67 سنة من الاحتلال الصهيوني.. فلسطين تقاوم* * "لاجئون ومهجرون.. ولكننا عائدون"** كان ال15 من ماي عام 1948 يوما استثنائيا بالنسبة للفلسطينيين والعرب عموما. فقد شهد ثلاثة أحداث كبرى هي: زوال اسم فلسطين عن الخارطة السياسية والجغرافية، قيام دولة الكيان، بدء الحرب العربية الأولى مع العدو الصهيوني، في هذا اليوم، يتحرك الفلسطينيون من كل فئاتهم العمرية في أماكن وجودهم داخل الأراضي المحتلة، وفي الضفة وغزة، وفي مناطق انتشارهم في العالم، لإحياء ذكرى ما بات يعرف ب (نكبة فلسطين).. يستحق الشعب الفلسطيني لقب (أكبر شعب لاجئ) في العالم، فهو لم يهجّر فقط من بلاده إلى بلد أكثر أمنا يعيش فيه بسلام، ولكنه هُجّر حتى من مكان لجوئه، حتى تحول اللجوء إلى خبزه اليومي. بداية المرارة التي يتجرعها الفلسطينيون منذ 67 عاما كانت مع نكبة عام 1948، ويستذكر الشعب الفلسطيني ما تعرض له من إرهاب دولة منظم مارسه الاحتلال، وما ارتكبته عصاباته المسلحة من جرائم حرب بشعة، وما نفذته من عمليات تطهير عرقي بهدف إرهاب المواطنين الفلسطينيين، وإرغامهم على مغادرة أراضيهم، واغتصاب أرضهم وممتلكاتهم بأبشع أشكال الاحتلال العسكري والاستيطاني في التاريخ المعاصر، مما أسفر عن تشريد الغالبية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني في أصقاع الأرض، عانوا فيها أشد أنواع العذاب النفسي والجسدي. المتمسكون بحق العودة عادت مفردة (حق العودة) إلى الاستخدام بالتزامن مع التئام مؤتمر السلام في مدريد عام 1991. ومع اتجاه الوفود المشاركة في المفاوضات للبحث عن حل للصراع العربي الصهيوني، أعيد تسليط الضوء على قرار الأممالمتحدة رقم 194 الصادر عام 1949، والذي ينص على إعادة اللاجئين إلى المناطق التي طردوا منها في فلسطين خلال الحرب العربية الأولى مع العدو أو تعويضهم. لكن القرار اكتسب أهمية مضاعفة عام 1993 بعد ظهور ثمرة المفاوضات السرية التي أجرتها الحكومة الإسرائيلية عام 1993 في أوسلو. فقد تبين أن اتفاق إعلان المبادئ الذي تناول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي خلت من أي تدبير يتعلق باللاجئين، كما أن القيادة السياسية للفلسطينيين وافقت على جعل حق العودة قابلا للتفاوض، وربطته بما يسمى مفاوضات الوضع النهائي التي لم تبدأ رغم مرور عقدين على توقيع اتفاق أوسلو. ولهذا حاولت بعض المنظمات والجمعيات ملء الفراغ والتذكير دائما بأن هناك ملايين الفلسطينيين المشتتين حول العالم الذين ينتظرون بفارغ الصبر العودة لأرضهم. واقع الحال بعد 67 عاما مع إحياء الفلسطينيين الذكرى السنوية السابعة والستين لنكبتهم، تظهر معطيات رسمية تكرار النكبة في مختلف المجالات بأثواب جديدة، بالقسوة ذاتها أو أشد أحيانا. فمنذ تشريد نحو 800 ألف فلسطيني أعزل من وطنهم عام 1948، من بين 1.4 مليون فلسطيني كانوا يقيمون في 1300 قرية ومدينة في فلسطين التاريخية في حينه، لا يُرى أفق للعودة، بل زاد الاحتلال في إمعانه وسيطرته حتى على ثروات الفلسطينيين. ووفق معطيات نشرها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني اليوم