بقلم: إسماعيل بوزيدة* العمران هو البيئة المادية التي يصنعها الإنسان ويبنيها وذلك المكون الأساسي في الحياة وله من الأهمية القصوى ما يجعله يمثل المجال والمحيط والواقع الذي نعيش في فلكه وفي ظله حيث في داخل المجال العمراني يمارس الإنسان حياته وتفاعله ونموه وقِدم العمران من قِدم وجود الإنسان على سطح الأرض وتطورهما كان جنبا إلى جنب على مدى العصور ومن هنا اكتسبت الهندسة المعمارية أهميتها منذ التاريخ القديم إلى عصرنا الحالي فلا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نفصل بين التقدم الحضاري للأمم وتطورها العمراني فالأمران مرتبطان أيما ترابط بل إن ثراء وتنوع المجال العمراني وقوته في كل بلاد هو دليل على التقدم والحضارة والإرث المعماري الذي تركته الحضارات القديمة من إغريقية وفرعونية ورومانية وغيرها هو أكبر دليل على مدى تطور هذه الحضارات وازدهارها بل هو دليل على تقدم علمي وتفكيري لدى إنسان هذه الحضارات القديمة. في الجزائر الغنية بمناطقها وإرثها وثقافتها المتنوعة برزت عدة أشكال وطرازات معمارية محلية وتأسست الكثير من المدن وبنيت الكثير من المنشآت من واد مزاب إلى تيهرت إلى الأوراس وبشار والقصبة العتيقة إلى قصور القنادسة إلى القبائل وقسنطينة كل هذه المناطق وغيرها كثير شهدت نشوء هندسات معمارية وأنماط عمرانية متنوعة وكل الدراسات أشارت إلى مدى العمق الذي بنيت على أساسه هذه النماذج المعمارية ومدى النضوج الفكري الذي ساهم في إنتاجها حيث كانت متلائمة مع المكان والزمان والإنسان المواكب لها وكانت تمثل أروع نموذج للهندسة المعمارية المستدامة التي يسعى العالم حاليا إلى تطبيقها لأنها المنقذ البيئي لهذا العالم مما يشهده من نزيف وترهلات وأعراض مرضية وتلوث باختصار فإن الهندسة المعمارية المحلية في الجزائر لها جذور عريقة وهذا لم يكن حائلا بأن تتأثر بمختلف التيارات والطرازات المعمارية التي عاصرتها بل إنها أثرت وتأثرت وأخذت من كل المشارب والمنابع خاصة وأن حضارات كثيرة مرت على الجزائر وكلها حملت معها فكرها المعماري وأساليبها ولكن مشكلة العمران في الجزائر بالعموم والهندسة المعمارية بالخصوص لم تكن في الماضي ولا في التاريخ بل مشكلاتها الكثيرة والمتعددة بدأت منذ فجر الاستقلال وإلى يومنا هذا وحتى في العهد الاستعماري كان العمران الخاص بالمعمرين في أحسن أحواله وكانت الهندسة المعمارية تتطور وكان المهندسون المعماريون يشرفون وينظمون ويخططون لكل إنجاز فتأسست كبريات المدن في العهد الاستعماري بطرق فنية جيدة على الطراز الأوروبي حيث تم مراعاة الجانب الجمالي والفني والوظيفي في هذه المدن وكل منشآتها ثم فجأة وبعد الاستقلال توقف هذا النموذج وهذا التخطيط وتركت المدن لتتوسع بشكل فوضوي ودون أي هوية معمارية ودون تنظيم وشيئا فشيئا بدأت العشوائيات في الظهور والبيوت الفوضوية في التكاثر على حواف المدن ومن هناك بدأت المعضلة المعمارية في الجزائر في الظهور والتطور والإستعصاء فلا نحن استكملنا بناء مدننا على الطراز القديم ولا نحن قمنا بالتجديد وتبني هندستنا المحلية فقط تركنا الأمر يسير بدون تنظيم وتخطيط وبدون رقيب. فوضى عمرانية جامعات كثيرة تدرس الهندسة المعمارية وتكوين مستمر للمعماريين ومكاتب هندسية للدراسات ومصالح تقنية ومديريات للتعمير والبناء ومقاولات وشركات للبناء كل ذلك لم يكن مجديا لمواجهة الفوضى التعميرية المتفاقمة ولم ينجح في الحفاظ على الهوية المعمارية للجزائر بل إن هذه الهوية ضاعت وفقدت مع مرور الزمن فعلى سبيل المثال لو ألقينا نظرة على مدينة الجزئر العاصمة أو غيرها من كبريات المدن الجزائرية فإننا نجدها متكونة من جزئين جزء قديم متوارث من العهد الاستعماري له هوية وطراز معماري أوروبي يسهل التعرف عليه وقراءته وجزء حديث مختلط ليس له أي نمط أو طراز أو مخطط يبين هويته بل هو في الحقيقة جزء وظيفي يفتقد للمسة الفنية والجمالية لأنه عشوائي. العمران جانب مهم من جوانب تطور الأمم وتقدمها وواجهة حضارية لكل أمة ولكن للأسف في الجزائر لم يتم الاهتمام بهذا الجانب منذ البداية ولم يتم التحكم بزمام الأمور منذ الوهلة الأولى للاستقلال وهو ما أدى لتراكم الأزمة والدخول في مأزق فكيف سنتمكن من تنظيم وتهيئة مدينة لم يتم إنشاؤها وفق مخطط أو تنظيم ودون بنى تحتية أساسية وشبكات ضرورية؟ وكل الإصلاحات والتهيئة التي نقوم بها الآن هو مجرد ترقيع لن يغير في الصورة شيئا لكن الحل الذي كان يمكن انتهاجه غداة الاستقلال هو اللجوء إلى تأسيس مدن جديدة تماما وهي نظرية معمارية مشهورة ومعروفة تعرف ب(nouvelle ville) ومثل هذه المدن الجديدة تجعلنا نتفادى تعميق الأزمة العمرانية ولكن للأسف حتى هذا الحل لم يتم اتباعه رغم أنه حل واقعي وناجح وحاليا نعيش في بعض المدن أقل ما يقال عنها إنها تجمعات بشرية فوضوية بعض هذه المدن هي في الحقيقة مراقد لا تتوفر على أي منشآت وهياكل ضرورية أو كمالية وبنى ترفيهية بل الأدهى من ذلك قد تجد مدنا كثيرة لا تتوفر حتى على حدائق ومساحات خضراء وأماكن عامة ومساحات لألعاب الأطفال وهذا بالفعل يشكل أزمة عاتية ومعضلة كبيرة جدا مدن تكتسحها الخرسانة والإسمنت وطرقها ترابية وشبكاتها التحتية فوضوية ومهترئة ومعطلة وحتى الصرف الصحي يسير فقط عشوائيا كل ذلك يشكل أزمة ومشكلة كبرى تتطلب اهتماما عاجلا دون تأخير كل هذه المشاكل الكثيرة تسببنا فيها بإهمالنا للجانب التعميري و العمراني في مدننا وبسبب غياب التخطيط الاستباقي ونحن حاليا ندفع ثمن ذلك ومازالت أجيال كثيرة ستدفع الثمن فالبيئة التي يعيش فيها الإنسان لها تأثير كبير على نشوئه وتكوينه وشخصيته وطريقة تفكيره فكيف ستكون هذه الأجيال التي تعيش في مدن أقل ما يقال عنها إنها محتشدات وكيف سينشأ الطفل في بيئة تحرمه حتى من الأشجار والنباتات والإخضرار ومن مساحات اللعب والترفيه ومدن تحرمه من تنفس الهواء النقي بسبب الأتربة والغبار وغياب تعبيد الطرق إنها أزمة كبيرة وعميقة وقد لا تكفينا سنوات لعلاجها هذا إذا كانت هناك أصلا إرادة حقيقية لعلاجها. لماذا؟ الهندسة المعمارية في الجزائر عانت من الإهمال والتهميش وكانت ضحية لظروف كبيرة أولها غياب الإرادة السياسية العليا في التخطيط والتأسيس وضعف الرقابة صحيح لم تكن الإمكانيات في أوقات كثيرة تسمح بإنجاز ما يسر العين وأزمات كثيرة مرت بها الجزائر كانت خلالها الأولوية لأشياء أخرى غير العمران والتعمير ولكن غياب التخطيط والتنظيم خطأ فادح له تبعات خطيرة فتخطيط مدينة وتنظيمها ومراقبة تطورها على الأقل سيجنبنا مشاكل كثيرة صحيح ليست تحتوي على معالم وناطحات سحاب لكنها منظمة وبشوارع وبنى تحتية وشبكات ويمكننا حين تتوفر الظروف والإمكانيات إثراؤها وتعزيزها. في كل الأحوال فإن الحديث عن العمران والهندسة المعمارية في الجزائر حديث طويل ذو شجون والتطرق إلى مشاكل هذا القطاع المهم يتطلب دراسات مطولة وكتبا واختصاصيين ففي الوقت الذي يخطو العالم خطوات جبارة في المجال العمراني ويطور أساليبه ووسائله ومواده ويعتمد أكثر فأكثر على التكنولوجيا وفي الوقت الذي نرى فيه دولا نامية على غرار دول شرق آسيا والخليج العربي تؤسس حواضر عمرانية ضخمة وتبدع في إنجاز المعالم وتنافس الدول العظمى في ارتفاعات المباني مستغلة مداخيلها وإمكانياتها للارتقاء بالجانب العمراني والتعميري في هذا الوقت بالذات مازلنا في الجزائر نتخبط في مشاكل بدائية وندور في دائرة مفرغة ونعجز حتى عن تنظيم مدينة وبنائها بشكل محترم ومازلنا نعاني من هشاشة الإنجاز وضعف الدراسات الهندسية وسطحيتها وعدم مواكبتها للتقنيات والأساليب ومواد الإنجاز الحديثة وتبقى إشكاليات هذا القطاع مطروحة إلى أجل غير مسمى وربما لن تكفينا سنوات طويلة لعلاجها