الأحبة في الله: بعد أيام قلائل من رحيل شهر رمضان المبارك!! كيف حالكم بعد رمضان؟ فلنقارن بين حالنا في رمضان وحالنا بعد رمضان!! إيه أيتها النفس؟! كنت في أيام... في صلاة وقيام وتلاوة وصيام وذكر ودعاء وصدقه وإحسان وصلة أرحام!. ذقنا حلاوة الإيمان وعرفنا حقيقة الصيام وذقنا لذة الدمعة وحلاوة المناجاة في الأسحار!! كنا نُصلي صلاة من جُعلت قرةُ عينه في الصلاة وكنا نصوم صيام من ذاق حلاوته وعرف طعمه وكنا ننفق نفقة من لا يخشى الفقر وكنا.. وكنا.. مما كنا نفعله في هذا الشهر المبارك الذي رحل عنا!. وهكذا.. كنا نتقلب في أعمال الخير وأبوابه حتى قال قائلنا... يا ليتني متّ على هذا الحال!! يا ليت خاتمتي كانت في رمضان..!. رحل رمضان ولم يمض على رحيله إلا القليل! ولربما عاد تارك الصلاة لتركه وآكل الربا لأكله ومشاهد الفحش لفحشه وشارب الدخان لشربه. فنحن لا نقول: أن نكون كما كنا في رمضان من الاجتهاد. ولكن نقول: لا للانقطاع عن الأعمال الصالحة فلنحيا على الصيام والقيام والصدقة ولو القليل. الوقفة الأولى: ماذا استفدنا من رمضان؟! ها نحن ودعنا رمضان المبارك... ونهاره الجميل ولياليه العطرة. ها نحن ودعنا شهر القرآن والتقوى والصبر والجهاد والرحمة والمغفرة والعتق من النار. فماذا جنينا من ثماره اليانعة وظلاله الوارقة؟! هل تحققنا بالتقوى... وتخرجنا من مدرسة رمضان بشهادة المتقين؟! هل تعلمنا فيه الصبر والمصابرة على الطاعة وعن المعصية؟! هل ربينا فيه أنفسنا على الجهاد بأنواعه؟! هل جاهدنا أنفسنا وشهواتنا وانتصرنا عليها؟! هل غلبتنا العادات والتقاليد السيئة؟! هل... هل... هل...؟! أسئلة كثيرة.. وخواطر عديدة.. تتداعى على قلب كل مُسلم صادق.. يسأل نفسه ويجيبها بصدق وصراحة.. ماذا استفدت من رمضان؟ أنه مدرسة إيمانية... إنه محطة روحيه للتزود منه لبقية العام... ولشحذ الهمم بقيه الغمر... فمتى يتعظ ويعتبر ويستفيد ويتغير ويُغير من حياته من لم يفعل ذلك في رمضان؟! إنه بحق مدرسة للتغيير.. نُغير فيه من أعمالنا وسلوكنا وعاداتنا وأخلاقنا المخالفة لشرع الله - جل وعلا -.. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ... الرعد 11. الوقفة الثانية: لا تكونوا كالتي نقضت غزلها!! الأحبة في الله: إن كنتم ممن استفاد من رمضان... وتحققت فيكم صفات المتقين...! فصُمتم حقاً... وقُمتم صدقاً... واجتهدتُم في مجاهدة أنفسكم فيه...!! فاحمدوا الله واشكروه وأسالوه الثبات على ذلك حتى الممات. وإياكم ثم إياكم... من نقض الغزل بعد غزله. إياكم والرجوع إلى المعاصي والفسق والمجون وترك الطاعات والأعمال الصالحة بعد رمضان.. فبعد أن تنعموا بنعيم الطاعة ولذة المناجاة... ترجعوا إلى جحيم المعاصي والفجر!! فبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان..!! الأحبة في الله: ولنقض العهد مظاهر كثيرة عند الناس فمنها: (1) ما نراه من تضييع الناس للصلوات مع الجماعة... فبعد امتلاء المساجد بالمصلين في صلاة التراويح التي هي سُنة... نراها قد قل روادها في الصلوات الخمس التي هي فرض ويُكّفَّر تاركها!! (2) الانشغال بالأغاني والأفلام.. والتبرج والسفور.. والذهاب إلى الملاهي والمعاكسات!! (3) ومن ذلك التنافس في الذهاب إلى المسارح ودور السينما والملاهي الليلية فترى هناك - مأوى الشياطين وملجأ لكل رذيلة - وما هكذا تُشكر النعم.. وما هكذا نختم الشهر ونشكر الله علىّ بلوغ الصيام والقيام وما هذه علامة القبول بل هذا جحود للنعمة وعدم شكر لها. وهذا من علامات عدم قبول العمل والعياذ بالله لأن الصائم حقيقة.. يفرح يوم فطرة ويحمد ويشكر ربه على إتمام الصيام.. ومع ذلك يبكي خوفاً من ألا يتقبل الله منه صيامه كما كان السلف يبكون ستة أشهر بعد رمضان يسألون الله القبول. فمن علامات قبول العمل أن ترى العبد في حال أحسن من حاله السابق. وأن ترى فيه إقبالاً