فقد دمر الاحتلال في النكبة 531 قرية ومدينة فلسطينية، وارتكب أكثر من 70 مذبحة ومجزرة راح ضحيتها ما يزيد عن 15 ألف فلسطيني. وفي نظرة سريعة على الواقع الديمغرافي بعد 67 عاما على النكبة، فقد تضاعف عدد الفلسطينيين 8.6 مرات ليقدر عددهم نهاية عام 2014 بحوالي 12.1 مليون نسمة، بينهم 6.1 ملايين يعيشون في فلسطين التاريخية، منهم 4.6 بالمائة يعيشون في الضفة وغزة. لجوء ونهب وتظهر المعطيات أن نسبة اللاجئين الفلسطينيين في دولة فلسطين تشكل 43.1 بالمائة من مجمل السكان الفلسطينيين المقيمين نهاية عام 2014، في حين بلغ عدد اللاجئين المسجلين لدى وكالة الغوث في الأول من جويلية 2014 حوالي 5.49 ملايين لاجئ فلسطيني. (تظهر المعطيات أن نسبة اللاجئين الفلسطينيين في دولة فلسطين تشكل 43.1 بالمائة من مجمل السكان الفلسطينيين المقيمين نهاية عام 2014، في حين بلغ عدد اللاجئين المسجلين لدى وكالة الغوث في الأول من حويلية 2014 حوالي 5.49 ملايين لاجئ فلسطيني). ووفق المعطيات ذاتها يعيش قرابة 29 بالمائة من اللاجئين الفلسطينيين في 58 مخيما في الداخل والشتات، لكنها توضح أن هؤلاء يشكلون الحد الأدنى لعدد اللاجئين الفلسطينيين لوجود لاجئين غير مسجلين، ولاجئين تم تشريدهم من الفلسطينيين بعد عام 1949 حتى قبيل حرب جوان 1967، وآخرين رحلوا أو تم ترحيلهم عام 1967. وبينما قدر عدد السكان الفلسطينيين الذين لم يغادروا وقت النكبة عام 1948 بحوالي 154 ألفا، يقدر عددهم اليوم بحوالي 1.5 مليون نسمة. في حين تظهر المعطيات أن قطاع غزة تحوّل إلى أكثر بقاع العالم اكتظاظا بالسكان (4904 أفراد لكل كيلومتر مربع مقابل 500 فرد لكل كيلومتر مربع). وأشارت المعطيات إلى تدمير حوالي 9 آلاف وحدة سكنية كليا و47 ألف وحدة جزئيا، إضافة إلى تدمير 327 مدرسة كليا و6 جامعات جزئيا و71 مسجدا كليا وجزئيا و20 مبنى حكوميا و29 مستشفى ومركز رعاية صحية أولية في عدوان الصيف الماضي على قطاع غزة. في ملف الأسرى تشير بيانات هيئة شؤون الأسرى والمحررين إلى أن قوات الاحتلال اعتقلت منذ عام 1967 وحتى منتصف أفريل 2015 نحو 850 ألف فلسطيني، في وقت قدر عدد المعتقلين في السجون ومراكز التوقيف الإسرائيلية حاليا بحوالي 6500 أسير. أما في ملف الشهداء، فقد استشهد 10062 فلسطينيا منذ انتفاضة الأقصى يوم 29 سبتمبر 2000 وحتى نهاية 2014، وكان عام 2014 الأكثر دموية حيث سقط 2240 شهيداً بينهم 2181 شهيدا في العدوان الأخير على غزة. (حسب الإحصاء فإن عدد المواقع الاستعمارية والقواعد العسكرية في الضفة الغربية نهاية العام 2013 بلغ 409 مواقع، في وقت اقترب عدد المستعمرين من 600 ألف) الأرض والمياه حسب الإحصاء، فإن عدد المواقع الاستعمارية والقواعد العسكرية في الضفة الغربية نهاية العام 2013 بلغ 409 مواقع، في وقت اقترب عدد المستعمرين من 600 ألف، مشيرا إلى أن 48.5 بالمائة من المستعمرين يسكنون في محافظة القدس، وكل 21 مستعمرا يقابله 100 فلسطيني في الضفة. ويلفت بيان جهاز الإحصاء إلى هدم نحو 500 مبنى في القدس بين عامي 1967 و2000، وقرابة 1340 مبنى بين 2000 و2014، في