قال لي أحد القرّاء إنّ كتاباتي لا تخلو من سوداوية، وأني كثير التشاؤم وأرى كلّ شيء سيئا، وأنه لا يعجبني العجب، وفكّرت في قول هذا القارئ كثيرا، ورأيت أنّ معه حق، ولما نظرت من حولي وجدتني أعترف أنني أكاد أكون أسعد مخلوق على وجه الأرض· فإذا تمّ تصنيف الجزائريين منذ مدّة على أنهم خامس أو سادس، لم أعد أذكر، أسعد شعب عربي، فلا بدّ أنهم صاروا اليوم الأسعد على الإطلاق، وأنا واحد منهم· كيف لا أسعد وقد قررت وزارة الحليب أن توّفر الحليب للجميع، فيكون حينها بإمكاني أن أشرب كأس حليب كلّ صباح، وليت وزارة الحليب هذه تحدث زميلتها وزارة الخبز عن أزمة الفرينة، فتحلها لنا بإذن الله وتفعل وزارة السكر ووزارة الزيت ووزارة العجائن ووزارة ووزارة··· ليتهم يفعلون نفس الشيء، حتى يحولوننا إلى أسعد مخلوقات في تاريخ البشرية· لا أدري كيف قدّر هؤلاء الفلكيون أو الفيزيائيون أو النفسانيون أو السياسيون سعادة الشعوب، وعلى أيّ أساس، لكني أحسّ أنهم لو قاسوا سعادتي اليوم بكيس الحليب لقلدوني وساما، ولقلدوا القائمين على أزمة الحليب وما شابهها أوسمة، لجعلنا أسعد الكائنات، وأنهم استطاعوا أن يُنسوننا كلّ مشاكلنا الاجتماعية، متبعين سياسة تشبه ما قاله مغني الراي: هبط النيفو يطلع المورال· ولهذا خرج مواطنو تيبازة إلى الشوارع نهاية الأسبوع الماضي، ليظهروا ذلك الفرح، مثلما خرج من قبلهم كثيرون وصاروا يحتفلون حتى بدون سبب، ربما لأنّ فرح سنوات تراكم، وصار لا بدّ من أن نعبّر عنه بأيّ شكل· لا حديث للمواطنين، رجالا ونساءً، كبارا وصغارا، مثقفين وجاهلين إلاّ عن هذه الأزمات التي صارت شغلهم الشاغل، ولا يتحدثون إلاّ عن ارتفاع الأسعار، وصار العامل يترك عمله مبكرا حتى يعثر على كيس حليب، أو ينتظر الساعات في طابور المخابز، أو يجلس مساء، وقبل أن يخلد إلى النوم يعدّ الأموال التي تبقت له من أجرته الشهرية، وفيما إذا كانت تفي بالغرض، وتحفظ له ما تبقى له من عزته وكرامته إلى نهاية الشهر· وإن كنتُ لا أنسى ما فعله أحد أبناء الحي قبل أسابيع، أي في عزّ أزمة الحليب وكنا جالسين عندما مرّ من أمامنا يحمل كيسي حليب بيديه، ثمّ وقف في منتصف الطريق، فرفع الكيسين عاليا وراح يصرخ بأعلى صوته: لقد حصلت على الحليب، لا أحد فعلها في الحي غيري، فضحكنا من تصرفه ضحكات مريرة، أمّا هو فاقترب منا مزهوا بإنجازه، وقال ساخرا: الرجل في هذا العصر هو القادر على الحصول على كيس حليب· أجل، لقد صارت صغائر الأمور كلّ همّنا، حتى طغت على فكرنا، بل تلاشت واختفت طموحاتنا وأحلامنا وكلّ شيء جميل فينا، وصرنا سرابا وعدما نركض باحثين عن أنفسنا في الظلام الذي يلفنا ويحيط بنا، ويجعلنا لا نرى حتى خيالاتنا، بل أصبحنا نخشاها ونخشى ما هو آت·