كان الخوف... وكان الدمار... وكان الخراب... وكانت المأساة... وكانت الصواريخ تقصف غزّة وتحوّلها إلى أنقاض... وكنا نحن نشاهد ذلك كلّه على التلفزيون، ولا نفعل شيئا... نحزن... نغضب... وربما نبكي... ولكن لا نفعل شيئا. مرت سنتين من هجوم الصهاينة من الإسرائيليين ومن القادة العرب غزّة، وحوّلوها إلى حطام، وحوّلوا أرواحنا إلى أشلاء، وألقى العالم كلّه باللوم على المقاومة، وكأنّ الاحتلال الصهيوني قضاء وقدر، وأنّ على فلسطين أن ترضخ وترضى وتستسلم وتموت في صمت وبطيء. قبل سنتين صدمتنا تلك الصوّر التي ذكّرتنا بمأساتنا وبخوفنا... ذكرتنا بالأوجاع التي صارت شيئا منا... ذكرتنا بأحلام قديمة تلاشت مع الزمن... وذكرتنا بأننا انتهينا وبتنا حطاما، ورمادا اسود. كيف كانت وجوهنا ونحن نرى مناظر الحرب والإخوان الفلسطينيين يموتون ويُشردون، ويُنكل بهم؟ مثلما تنكل بنا أفكارنا الوجودية التي نحاول عبثا أن نعثر لها على جواب وسط الخراب، ونبقى نبحث، ثمّ نظلّ الطريق، ونهرب من الضوء، ونمضي إلى حيث لا ندري، إلى الظلام والى اللاشيء، فتصدمنا تلك المناظر، وتصدمنا تلك الصور الحزينة وذلك الوجود الذي فقد معانيه، وتلك اللامبالاة القاسية المريرة، فنعود ونتحوّل إلى رماد اسود. من منا لا يزال يذرف الدموع وهو يرى كلّ تلك الصور والمناظر؟ ومن منا يقضي الليل ساجدا يتضرع إلى الله أن ينصرهم على أعدائهم؟ بل ومن منا لا يزال يتوّجع لوجعهم؟ أم أننا ألفنا صور الدمار، وألفنا صور الرجال الذين يبكون بحرقة، وصور النسوة اللائي تُغتصبن وتعذبن، وصور الأطفال الذين يُقتلون أمام كاميرات التلفزيون، وصور الخيانة والتآمر والنفاق، وماتت قلوبنا ودُفنت معها كرامتنا إلى الأبد. الم يعد الفلسطينيون إخواننا حتى ننصرهم؟ او لم يعودوا عربا فيهبّ من يدعي منا العروبة للدفاع عنهم؟ أليسوا مسلمين مثلنا حتى لا نرفع لوائهم؟ أليس بيننا تاريخ مشترك حتى نتخلى عنهم؟ بل أليسوا بشرا لهم حقّ في الحياة حتى نشارك في محاربتهم؟ في كلّ مرّة نصرخ عاليا، ونحمل شعارات نندد بها، وتحزن قلوبنا وتتألم لما يصيب فلسطين والفلسطينيين، لكن نفسها أصواتنا تنادي بالحياة لمن حارب فلسطين، ونفس القلوب تحب من خان الفلسطينيين، ونفس الشعارات نرفعها لتبجيل من كانوا سببا في دمارها. كنا سابقا نعاني الضعف، وصرنا نعاني الجبن والخيانة والنفاق... كانت كرامتنا مهدورة، ثمّ صرنا بلا كرامة... كانت غزة ستنجد بنا، ثمّ صارت تستنجد منا. كنا بشرا يوما ما، وها نحن اليوم نتحوّل إلى خيالات بشر.