الجزء من محافظة القدس الذي ضمته دولة الكيان عنوة بعيد احتلالها للضفة الغربية في عام 1967. وتتجلى النكبة مجددا في قطاع المياه، حيث تذكر المعطيات أن المستوطنين يحصلون على أكثر من 50 مليون متر مكعب من المياه الفلسطينية سنويا لزراعة الأرض التي استولى عليها الاحتلال، في حين يسيطر اليهود على أكثر من 85 بالمائة من أرض فلسطين التاريخية البالغة قرابة 27 ألف كيلومتر مربع. وبناء على المعلومات المائية للعام 2013 فإن نسبة المياه التي يحصل عليها الفلسطينيون من مياه الأحواض الجوفية في الضفة الغربية لا تتجاوز 15 بالمائة من مجموع المياه المستغلة منها في وقت يحصل الاحتلال الإسرائيلي على ما يزيد عن 85 بالمائة من مياه الأحواض ذاتها. النكبة وحاضر الفلسطينيين شكلت نكبة عام 1948 مفترق طرق، حددت مصائر الفلسطينيين استنادا إلى الجغرافيا التي وجدوا فيها أو انتقلوا إليها قسرا. الآن وبعد 67 عاما من لجوء معظمهم داخل أرض فلسطين التاريخية أو خارجها، تمثل النكبة حدثا استثنائيا يحيونه بشتى الطرق. يحيون قراهم المهدمة من قال إن الفلسطينيين هجروا وتركوا قراهم وبلداتهم التي دمرها الاحتلال في نكبة عام 1948؟ ومن قال إنها منسية ولا وجود لها؟ فقرية لوبية وسعسع والزيب والمنشية وصفورية وغيرها من قرى الجليل ما زالت ماثلة وتدب في جنباتها عروق الحياة بكل عاداتها وتقاليد أهلها ومسميات عائلاتها، لكن في مخيمات اللجوء في لبنان. ففلسطينيو النكبة ممن هجروا وشردوا وقتّلوا، لم يحملوا معهم فقط حاجيات الهجرة والنكبة ومفاتيح البيوت و"قوشان الأرض"، بل حملوا معهم كل مفردات قراهم مع أدق تفاصيلها إلى حيث ألقت بهم فصول النكبة المرّة في الأردنوسورياولبنان. ويلحظ الزائر للعديد من مخيمات اللجوء في لبنان وتحديدا عين الحلوة في صيدا ونهر البارد في طرابلس -الذي دمّر في ماي 2007 بعد اشتباكات بين تنظيم فتح الإسلام والجيش اللبناني- بروزا لافتا لتجمعات سكانية أبقت على تآلفها وقربها الجغرافي من بعضها بعضا حتى داخل المخيم المكتظ. فكان حي أهالي قرية لوبية وأهالي صفورية والزيب والمنشية وسعسع وغيرها شواهد حية وناطقة على تمسك الفلسطيني بأسماء قراه التي دمرت، حفاظا منه على تاريخ جميل مضى، وترسيخا ثابتا لذهنية حق العودة في ذاكرة الأجيال. ويروي الحاج علي قاسم من مخيم برج الشمالي جنوبلبنان للجزيرة نت فصولا لا تنتهي من تفاصيل حياة قريته لوبية التابعة لطبريا في الجليل، مستجمعا ذاكرة ثرية بأحوال وعادات وتقاليد أهل البلدة وإرهاصات ما قبل وقوع النكبة ونهايات الانتداب البريطاني لفلسطين. ويسرد كيف تقادم الزمن على كثير من العادات والتقاليد التي كانت جزءا رئيسيا من حياة ما قبل النكبة، وكيف غدت اليوم مع توالد الأجيال (مجرد حكايات تروى للسمع والاستمتاع). خيار قوارب الموت لم تثر الصراحة الواضحة التي تحدث بها الشاب العشريني محمد خالد ابن مخيم اليرموك، كثير استغراب حين وصف التفكير في "فلسطين والنكبة وحق العودة" لدى شباب اللاجئين في سوريا بأنه بات اليوم (من رفاهيات التفكير) في ظل حالة انتظار الموت كل ساعة. ويسهب خالد -المقيم