على الطاعة وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ.. إبراهيم 7. أي زيادة في الخير الحسي والمعنوي... فيشمل الزيادة في الإيمان والعمل الصالح.. فلو شكر العبدُ ربهُ لرأيته يزيد في الخير والطاعة.. ويبعد عن المعصية. الوقفة الثالثة: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين هكذا يجب أن يكون العبد... مستمرا على طاعة الله ثابتا على شرعه مستقيما على دينه لا يراوغ روغان الثعالب يعبد الله في شهر دون شهر أو في مكان دون آخر لا... وألف لا..!! بل يعلم أن ربّ رمضان هو ربّ بقية الشهور والأيام.... قال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَك.. هود 112 وقال:... فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ... فصلت 6. والآن بعد انتهاء صيام رمضان... فهناك صيام النوافل: (كالست من شوال) (والإثنين الخميس) (وعاشوراء) (وعرفة) وغيرها. وبعد انتهاء قيام رمضان فقيام الليل مشروع في كل ليلة: وهو سنة مؤكدة حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على أدائها بقوله: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ومقربة إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم مطردة للداء عن الجسد)رواه الترمذي وأحمد. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل) وقد حافظ النبي - صلى الله عليه وسلم - على قيام الليل ولم يتركه سفراً ولا حضراً وقام - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد ولد آدم المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر حتى تفطّرت قدماه فقيل له في ذلك فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) متفق عليه. وقال الحسن: ما نعلم عملاً أشد من مكابدة الليل ونفقة المال فقيل له: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره. اجتناب الذنوب والمعاصي: فإذا أراد المسلم أن يكون ممن ينال شرف مناجاة الله _ تعالى- والأنس بذكره في ظلم الليل فليحذر الذنوب فإنه لا يُوفّق لقيام الليل من تلطخ بأدران المعاصي. قال رجل لإبراهيم بن أدهم: إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟ فقال: لا تعصه بالنهار وهو يُقيمك بين يديه في الليل فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف والعاصي لا يستحق ذلك الشرف. وقال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد: إني أبيت معافى وأحب قيام الليل وأعِدّ طهوري فما بالي لا أقوم؟ فقال الحسن: ذنوبك قيدتْك. وقال رحمه الله: إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل وصيام النهار. وقال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فأعلم أنك محروم مكبّل كبلتك خطيئتك. وقيام الليل عبادة تصل القلب بالله _ تعالى- وتجعله قادراً على التغلب على مغريات الحياة الفانية وعلى مجاهدة النفس في وقت هدأت فيه الأصوات ونامت العيون وتقلب النّوام على الفرش. ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة وسمات النفوس الكبيرة وقد مدحهم الله وميزهم عن غيرهم بقوله تعالى: (أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب). والآن بعد أن انتهت (زكاة الفطر): فهناك الزكاة المفروضه وهناك أبواب للصدقة والتطوع والجهاد كثيرة. وقراءة القرآن وتدبره ليست خاصة برمضان: بل هي في كل وقت. وهكذا.... فالأعمال الصالحة في كل وقت وكل زمان..... فاجتهدوا أيها الأحبة في الله في الطاعات.... وإياكم والكسل والفتور. فالله... الله في الاستقامة والثبات على الدين في كل حين فلا تدروا متى يلقاكم ملك الموت فاحذروا أن يأتيكم وأنتم على معصية. الوقفة الرابعة: عليكم بالاستغفار والشكر أكثروا من الاستغفار... فإنه ختام الأعمال الصالحة (كالصلاة والحج والمجالس) وكذلك يُختم الصيامُ بكثرة