اختلاف في التفسيرات وبالجملة * هكذا تحوّلت النصرانية إلى دين يدعو للإرهاب قمنا في الجزء الثاني من ملفنا المطول حول النشاط التنصيري في الجزائر بإبراز بعض الأدلة على تعرض الإنجيل للتحريف معتمدين على نتائج ووجهات نظر توصل إليها علماء نصارى بل وحتى أدلة من الإنجيل نفسه، وسنحاول من خلال هذا الملف في جزئه الرابع أن ندعم ما ورد في الجزء الماضي بإظهار عدد من التناقضات التي يمتلئ بها الإنجيل لاسيما وأن الموسوعة البريطانية أكدت وجود 150 ألف تناقض في الكتاب المقدس، وهو ما يؤكد تعرض الإنجيل إلى التحريف، وإن كنا كمسلمين مسلمين بذلك مادام قرآننا قد نص عليه ولا نحتاج إلى مثل هذه البحوث حتى نثبت هذه المسألة، ولكننا لا ننكر استفادتنا منها في تبيان حقيقة النصرانية بأدلة وبراهين النصارى أنفسهم. ومن خلال احتكاكنا ببعض المنصّرين اكتشفنا أن أسهل طريق لإيصال الرسالة للنصارى وتحذير الناس من الانجرار وراءهم هو بيان زيف الكتاب المقدس الذي يعتمده المنصرون في إضلالهم للمسلمين، مع أن من المسلمات التي يؤمن بها كل مسلم أن التوراة والإنجيل الموجودان الآن كلاهما مبدل محرف، كما ورد في القرآن الكريم في أكثر من موضع مثلا قوله تعالى الآية 13 من سورة المائدة: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)، وقال سبحانه في الآية 79 من سورة البقرة: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُون)، وإننا مع اعتقادنا هذا قد نحتاج إلى البرهان المادي والدليل القاطع من كتابهم على التحريف لإقناع هؤلاء الضالين الذي يعتقدون أن الإنجيل الموجود الآن كله من كلام الله تعالى، ومن أقوى الأدلة المادية على ما نعتقده هو وجود كم هائل من التناقضات في نصوصه وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى عن القرآنفي الآية 82 من سورة النساء: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرا)، وسنحاول من خلال هذا الجزء إيضاح أهم التناقضات الواردة في الأناجيل الأربعة المعتمدة اليوم دون التعرض لغيرها في العهد القديم أو توابعها من العهد الجديد لأن تتبع كل ذلك أمر يطول ولا يسعه مقامنا هذا. من هو عيسى المسيح عند النصارى؟ أول تناقض يصادف قارئ الإنجيل متعلق بحقيقة عيسى عليه السلام ونسبه عندهم وبعبارة أخرى هو متعلق بأصل عقيدتهم، حيث قال مرقس في فاتحة إنجيله: (هذه بداية إنجيل يسوع المسيح ابن الله)، فجعل المسيح عليه السلام ابنا لله، وقال يوحنا في أول إنجيله: (في البدء كان الكلمة والكلمة كان مع الله وكان الكلمة هو الله) وهذا تصريح من يوحنا الكاتب بأن عيسى أو الكلمة هو الله، بينما نجد الإنجيلين الآخرين يقرران بشريته وأنه ابن يوسف النجار الذي يقولون إنه كان خطيب مريم عليها السلام، إذ جاء في أول إنجيل متى: (هذا سجل نسب يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم ...ومتان أنجب يعقوب ويعقوب أنجب يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح). ويوافقه لوقا في قوله إنه ابن يوسف ويخالفه في سلسلة النسب إلى داود إذ قال في الإصحاح:3/23: (وكان معروفا أنه ابن يوسف بن هالي بن متثان بن لاوي) وذكر النسب إلى أن قال: (ابن آدم ابن الله). وقد ذكر قبل ذلك (في الإصحاح:1/33) ما يؤكد بشريته فقال: (إنه يكون عظيما وابن العلي يدعى، ويمنحه الرب الإله عرش داود أبيه فيملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولن يكون لملكه نهاية)، إذن ليس هو الإله ولا ابن الإله وهو في نظره ملكا من ملوك اليهود، وهذه مخالفة للواقع وبرهان آخر على تحريف الإنجيل لأن عيسى عليه السلام لم يجلس على كرسي الملك ولو لحظة واحدة كما زعم لوقا. هل كان صلب المسيح برضاه أم رغما عنه؟ من أصول عقيدة النصارى كما أوضحنا في الجزء الأول من الملف أن الإله قد حل في الجسد البشري من أجل أن يصلب ويكون ذلك كفارة لخطايا البشر، وهذا يعني أن المسيح كان سيصلب عن رضا وطواعية وهو ما جاء موضحا في متى (إصحاح:26/45-46): (ها قد اقتربت الساعة التي فيها يسلم ابن الإنسان إلى أيدي الخاطئين قوموا ننطلق ها قد اقترب الذي يسلمني)، وقد نقل ابن القيم من نسخة قديمة أنه جاء في الإنجيل: (لما استشعر بوثوب اليهود عليه قال قد جزعت نفسي الآن فماذا أقول؟ يا أبتاه سلمني من هذا الوقت). وهذا النص يشابه كثيرا نص يوحنا (إصحاح:12/27) مع تغير طفيف: (الآن نفسي مضطربة فماذا أقول؟ يا أبت نجني من تلك الساعة وما أتيت إلا لتلك الساعة). ولكن متى نقل بعد ذلك ما يفيد أن صلبه كان دون رضاه ورغما عنه حيث قال (إصحاح:27/46): (ونحو الساعة الثالثة صرخ يسوع صرخة شديدة قال: (إيلي إيلي لما شبقتني) أي إلهي إلهي لماذا تركتني؟ هل جاءت النصرانية للسلام أم للإرهاب؟ من بين الأمور التي يستغلها المنصرون في هذه الأيام لنشر ديانتهم ما يشيعونه عن الإسلام اليوم من أنه دين إرهاب وعنف، ويعملون في المقابل على نشر نصوص الإنجيل التي تبين أن دينهم دين تسامح ورحمه ليقنعوا الضعفاء والمرهبين بأن يقبلوا النصرانية دينا بديلا عن الإسلام ومن نصوص الإنجيل التي يحبون إذاعتها بين الناس ما نقله لوقا عن المسيح (إصحاح:6/27-29): (أيها السامعون فأقول لكم أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضكم وباركوا لاعنيكم وصلوا من أجل المفترين الكذب عليكم من ضربك على خدك فاعرض له الآخر، من انتزع منك رداءك فلا تمنعه قميصك، كل من اغتصب مالك فلا تطالبه به) وقد ورد نص آخر قريب في معناه من النص السابق في متى (إصحاح:5/38-48)، وهذه المقاطع لا تدل فقط على التسامح بل تدل على غاية الذل والهوان، ولا يوجد أحد في الدنيا يستطيع العمل بها، وإن كان هناك من يزعم أن ذلك هو دينه. ومهما كان فهمهم لتلك النصوص فإن هناك في الإنجيل نفسه ما يدل على نفي التسامح والدعوة إلى الشقاق والافتراق حتى بين أهل البيت الواحد، بل والتصريح برفض السلام رأسا، فقد نقل متى عن المسيح أنه قال (إصحاح:10/34-37): (لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى الأرض ما جئت لأحمل سلاما بل سيفا، جئت لأفرق بين المرء وأبيه والبنت وأمها والكنة وحماتها فيكون أعداء الإنسان أهل بيته(. ونقل لوقا عنه أيضا (إصحاح:12/51-52): (أتظنون أني جئت لأحل السلام في الأرض؟ أقول لكم لا بل الانقسام فيكون بعد اليوم خمسة في بيت واحد منقسمين). ثم إن في تلك المثالية العالية مناقضة للفطرة ولشريعة القصاص، وقد نصت عليها التوراة في سفر الخروج (الإصحاح:21/23) تناقض التفسيرات والوحي واحد وقضية التناقضات لدى النصارى لا تتوقف على نصوص الكتاب المقدس فحسب بلتمس التناقضات تفاسيره أيضا فالبروتستانت يعتقدون بأن الروح القدس هو الذي يمنح الفهم الحقيقي لأي نص من نصوص الكتاب المقدس وتدعي كل فئة بروتستانتية بأن الروح القدس هو الذي يُلهم أعضاءها الأتقياء بالتفسير الصحيح والفهم القويم للنص الكتابي. وبالتالي، كل فئة بروتستانتية أو غير بروتستانتية أخرى تخالف تفسير فئة معينة هي غير مُلهمة. ولو كان هذا الأسلوب