في بيروت والذي ترك مخيم اليرموك أملا في هجرة آمنة لأوروبا- بذكر حسنات الهجرة على القضية الفلسطينية بالقول (من ذهب إلى أوروبا الآن يجد فسحة كبيرة من الوقت والراحة تتيح له العمل والتفرغ إنْ أراد لتطوير نفسه والانشغال الفعال بقضيته ودعمها). وشكلت ظروف الضغط القاسية -التي عاشها ولا يزال فلسطينيوسوريا يعيشونها- والشتات منعطفا صارخا بمسيرة وحلم حق العودة، فظروف حرب سوريا وسياسة الكراهية المتبعة ضدهم في لبنان دفعتهم لخوض البحار بحثا عن رمق كرامة وسعيا لمعاملة إنسانية تضمن لهم الحد الأدنى من رغد الحياة. ولم تفتّ محاولات خالد الفاشلة والمتعددة للهجرة من عزم التكرار والسؤال عن السبل الآمنة للهجرة مرة أخرى (محاولاتي فشلت لأنني أدركت أنني أضع روحي وسلامتي بأيدي أشخاص لا تساوي عندهم الألف دولار مع توافر أسباب النصب والاحتيال، دون أن يمنعني كل ذلك من البحث عن وسيلة آمنة). إصلاح أحوال ويرى خالد أن اللاجئ الفلسطيني حكم عليه أن يعيش بهمومه وأشغاله حتى يبعد جسديا وفكريا عن فلسطين ولا تغدو كونها (شعارا على جدار منزل داخل أحد المخيمات التي لا تصلح للعيش البشري)، ويرى في صلاح أحوال اللاجئ الفلسطيني صلاحا في التهيئة الفعلية للعودة لفلسطين والعكس. وعن ديمومة تفكير الشباب الفلسطينيين في فلسطين، قال (لا أعتقد أن المطلوب حاليا من شبابنا أن يفكروا في فلسطين، فحجم التحدي الذي يواجههم دفعهم بقوة للتفكير في تأمين حياتهم، التفكير اليوم منصب على سؤال جوهري كيف تبقى حيا؟). وأردف (حين أُمنع من استخراج إقامة بلبنان وأبقى مدارا للشبهة والتمييز والمعاملة السيئة يصبح الحديث عن الاستقرار والسكينة من ضروب الخيال). "حاضرون غائبون" تسببت نكبة 1948 في تحويل مئات آلاف الفلسطينيين إلى لاجئين وعشرات الآلاف إلى مهجرين في وطنهم ممن يرون بلداتهم وأراضيهم، وأحيانا منازلهم، وهم يحرمون منها. وتواصل دولة الكيان اعتبارهم (حاضرين غائبين) بذريعة أنهم (تركوا ديارهم) فباتت ملكا للدولة، لكنهم مصممون على مواصلة النضال حتى استعادة حقوق نهبت وسلبت منهم عنوة. ويؤكد أحمد الشيخ محمد المهجّر من قرية شعب، وهو مقيم اليوم في قرية مجد الكروم قضاء عكا، أن نحو ثلث فلسطينيي الداخل مهجرون في وطنهم ويقيمون بنحو 60 بلدة. وأوضح أن السلطات الإسرائيلية غطت القرى المهدمة بالأحراش كي تخفي معالمها مثلما أنشأت مستوطنات على أراضيها تحمل أسماءها المحرفّة بالعبرية. ويشير لتشكيل هؤلاء لجنة الدفاع عن المهجرين فيدولة الاحتلال بعد توقيعها اتفاق أوسلو عام 1993، بهدف السعي للعودة ولو طال الغياب. تطهير عرقي وتاريخي لم يكن ناجح أبو القيعان (46 عاما) قد ولد عندما حلت النكبة بشعبه، لكنه ذاق طعم الاقتلاع واللجوء مرات عدة. وكانت دولة الكيان -التي احتلت النقب عام 1949- قد احتلت قرية جبالة وهجّرت أهلها إلى غزة أو الأردن أو لبنان، في حين طرد آخرون، منهم عشيرة أبو القيعان، لمنطقة أخرى تبعد عشرات الكيلومترات وتدعى "اللقية". ويوضح ناجح أن والده الراحل عيسى أبو القيعان فقد خلال تهجير النكبة شقيقيه حسن وسالم، وحينما اكتشف