب بلد المليون ونصف المليون شهيد الشعب الذي كتب أعظم تاريخ تشهد له كافة الشعوب يقع دائما في تفكير ناقم على الواقع الاجتماعي المعاش وانعدام مصادر الدخل وقلة فرص العمل، لكن لماذا لا يفكر شباننا من زوايا أخرى ويطرحون أسئلة على أنفسهم (لماذا أتخلى عن أمي أبي أخي أختي صديقي عائلتي وأذهب إلى وحشية البحر وحشية الغربة؟ لماذا لا يطمح إلى شروق شمس بلاده؟ لماذا لا يرى الاختلاف بين بلاده والبلد الذي يطمح إلى اللجوء إليه ويحاول إصلاح عيوب بلاده؟. إيطاليا إسبانيا فرنسا ألم تصل بهم الأقدار إلى ظروف أسوأ من ظروفنا في الوقت الحالي ولكن لماذا لم يدفعوا بأنفسهم إلى الهلاك مثلنا ؟ غير أن التوعية لازالت ناقصة في بلادنا حول إفرازات ذاك المشكل العويص على أكثر من صعيد واختيار الانتحار وفراق الأهل والأحباب. بحيث لا نكتفي إلا على عدد ضحايا القصص المأساوية التي أصابت الحراقة، بل أصبحت الحرقة لدى البعض صفة من صفات الرجولة ومعناها الحقيقي اليأس والهروب من الواقع. فمعالجة ظاهرة الحرقة تبدأ من معالجة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى بروزها، سياسيا واجتماعيا وثقافيا وإعلاميا، أما الهروب وراء تبريرات واهية فسيبقى مجرد مسكنات مؤقتة المفعول وهذا ما نشاهد فصوله على مدار السنة، صحيح أن الجانب الردعي ضروري للتحكم في الظاهرة الخطيرة، لكنه لن يحل لوحده المشكلة القائمة منذ سنوات، صحيح أيضا أن أجهزة أمنية ووقائية كخفر السواحل مثلا ساهمت ولازالت في التصدي لشبكات تهريب البشر وتقليم أظافرها، لكن التجربة كما في كل الظواهر تؤكد أن الأزمة ستطل علينا بوجهها القبيح لحظة ضغط تراكمات الأسباب، وقد تكون انعكاساتها أكثر خطورة، لذلك فإن الحرقة تتطلب معالجة عمق الأزمة لانتشال هؤلاء من اختيار ذاك المصير المجهول. مجرد رأي... إذن لا بد أن نشفق على من اختاروا طريق البحر المجهول ولا نلومهم أو نحكم عليهم، بل نترحم على كل من راح ضحية هذه المغامرة، أما الأحياء منهم فلا بد من الأخذ بيدهم وتوعيتهم وتبصيرهم وتذكيرهم بقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) دون أن ننسى التطرق لدراسة ومعالجة الأسباب التي دفعت لانتشار ظاهرة _الحراقة_ مثل الفقر والبطالة والسكن والحقرة في بعض الدوائر، كما نقرأ ذلك في شكاوى بعض المواطنين في الصحف، فهؤلاء الشباب مهما كان الأمر سواء غُرر بهم أو كانوا على خطأ، فهم منا ونحن منهم ولا بد من الاستماع إلى انشغالاتهم وكسبهم واحتضانهم ومعالجة المرض من الأساس دون استخدام العنف معهم. وبالطبع تبقى الشواطىء الإسبانية مرسى للقوارب الهزيلة لحراقة الجزائر كما يسمونهم هنا، أو مسافري البالير، فقد نجح العديد من الشباب في الوصول إلى شواطىء، ألميريا، جنوب إسبانيا أو إلى جزر الباليار التي تبعد بحوالي 250 كيلومتر عن الشواطىء الجزائرية، مسافة قريبة غير أنها كافية للوصول إلى الموت بطريقة مرعبة كما حدث للبعض، والإحصائيات تشير إلى وفاة العشرات قبل أن تحط أقدامهم في بلاد يقطنها أزيد عن 50 ألف جزائري بطريقة شرعية، إضافة إلى حوالي 15 ألف بدون أوراق كلهم يعيشون ظروف الهجرة الصعبة، من مشكل السكن والشغل إلى العنصرية بسبب الإرهاب والعنصرية لأسباب أخرى. حسيبة موزاوي