الاستغفار. كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار: يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة وقال: (قولوا كما قال أبوكم آدم: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين). وكما قال إبراهيم: (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين). وكما قال موسى: (ربي إني ظلمت نفسي فأغفر لي). وكما قال ذو النون: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين). أكثروا من شكر الله - تعالى - أن وفقكم لصيامه وقيامه. فإن الله - عز وجل - قال في آخر آية الصيام وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون البقرة 185. والشكر ليس باللسان وإنما بالقلب والأقوال والأعمال وعدم الإدبار بعد الإقبال. الوقفة الخامسة: هل قُبِل صيامكم وقيامكم أم لا؟؟ إن الفائزين في رمضان كانوا في نهارهم صائمون وفي ليلهم ساجدون بكاءٌ خشوعٌ وفي الغروب والأسحار تسبيح وتهليل وذكرٌ واستغفار ما تركوا باباً من أبواب الخير إلا ولجوه ولكنهم مع ذلك قلوبهم وجله وخائفة...!! لا يدرون هل قُبلت أعمالهم أم لم تقُبل؟ وهل كانت خالصة لوجه الله أم لا؟ فلقد كان السلف الصالحون يحملون هّم قبول العمل أكثر من العمل نفسه قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ المؤمنون 60. هذه هي صفة من أوصاف المؤمنين أي يعطون العطاء من زكاة وصدقة ويتقربون بأنواع القربات من أفعال الخير والبر وهم يخافون أن لا تقبل منهم أعمالهم وقال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): كونوا لقبول العمل أشد اهتماما من العمل ألم تسمعوا قول الله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين. (المائدة:27) َ فمن منا أشغله هذا الهاجس!! قبول العمل أو رده في هذه الأيام؟ ومن منا لهج لسانه بالدعاء أن يتقبل الله منه رمضان؟ فلقد كان السلف الصالح يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبل منهم... نسأل الله أن نكون من هؤلاء الفائزين. من علامات قبول العمل: 1) الحسنة بعد الحسنة فإتيان المسلمين بعد رمضان بالطاعات والقُربات والمحافظة عليها دليل على رضا الله عن العبد وإذا رضي الله عن العبد وفقه إلى عمل الطاعة وترك المعصية. 2) انشراح الصدر للعبادة والشعور بلذة الطاعة وحلاوة الإيمان والفرح بتقديم الخير حيث أن المؤمن هو الذي تسره حسنته وتسوءه سيئته. 3) التوبة من الذنوب الماضية من أعظم العلامات الدالة على رضا الله _ تعالى-. 4) الخوف من عدم قبول الأعمال في هذا الشهر الكريم!! 5) الغيرة للدين والغضب إذا انتهكت حُرمات الله والعمل للإسلام بحرارة وبذل الجهد والمال في الدعوة إلى الله. الوقفة السادسة: احذروا من العجب والغرور والزموا الخضوع والانكسار للعزيز الغفار: الأحبة في الله: إياكم والعجب والغرور بعد رمضان! ربما حدثتكم أنفسكم أن لديكم رصيد كبير من الحسنات. أو أن ذنوبكم قد غُفرت فرجعتم كيوم ولدتكم أمهاتكم. فما زال الشيطان يغريكم والنفس تلهيكم حتى تكثروا من المعاصي والذنوب. ربما تعجبكم أنفسكم فيما قدمتموه خلال رمضان... فإياكم ثم إياكم والإدلال على الله بالعمل فإن الله -عز وجل - يقول: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ المدثر 6. فلا تَمُنّ على الله بما قدمتم وعملتم ألم تسمعوا قول الله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ الزمر 47. فاحذروا من مفسدات العمل الخفية من (النفاق _ والرياء _ والعجب). اللهم لك الحمد على أن بلغتنا شهر رمضان اللهم تقبل منا الصيام والقيام وأحسن لنا الختام اللهم اجبر كسرنا على فراق شهرنا وأعده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة واجعله شاهداً لنا لا علينا اللهم اجعلنا فيه من عتقائك من النار واجعلنا فيه من المقبولين الفائزين. والله سبحانه أعلم... وأستغفر الله من أي زلة أو خطأ أو نسيان.