أنهما في الأردن عام 1979 سارع لزيارتهما فأخبره أبناؤهما أنهما قد رحلا. نفي واعتقال ولم تنته تغريبة عشيرة أبو القيعان عند ذلك، فقد فرضت دولة الاحتلال عليها الرحيل من اللقية إلى منطقة العراقيب عام 1956، وبعد عام نقلتها مجددا إلى مسقط الرأس في جبالة. ويتابع ناجح (يبدو أن السلطات الإسرائيلية أعادت حساباتها أو ندمت فأمرت العشيرة بالرحيل إلى قرية أم الحيران، واعتقلت أو نفت للجليل كل من عارضها، وفي تلك الأيام ذاق أهلي الأمرين بسبب حكم عسكري صارم). واتهموا لاحقا بأنهم استولوا على أراضي أم الحيران التي نقلتهم السلطات الإسرائيلية إليها، وبادرت لهدم بيوتهم مرات عدة بذريعة البناء غير المرخص. حبل المشنقة وقبل أيام رفضت محكمة العدل العليا التماسا قدموه عام 2002، وحكمت بترحيلهم وهدم منازلهم تمهيدا لبناء مستوطنة تقوم على أنقاض قريتهم وتسمى على ما يشبه اسمها. ويؤكد ناجح -وهو أب لستة عشر ابنا- أن أهالي أم الحيران يرفضون القرار العنصري ومصممون على مواجهة مخططات التطهير العرقي (حتى آخر نفس جيلا بعد جيل). ويتابع "العيش في بيت مهدد بالهدم يعني وضع حد السيف على رقبتك أو إيقافك على حبل المشنقة ولا تعرف بأي لحظة يسحبون الطاولة من تحت قدميك، لكننا سنواجه جرافاتهم بقوة حقنا". يستأجر أرضه من عدوه ما تجود به ذاكرته من قصائد كان يرددها مع والديه أيام الحصاد قبل 1948، يجلس الحاج أحمد حسن الدرابيع (أبو كمال) على صخرة في أرضه المزروعة بالقمح ويغني حنينا للماضي، وأملا في غد أفضل، في ظل واقع يراه معكوسا حين تحول فيه الدخيل إلى صاحب مالك والمالك إلى مستأجر. فبعد اقتلاع مئات آلاف الفلسطينيين من أرضهم وبلداتهم وقراهم من عام 1948، وجد بعضهم في البقاء على أبواب الوطن قريبا من أملاكهم على الجانب الآخر من خط الهدنة، ملاذا مؤقتا على أمل العودة إلى ديارهم، لكن قوات الاحتلال لاحقتهم في مهجرهم. لكن باحتلال الضفة الغربية عام 1967 تبدد الأمل، ووجد آلاف الفلسطينيين أنفسهم مجبرين على دفع مبالغ مالية لما يسمى "حارس أملاك الغائبين" في حكومة الاحتلال مقابل فلاحة أراضيهم، ومن هؤلاء من يدفع أجرة فلاحة أملاكه أو أملاك موكل بها كالحاج السبعيني الدرابيع. (لم تفلح مساعي هذا الفلسطيني، أسوة بآلاف آخرين، لاستعادة أرضه وإزالتها من قوائم أملاك الغائبين رغم إحضار كل الوثائق المطلوبة، مشيرا إلى أن طمع الاحتلال تمدد ليطال مئات الدونمات منها حيث تلقى فيها مخلفات كسارة للاحتلال). لجوء حمدة البايض قبل 67 عاما، هُجّرت الحاجة حمدة أحمد البايض من بلدتها الفالوجة في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1948، لكنها اليوم تتمسك بحق العودة الذي تقول إنه لا يتحقق إلا بالحرب، وتبدي استعدادها لحمل السلاح دفاعا عن فلسطين. في الطابق الثاني من منزلها في مخيم الفوار جنوب الخليل بالضفة الغربية، حيث يسكن ابنها الناشط في قضايا حقوق الإنسان أمين البايض، تحدثت للجزيرة نت من قلب يعتصره الألم، عن حلاوة الوطن ومرارة اللجوء والمهجر. عادت الحاجة حمدة إلى الفالوجة وخيراتها (فقد كانت أرضنا خصبة وكنا نعيش