ربما ما كان ليثير انتباه الكثيرين لو شارك في معرض جماعي للفنانين التشكيليين المحليين؛ فالمواهب في هذا المجال كثيرة، ومدرسة الفنون الجميلة بالجزائر وملحقاتها ببعض الولايات تخرِّج سنوياً الكثير منهم، ومن الصعب البروز وسط هذا العدد الكبير من التشكيليين، ولكن اختيارَه شارعاً عاماً في قلب الجزائر العاصمة لممارسة فنه جعل كل من يمر به ينتبه إليه، وقد يتوقف عنده للحظات يتأمل رسومه ولو بدافع الفضول. مرْسمٌ في الهواء الطلق اسمه كريم بونادي، في الخامسة والأربعين من العمر، خرِّيج معهد الفنون الجميلة بهمبورغ الألمانية سنة 1991 بعد 3 أعوام من الدراسة، اختار شارع الشهيد العربي بن مهيدي قرب "البريد المركزي" بقلب الجزائر العاصمة، لينصِّب "مرْسمه" في الهواء الطلق ويشرع في تحويل شخصيات الصور الفوتوغرافية إلى رسوم باليد فتخرج بورتريهات مطابقة لها في الملامح ولكن بشكل آخر يراه الشبان المتحلِّقون حوله أفضل بكثير. قبل أن يسرد لنا تجربته وبدايته الأولى مع الرسم التشكيلي، فضل أن يبدأ بالحسرة على وضعيته، وقال إنه كان يتمنى لو زرناه في معرض خاص بلوحاته التشكيلية المختلفة التي ينطلق فيها بحرِّية ليرسم ما يشاء ويبدع ما يحلو له من أشكال ورموز في لوحات تحمل دلالات عديدة، أما هنا فهو يقوم ب"عمل آلي" يعيد من خلاله رسم الوجوه كما يراها في الصور الفوتوغرافية بشكل جاف لا إبداع فيه ولا لمسات إضافية، وهو الرأي الذي لم يعجب إحدى زبوناته التي تدخلت لتقول إن القدرة على إعادة رسم هذه الصور باليد "إبداع في حدِّ ذاته وهو أمرٌ غير متاح لكل من هب ودب، بل للمتذوقين للرسم والفن التشكيلي فقط". وعن أسباب اختياره هذه "المهنة" ما دام يراها تقيد روحه الإبداعية، أجابنا بأنها "لقمة العيش"، فهو في هذه الوضعية يمارس "عملاً" أو "مهنة يعتاش منها، أكثر مما يمارس الفن". موهبة مبكرة يقول بونادي إن موهبته ظهرت في وقتٍ مبكر من خلاله رسومه الصغيرة في المدرسة والتي أعجبت معلميه وأساتذته، أما أولى لوحاته فجاءت في السادسة عشر من عمره، ويقول إنها "مليئة بالعفوية والبساطة، لكنها كانت جميلة لافتة للانتباه، وبعدها التقيت أحد الفنانين التشكيليين فعلمني كيفية رسم لوحات ثلاثية الأبعاد، ومن ثمة كانت انطلاقتي الحقيقية، إذ بدأتُ أحترف الرسم التشكيلي، ثم تعمقت تجربتي بعد الانضمام إلى معهد همبورغ الألماني للفنون التشكيلية في 1988 حيث صقلتُ موهبتي هناك". قبل تخرجه في معهد همبورغ، بدأ بونادي يقيم معارضَ في همبورغ وهلسنكي ثم ميلان وتونس لإبراز لوحاته التشكيلية التي تنتمي إلى مدارس مختلفة ومنها الانطباعية ونصف الواقعية والتجريدية، والمفارقة انه يميل أكثر إلى المدرسة التجريدية ولكنه الآن يعمل في إطار المدرسة الواقعية "لأن المدرسة التجريدية لا تُؤكِل خبزاً". كما طاف الفنان عدداًُ من الدول لاحتراف رسم البورتريهات، ومنها ألمانيا وإيطاليا قبل أن يعود إلى الجزائر في 1992 وينقل "مهنته" إلى عدة مناطق وشوارع بها. اختلافٌ حول الأسعار حينما كان بونادي يتحدث عن تجربته، كان العديد من الشبان والفتيات يتحلقون حوله يتأملون البورتريهات التي أنجزها ويسألونه عن أسعارها، وبدا لنا أن أغلبهم يعتبر الأسعار غالية فهي تتراوح بين ألفيْ دينار لبورتريه بحجم 32* 50 سنتمتراً، و4 آلاف دينار لآخر بحجم 50* 55 سنتمتراً، بينما يعتبر بونادي أن الأسعار "مناسبة جدا، بل إنها بخسة مقارنة بأسعارها في أوربا حيث يبلغ ثمن البورتريه في ايطاليا 70 أورو، أي ما يعادل نحو أربعة أضعاف سعره في الجزائر، كما أنه يعتبر "مهنته" هذه "مُتعبة تتطلب الكثير من الانتباه والتركيز على التفاصيل والجزئيات، وهي ليست يسيرة كما يتوهم البعض وتتطلب وقتاً قد يصل إلى يوم بأكمله لانجاز بورتريه واحد، ثم إن هناك أعباء المعيشة وكذا كراء الورشة أو المرسم". ويتخذ بونادي من هذه الورشة مكاناً لنومه منذ سنوات ليعمل فيها بعيداً عن الصخب في البيت العائلي الذي تركه ليتفرغ لبورتريهاته في لياليه أيضاً، وبخاصة حينما تهطل الأمطار ويتعذَّر بعدها نصب "ورشته" في الهواء الطلق، علماً أنه أعزب برغم بلوغه سن ال45، ويبدو أنه فضل أن "يتزوج" فنه ولوحاته. وعن الفرق بين العمل في أوربا والجزائر يقول بونادي إن الأوربيين يجلسون دون ملل أو قلق أمام الفنانين لانجاز بورتريهاتهم ولا يقبلون منحهم صورهم لإعادة رسمها مثلما يحدث بالجزائر، إذ يتعذر على الفتيات الجلوس مطولاً في شارع أمام الملأ لرسمهن. ويضيف بونادي إن البيئة الثقافية في أوربا أفضل مما هي عليها في الجزائر، فهناك "ينظر الأوربيون إلى الثقافة كجزء من استهلاكهم اليومي، كالخبز تماماً، بينما ألقى أحياناً بعض السخرية من شبان لا يقدِّرون هذا الفن ويعتبرون انه لا يختلف عن طاولة بيع السجائر مثلاً". ومع ذلك أبدى العديدُ من الشبان تقديرهم الكبير لبونادي فقال عنه تِوَرقِوين سفيان إن "رسومه جيدة وراقت لي وأتمنى أن تدعمه وزارة الثقافة ليفتح مدرسة لتعليم الأطفال التربية َ الجمالية"، بينما قال كمال نين "لوحاته في القمة وأنا شخصياً أجد جاذبية خاصة وروحاً في البورتريهات أكثر من الصور الفوتوغرافية الجافة".