بقلم: معن البياري* ليست منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) جهازاً بيروقراطياً دولياً معنياً بمشاغل محدّدة فقط وإنما هي أيضاً في ما يخصّنا نحن العرب ساحة حرب سياسية وثقافية شرسة مع إسرائيل لم تتوقف جولاتها يوماً. وبهذا المعنى فإن الاشتباك مع دولة العدو الصهيوني في اليونسكو يتطلب دائماً جهداً عربياً خلاقاً ودأباً وعناداً لا يلينان. وفي الوسع أن يُقال بعد وقائع غير قليلة إن ثمّة سفراء عدة دول عربية وإسلامية في المنظمة الدولية على كفاءة محمودة في خوض هذا الاشتباك وفي تأمين تحالفات عريضة من أجل إسناد الحقوق الفلسطينية في مواجهة إسرائيل التي لا تتوقف عن النيْل من هذه الحقوق مع دعم أميركي ظاهر لها. مناسبة التنويه الموجز هنا إلى هاته المسألة أن المجلس التنفيذي لليونسكو أصدر قبل أيام قراراً يهدف إلى الحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني وعلى الطابع المميز للقدس المحتلة ويشطب اسم (جبل الهيكل) عن الحرم القدسي الشريف في أوراق المنظمة الأممية وينزع أي صلة بين الشعب اليهودي (وإسرائيل) والحرم. وكان مشروع القرار قد تقدّم به مندوب الأردن وسوند عربياً وإسلامياً وتم التنسيق بشأنه مع دولة فلسطين (كاملة العضوية في اليونسكو منذ العام 2011). وأثار القرار حنق العصابة الحاكمة في تل أبيب برئاسة بنيامين نتنياهو زاد من هيجان الأخير بصدِده أن فرنسا صوّتت معه فوجّه المذكور رسائل غاضبةً إلى باريس جعلت الرئيس فرانسوا هولاند يُعقّب إن التصويت تم في سياق من سوء الفهم. وفي مزاودة مفضوحة اعتبر رئيس الوزراء مانويل فالس القرار بائساً وأخرق. والعجيب أن مديرة اليونسكو إيرينا بوكوفا قالت إن القرار غير مقبول من جانبها واعتبرته سياسياً (!) والمعلوم أن بوكوفا مرشحة لتولّي الأمانة العامة للأمم المتحدة. وفي الوسع أن يُقال بشأن هذه الواقعة إنّ في مقدور العرب أن يصنعوا إنجازاً طيباً يزعج إسرائيل ويوتّر أعصاب مسؤوليها إذا ما أمكَنهم أن يجتهدوا وأن ينسّقوا عملهم في معترك سياسيّ وثقافي من طراز اليونسكو. وهذه مناسبةٌ للتذكير بأن معركة القدس في هذا المحفل الأممي طويلة وصعبة ذلك أن إسرائيل لا تكلّ في مساعيها من أجل أن تنسِب اليونسكو القدس إليها أو إلى لا أحد في خرائط المنظمة وذلك في موازاة مع ما تواصله سلطات الاحتلال من اعتداءات وممارسات من أجل تغيير الطابع العربي الإسلامي والمسيحي التاريخي للمدينة المقدسة. وكانت إسرائيل قد أخفقت في محاولتها قبل سنوات تمرير مشروع (الأخدود الثقافي العظيم) الذي طرحته أمام لجنة التراث العالمي في اليونسكو ويعتبر دول الأخدود الممتدّ من الأردن حتى جنوب أفريقيا وحدةً ثقافية واحدة الأمر الذي يصنع اختراقاً إسرائيلياً لإفريقيا في ثوب ثقافي ويضيّع هوية القدس في إطار ثقافي حضاري عريض يُبعدها عن اعتبارها قضيةً مركزية في الصراع العربي الإسرائيلي. نجحت الدول العربية وبجهد مصري في حينه في دفن المشروع المذكور. وبعد سنوات نجحت في جمع الأصوات اللازمة لتمرير قراريْن يتعلقان بالحفاظ على التراث الثقافي للقدس وبمنع الحفرياتِ جوار بابِ المغاربة في المسجد الأَقصى وإصدار قرار آخر يرفض تسجيل مسجدي بلال بن رباح والحرم الإِبراهيمي في لائحةِ التراث اليهودي. وليست منسيّةً المعركة الضروس التي خسرتها أميركا وإسرائيل من أجل الحؤول دون عضوية كاملة لفلسطين وكانت معركةَ استحقاق ثقافي سوندت فيه فلسطين بأزيد من ثلثي الأصوات اللازمة ما دلّ على أن ثمّة ما يمكن الرهان عليه في استثمار الحس الأخلاقي والإنساني في العالم في مواجهة الصلف الإسرائيلي المدعوم أميركياً والذي ينشط من أجل محو اسم فلسطين. والظاهر أن ثمّة صحةً ووجاهةً غزيرتين في ما قاله المرشح المصري الخاسر في المنافسة على منصب مدير عام اليونسكو فاروق حسني إبّان حملته الانتخابية في 2009 إنّ عروبة القدسوفلسطينيتها مستهدفتان في اليونسكو حيث تعمل إسرائيل وبإسناد أميركي دائم على تسجيل المدينة أثراً إسرائيلياً ضمن قائمة التراث العالمي... تجدّدت جولةٌ في هذه المعركة قبل أيام والمتوقع أن تطرأ جولاتٌ أخرى لاحقاً.