في نعمة ونأكل مما نزرع: لبن وقمح وعدس، وخيرات البلاد كثيرة.. لقد كانت الفالوجة مركزا تجاريا منظما يأتيها الناس يومي الأربعاء والخميس من كافة المدن). (تستحضر أم أمين اجتماع زوجها المرحوم الحاج أحمد البايض مع وجهاء عشائر الفالوجة لدراسة آلية التصدي للاعتداءات المتكررة ليهود إحدى المستوطنات القريبة. قبلة للدارسين وقالت أيضا إن تلك البلدة كانت قبلة للطلاب والدراسين "فمدارسها كانت تمتد على مساحة واسعة.. منها الأساسية والثانوية، ويدرس فيها طلاب من عشرات القرى والبلدات". أما عن النكبة وذكرياتها، فتستحضر أم أمين اجتماع زوجها المرحوم الحاج أحمد البايض مع وجهاء عشائر الفالوجة لدراسة آلية التصدي للاعتداءات المتكررة ليهود إحدى المستوطنات القريبة. وتضيف: "قرروا جمع التبرعات من البلدة كل حسب طاقته، ثم توجهوا إلى مصر واشتروا حمولة سيارة من السلاح وعادوا بها إلى البلدة، ثم اختاروا للقتال ثلاثة أو أربعة أفراد من كل عشيرة، ثم بدأت العمليات وسقط الشهداء، لكن فارق القوة جعل الغلبة لليهود". وتشير الحاجة حمدة البايض إلى طلب الأهالي المساعدة من الجيش المصري، لكن الأخير أخفق في حماية السكان وظل محاصرا في الفالوجة، يأكل مما يأكل منه أهلها دون إمداد لستة أشهر، حيث تم الاتفاق على مغادرته إلى غزة ومغادرة من يرغب من السكان إلى حيث شاؤوا. تعود أم أمين إلى لحظة مغادرة الفالوجة، فتقول إنها وزوجها نجيا فأعجوبة من المنزل بعد قصف الطيران لمحيطه، موضحة أنها غادرت البيت مسرعة، والتحقت بقافلة من اللاجئين كانت متجهة إلى بلدة الدوايمة، بينما ظل زوجها وآخرون يجمع أمتعتهم للحاق بهم. وصلت الحاجة أم أمين إلى الدوايمة مشيا على الأقدام، وافترشت الأرض وتلحفت ظلال الشجر أسوة بآلاف اللاجئين الفلسطينيين، لكن سرعان ما حط التعب رحاله على جنينها الذي كانت حاملا به في الشهر الثالث، فأسقطته. لم يطل المقام بالحاجة حمدة وعدد من قريباتها في الدوايمة أكثر من ثلاثة أيام حتى هاجمت العصابات الصهيونية البلدة وقتلت كل من صادفته في المساجد والبيوت والأسواق، فكان قرار المغادرة نحو الخليل. وبينما هي وقريباتها في الطريق أرادت (سلفتها) (زوجة شقيق زوجها) إبقاء طفل لها في الطريق من شدة التعب، (لكني تغلبت على تعب الإجهاض وتبادلت أنا وحماتي حمل الطفل). تلقي اللاجئة الفلسطينية على الإنجليز بالمسؤولية عن نكبة الفلسطينيين وهجرتهم، مضيفة أنهم نفذوا حملة تطهير وتجريد للفلسطينيين من كل شيء له علاقة بالسلاح "في ثلاثين سنة نظفوا البلاد من السلاح.. حتى السكاكين كانوا يحبسون الشباب عليها". وبعد مضي عقود على الرحيل، تؤمن أم أمين أن العودة حتمية لكنها لا تكون إلا بالحرب. ورغم تفاؤلها بتحسن وضع العرب حاليا من حيث القوة مقارنة مع زمن النكبة، فإنها تبدو مستاءة لما آلت إليه أوضاعهم وانشغالهم بالحروب البينية. مع تقدم سنها تبدي الحاجة حمدة رباطة جأش وتقول إنها قوية ومستعدة لحمل السلاح والقتال ومجابهة العدو، مطالبة بتسليح الشعب الفلسطيني والتخلي عن خيار المفاوضات (فلن يعطونا اليهود بالمفاوضات شيئا أخذوه بالقوة).