صحيحاً فعلا، لما كان لدينا آلاف الفئات البروتستانتية المختلفة فيما بينها، وكلها تدّعي أن الكتاب المقدس هو مصدر تعليمها الأوحد. فإما أن يكون الكتاب المقدس مخطئاً، وإما أن تكون هذه التفاسير مخطئة. وقد جعل هذا الاعتقاد من كل بروتستانتي عالم من علماء التفسير ولذلك فقد وجدت آلاف الفئات البروتستانتية التي تدّعي الإيمان بالكتاب المقدس حصراً ومع ذلك فالفروق العقائدية والعبادية والأخلاقية والتفسيرية فيما بينها هي أمرٌ يدعو للأسف والحزن عليها وعلى سذاجتها، وبالرغم من أن الروح القدس هو الذي يفسر للنصارى نصوص كتابهم إلا أن نظرة واحدة إلى المكتبات البروتستانتية في العالم تكفي لترينا كم من كتب تفاسير الكتاب المقدس موجودة بصورة مختلفة ويتجاوز حجمها حجم الكتاب المقدس نفسه بمئات إلى آلاف الأضعاف أحيانا. فلو كان الكتاب المقدس يفسر نفسه بنفسه (كما يقول البروتستانت) فلماذا كتب المفسِّرون البروتستانت آلاف الصفحات تفسيراً لعدة صفحات من الكتاب المقدس؟ ولماذا كان آباء الكنيسة الأولى يرجعون إلى الأسفار المقدسة؟ فمؤيدو عقيدة (الكتاب المقدس حصراً) كثيراً ما يشيرون إلى أن آباء الكنيسة الأولى كانوا يلجأون إلى الأسفار المقدسة لدعم مواقفهم في المناقشات العقائدية في القرون الأولى، أي أن مصدر تعليم الآباء هو الكتاب المقدس وليس الروح القدس كما يدعون اليوم. هناك أيضا طريقة أخرى يعتمدها بعض النصارى، وهو مبدأ بروتستانتي شائع جداً يتمثل في تفسير النصوص الغامضة بنصوص أخرى أوضح منها. ولكنه لم يكن من الواضح دائماً أي نصوص هي الواضحة وأي نصوص هي الغامضة. فهل نفسّر النصوص التي تشير إلى لاهوت المسيح بالنصوص التي تشير إلى ناسوت المسيح أم العكس بالعكس؟، وهناك مبدأ آخر يشبه إلى حد ما هذا المبدأ وهو أن تفسر النصوص السهلة النصوص الصعبة أي أن الكتاب المقدس يفسّر نفسه بنفسه ولكن الصعوبة هنا أمام هذا الأسلوب الجذّاب ظاهرياً تكمن في بين النصوص الصعبة والنصوص السهلة؟ ونتيجة لاختلاف طرق التفسير فإن التفسيرات جاءت متناقضة أيضا وكثيرا ما يمس التناقض في التفسيرات ثوابت نصرانية لا يمكن المساس بها مثل تفسير آريوس الذي توصل في النهاية إلى وضع تحديدات عقائدية بخصوص الثالوث النصراني. فالنتيجة التي توصل إليها آريوس بدأت من تفسيره لأمثال 8: 22، وقد استنتج من تفسيره أن (اللوغوس) أو (الكلمة) كان مخلوقاً، ولو كان أعلى وأفضل من كل الخلائق. بينما لازالت الكنائس النصرانية تعلم أتباعها أن (اللوغوس) أو (الكلمة)، هو ربهم يسوع المسيح وهو الخالق والإله المتجسد فتعالى الله عما يدعون، وقد كان تفسير آريوس مبيناً على الوحدة العددية لله، حيث افترض أن الله لا يمكن أن يكون ثلاثة أشخاص أو أقانيم وبالتالي لا يمكن للمسيح إلا أن يكون مخلوقاً، وبالرغم من منطقية هذا التفسير إلا أن الكنيسة رفضته ووصفته بالهرطقة. من جانب آخر افترض القديس اثناثيوس أن الخلاص لا يمكن أن يأتي إلا من الله، وبالتالي لا يمكن للمسيح، كمخلِّص، إلا أن يكون إلهاً متجسداً، وبالتالي فهو خالق. وأن الله صار إنساناً لكي يصير الإنسان إلهاً. إذاً فالتفسير الأرثوذكسي لأمثال8: 22 مبني على إيمان سابق موجود ضمن تقليد الكنيسة بأن الله وحده هو الذي يمكنه أن يخلّص الإنسان. إذاً لم يكن النص نفسه أو بحد ذاته هو الأداة لمعرفة المعنى، ولم توجد نصوص كتابية أخرى يمكنها أن توضح معنى هذا النص بالذات، ولكن كان لا بد من اللجوء لحياة الكنيسة وتقليدها لتفسير هذا النص.