بقلم: علي الصالح- هل يمكن أن يكون كل ما تعلمناه في الصغر عن تاريخنا وكرمنا وشهامتنا وبطولاتنا وانتصاراتنا ومكارم أخلاقنا.. هل يمكن أن يكون تهويلا ومبالغا فيه إذا أحسنا الظن أو كذبا وتزييفا وخداعا إذا أسأنا الظن؟ هل يمكن أن يكون كذبة من كثر ما رددناها صدقناها؟.. أقول قولي هذا بسبب حالة الصمت القاتل التي يعيشها العالم العربي بأسره بلدانا وحكومات وأفرادا.. حالة صمت كصمت القبور مما يجري في بعض مركباته الجغرافية من فظائع ومجازر ومذابح على أيدي أنظمة وعصابات مسلحة منذ اندلاع ما يسمى بالربيع العربي..بالتأكيد يتناقض مع كل ما تعلمناه عن نخوة العرب وشهامتهم وكرمهم وعطائهم ومكارم أخلاقهم.. صامتون حالة صمت إزاء الدماء التي هدرها ويهدرها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزةوالضفة الغربية وكل فلسطين. فالعدو الاحتلالي شن حربا متواصلة على مدى 51 يوما استخدم فيها كل أنواع الأسلحة الأمريكية التي تزخر بها ترسانته.. 51 يوما من القتل والتدمير والغطرسة راح ضحيتها الآلاف بين قتيل وجريح.. عائلات بكاملها أبيدت في قطاع غزة وأسر باكملها حرقت في منزلها في الضفة الغربية... حتى المظاهرات التي كانت تخرج على استحياء غابت عن المشهد... كأن عالمنا يعيش حالة من التخدير الكلينيكي. صامتون صمت القبور إزاء عمليات تهويد أقدس المقدسات الإسلامية الحرم القدسي الشريف الذي يضم بين جنباته.. المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وقبة الصخرة المشرفة التي عرج منها الرسول محمد إلى السماء. صامتون صمت القبور أمام الجرائم والمجازر التي يعجز اللسان عن وصفها وأعمال القتل والتقتيل والتهجير والتطهير العرقي التي يرتكبها نظام الأسد ضد الشعب السوري بجميع طوائفه واثنياته. براميل متفجرة وصواريخ فراغية وأسلحة كيميائية ضد أناس لا حول لهم ولا قوة.. وعصابات إجرامية إرهابية أخرى ركبت موجة الثورة السورية الحقيقية فقتلت وعربدت بإسم الدين والثورة وهما والشعب السوري ضد الطاغية والطغاة منهم براء .. صامتون وهم يشاهدون سوريا الوطن تتقطع أوصاله أمام أعيننا ولا حياة لمن تنادي. صامتون صمت القبور وهم يَرَوْن تاريخ سوريا وحضارتها تدمر حجرا بعد حجر.. ونسيجها المجتمعي يتفسخ وشعبها يتشرد وأطفالها ونساؤها تائهون في بقاع العالم يغرقون في بحوره وهم يبحثون عن ملجأ آمن لأطفالهم لم يجدوه بين أشقائهم العرب لا بحثا عن قوت أو ثراء. صامتون أمام المذابح التي يرتكبها تنظيم الدولة وغيره الكثير من الميليشيات الطائفية الرسمية منها وغير الرسمية بإسم الإسلام والمسلمين وهم بريئون منهم براءة الذئب من دم يوسف. صامتون إزاء ما يحدث في اليمن من أعمال ذبح للشعب سواء كان على أيدي الحوثيين أو طائرات تحالف (الأشقاء). صامتون إزاء ما يحدث في ليبيا من حرب قبائلية لا إسلامية. وإذا بقي حالنا على حاله هذا فإن النار ستلحق بالجميع ولن تستثني أحدا. اعتبروا من التاريخ علمونا في الصغر وفي كتب التاريخ أن العربي كريم معطاء بابه مفتوح لا يغلق في وجه طارقه.. ولا أدل على ذلك من قصة حاتم الطائي المعروفة.. فقد حكي عن حاتم الطائي أن أحد قياصرة الروم بلغته أخبار حاتم في الكرم فاستغرب ذلك. وكان قد بلغه أن لحاتم فرسا من كرام الخيل عزيزة على قلبه. فأرسل إليه حاجبه يطلب منه الفرس هدية له ويريد بذلك أن يختبر كرمه وجوده. فلما دخل الحاجب ديار حاتم سأل عنه حتى دخل عليه فاستقبله ورحب به وهو لا يعلم أنه حاجب القيصر. وكانت مواشي حاتم وأغنامه حينئذ في المراعي فلم يجد إليها سبيلا ليقدم لضيفه أحدها أو أكثر فنحر الفرس وأضرم النار ثم دخل على ضيفه يحادثه فأعلمه الضيف بأنه رسول القيصر وقد حضر يستميحه الفرس فساء ذلك حاتما. وقال ليتك أعلمتني قبل الآن لأني قد نحرتها لك إذ لم أجد غيرها بين يدي أقدمه إليك. فعجب رسول القيصر من سخائه وقال (والله لقد رأينا منك أكثر مما سمعنا عنك). فأين نحن من هذا الكرم والسخاء والعطاء الذي تتحدث عنه رواياتنا؟ اللاجئون السوريون يتجرعون الذل والجوع والإهانة في مخيمات الجوار. وأما مكارم الأخلاق فيطبقها بعض الاثرياء العجزة من العرب بزيارة مخيمات اللجوء السوري لا بحثا عن طفل يتيم يتبنوه أو من أجل تقديم صدقة الزكاة أو لتقديم مساعدة عينية إنما بحثا عن طفلة يشتريها هذا الثري أو ذاك لتصبح جارية لديه ليثبت ذكوريته المفقودة. علمونا أيضا في الصغر أن العربي شهم وصاحب نخوة لا يقبل ضيما ينصر المظلوم ويلبي نداء المستغيث به.. وقرأنا في كتب التاريخ أن أمير المؤمنين المعتصم حرك جيشا عرمرما عندما جاء إلى مسامعه أن امرأة مسلمة اعتدي عليها في عمورية الرومية فصرخت وامعتصماه. وحسب إحدى الروايات وهي كثيرة ولكن تؤدي إلى المعنى نفسه فأن رجلا قدم للمعتصم ناقلا له حادثة شاهدها قائلا: يا أمير المؤمنين كنت بعمورية فرأيت امرأة عربية في السوق مهيبة جليلة تسحل إلى السجن فصاحت في لهفة: (وامعتصماه وامعتصماه). فأرسل المعتصم رسالة إلى أمير عمورية قائلا له: من أمير المؤمنين إلى كلب الروم أخرج المرأة من السجن وإلا أتيتك بجيش بدايته عندك ونهايته عندي. فلم يستجب الأمير الرومي. وانطلق المعتصم بجيشه ليستعد لمحاصرة عمورية فمضى إليها فلما استعصت عليه قال: اجعلوا النار في المناجيق وارموا الحصون رميا متتابعا ففعلوا فاستسلمت عمورية ودخلها المعتصم على رأس جيشه فاتحا. فبحث عن المرأة فلما حضرت قال لها: هل أجابك المعتصم قالت نعم. فصراخ أطفال ونساء فلسطين ونداءات واستغاثات نساء وأطفال سوريا والعراق واليمن لا تجد صدى وتقع على آذان صماء ولا تجد معتصما يستجيب لها.. وأصبح قادة العرب بقدرة قادر (صُم بكم عمي فهم لا يفقهون .. وهم حقا صُم بكم وعمي وعاجزون. ولكن هذه النداءات واستغاثات نساء وأطفال سوريا نجحت في اختراق جدار الصمت العربي لتجد الصدى في بلاد (الصليبيين) فتحركت لديهم المشاعر الإنسانية ففتحوا أبواب منازلهم لاستقبال اللاجئين وأبدوا الاستعداد لاقتسام المنازل واللقمة معهم. لن أتحدث عن الأنظمة الغربية فهي في الأساس سبب البلاوي والمصائب التي عشناها سابقا ونعيشها اليوم. وهي مهما فعلت وقدمت فلن يغفر لها. ورغم ذلك فإن 17 دولة تفتح أبوابها أمام اللاجئين السوريين حسب ما أعلنه رئيس المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة انطونيو غوتيريس. ولكن لا يمكن إلا أن نحني إجلالا وتقديرا لزعيمين اثنين فتحا أبواب قصريهما أمام اللاجئين لا سيما السوريين.. الأول رئيس يوروغواي خوسيه بيبي موخيكا الذي فتح أبواب منتجعه الصيف لاستقبال مئة لاجئ. والثاني رئيس وزراء فنلندا يوها سيبيلا الذي أعلن الأسبوع الماضي أنه سيفتح منزله الخاص لاستضافة طالبي اللجوء داعيا الشعب الفنلندي إلى التضامن مع الباحثين عن أوطان بديلة لتلك التي دمرتها الحروب. ونقلت قناة محلية تصريحات قوله إنه سيفتح أبواب منزله الواقع في منطقة كيمبلي بشمال البلاد لاستضافة طالبي اللجوء بدءا من العام الجديد مبديا أمله في أن تكون فنلندا بلدا يحتذى به. وأخيرا أردد تحويرا لقصيدة بلاد العرب أوطاني من الشام لبغداد: بلاد الغرب أوطاني.. من النرويج لإسباني ومن مالطا إلى روما.. إلى برلين ألماني فلا وطنٌ يجمّعنا... ولا سلطان يقمعنا لسانُ الهجرة يجمعنا.. بماريو أو بجولياني لنا مدنية دهست.. وأرزاق وقد سرقت ببحر مركبٌ غرقت.. على حدود طلياني فهبو يا بني الغربي .. إلى الإنقاذ والسحب وغنوا يا بني العرب.. بلاد الغرب أوطاني