توفي مجاهد آخر، ودُفنت معه ذاكرة أخرى، وضاعت حقائق أخرى من الثورة والتاريخ، وأخشى أن يأتي علينا يوم نفقد فيه ذاكرتنا كلها. وارينا قبل أيام المجاهد عبد الكريم حساني التراب وقبله بيومين فقدنا المجاهد عبد الحميد أوشيش، وقبله بأسابيع لخضر بن طوبال وآخرين وآخرين، رحمهم الله جميعا. وان ترك هؤلاء بعض الذكريات والوقائع، فإنهم لا شك اخذوا معهم أكثر مما تركوا، فكانت الخسارة خسارات لنا ولتاريخنا ولبلادنا. لكن ما الذي جعل هؤلاء يغفلون كتابة مذكرات او شهادات، وهل هم من اغفلوا ذلك، أنّنا نحن المخطؤون في حقهم، وحقنا قبل ذلك؟ كنت أنجزت آخر حوار للمجاهد حساني شهورا قبل وفاته، وكان ذلك في ذكرى الخامس من جويلية الماضي، لأننا صحفيين وقراء ومثقفين ومواطنين، بل وشعبا، لا نتذكر مجاهدينا وصانعي حريتنا وتاريخنا استقلالنا إلاّ من حين لآخر، ونتحدث بعقم، ونقيم احتفالات جافة ليست بحجم لا الثورة ولا الاستقلال. ولأن المجاهد حساني كان قد ألف كتابين عن الثورة، نشر احدهما وبقي الآخر في الأدراج، فقد سألته عن سبب إغفال المجاهدين ومن عايشوا تلك الفترة كتابة مذكرات أو كتابات وشهادات يمكن، بل لا بد أن تفيدنا في كتابة تاريخ ثورة، شُهد لها بأنها من أعظم الثورات في العصر الحديث؟ وكانت إجابته أن قال لي إنّ كتابة التاريخ والمذكرات ليست مسألة أفراد، بل تحتاج إلى سياسة دولة وتظافر جهود أفراد وجماعات، حتى نلم بكل أو بكثير من الحقائق التاريخية، ونكتبه بكثير من المصداقية. لكن لم لا نفعل حتى الآن أي أنّنا لا نملك كتابا لتاريخ الثورة، ولا نكاد نعثر في أدراج المكتبات إلا على بعض المحاولات الفردية التي وان كنا نشكر لمؤلفيها صنيعهم، إلاّ أنها لا ولن تكفي فضول شعب بأكمله لمعرفة تاريخه. ثمّ من يعطل تلك الكتابة؟ وكيف يمكن أن نُهمل كتابة تاريخ ثورة انتصرنا فيها، فيما سارعت فرنسا، بمؤرخيها وما عايشوا تلك الفترة هنا ومن هناك، وسنوات قليلة بعد خروجها، إلى كتابة ما أسمته بمعركتها ضدّ الجزائر، وحتى متاحفها تحتوي على معلومات وصور ووثائق لم نرها نحن؟ لمَ نثير ضجّة وقلقا حول تصريحات المجاهدين الذين يتحدثون عن تلك الفترة؟ ولمَ لا نتقبلها أو على الأقل نناقشها بهدوء؟ ونفضل أن نتبادل بيننا الاتهامات والتصريحات والتجريحات، ولا نفعل مثل البلدان التي تصالحت مع تاريخها، وقدرت مجاهديها وأبطالها، ليس لأنهم معصومون من الخطأ، بل لأنهم أناس حاربوا ودافعوا عن الراية وحققوا الاستقلال. لمَ نتصالح مع سنوات التسعينات، ولا نتصالح مع تاريخنا كله، ومع أشخاص، ومهما فعلوا فان لهم فضلا كبيرا علينا؟ من الصعب أن يولد أبناؤنا من بعدنا بدون ذاكرة، او بالشيء القليل منها، فتكون الثورة وما قبلها وما بعدها مجرد أحاديث وشهادات غامضة، فيشكون فيها وفينا وفيمن قبلنا، أي بتاريخ الجزائر كلها.