بقلم: أحمد برقاوي* أجمع أغلب الباحثين في مسألة الأمة والقومية على أن وحدة الآلام أحد مقومات وجود الأمة الموضوعي. ودعواهم في ذلك بأن العلاقات المعشرية التي تقوم بين أفراد جماعة تخلق لديهم متحداً عاطفياً وشعوراً مشتركاً بالتضامن عند الملمات تضامن يصل حد اعتبار المصيبة الوطنية مصيبة فردية للكل. وهذا أمر لا غبار عليه ولا شك فيه من حيث المبدأ. ولكن المسألة تحتاج إلى نظر فهل مازال الشعور المشترك بالآلام مقوِّماً من مقومات الشعب أو الأمة أو الوطنية؟ وإذا ما تحطم هذا الشعور لسبب أو لآخر فهل تبقى الأمة أمة والشعب شعباً؟ وإذا ما فُقِد هذا المقوِّم فهل هو دليل تطور لمفهوم الشعب والأمة أم نذير ضعف للرابطة القومية؟ قبل أن أجيب عن هذا أشير إلى أن تقدم أدوات الاتصال العالمية وتوسعها وانتشارها قد جعل من المصائب البشرية معروفة لدى شعوب الأرض ولا نعدم التعبير عن التعاطف شعورياً مع من وقعت عليهم المصائب. وانتشار هذا النمط من التعاطف على مستوى الكوكب لا يعني أن البشرية صارت جماعة واحدة فكلنا يتأثر بحادثة سقوط طائرة ما ومقتل ركابها ولكن هذه المصيبة لا تترك أثراً دائماً لدى البشرية التي سمعت خبر سقوط الطائرة وتأثرت به. وأعود للسؤالين اللذين طرحت وأمامي ظاهرتان تضعان وحدة الآلام بين قوسين: الأولى هي أن روح الجماعات اليوم تضعف أمام روح الفردية بل أصبح الخلاص الفردي والألم الفردي يطغى على ما عداه من خلاص جماعي وألم جماعي دون أن ننفي المظاهر الجديدة للتعبير عن روح الجماعة عند حدوث المصائب التي تراها الجماعة مصائب كلية. ولكنها مظاهر لا تشي بقوة العواطف المشتركة عند الألم. أما في المجتمعات التي مازالت فيها روح الجماعات قوية بحكم مكانة العلاقات المعشرية التقليدية فإننا أمام روح الألم الجماعي في أعلى مظاهرها وبالتالي يمكن القول إنه كلما قويت الفردية ضعف الشعور بالألم المشترك وكلما ضعفت الفردية وجدنا العكس. يشذ عن ذلك حالات ارتكاب الجرائم التي مقصودها شعب بكامله فما زال الشعب الياباني يحيي مأساة هوريشيما وناكازاكي بوصفها مأساة يابانية كلية وقس على ذلك. وهذه الواقعة تختلف عن واقعة زلزال أو إعصار طبيعي ولدت مأساة لدى أفراد محدودين. لكن الأمر الآخر وهو الأخطر على الشعوب والأمم ومجتمعاتها هي الحروب الداخلية أو ما بات يعرف بالحروب الأهلية. فحين تشتعل الحروب لأسباب طائفية أو قومية أو مناطقية أو أيديولوجية وتتحول الجماعات المختلفة إلى ميليشيات أو فرق مسلحة أو حركات مقاومة داخلية فإنها تخلق الآلام دون أي شعور بالآلام المشتركة. بل وتعبر جماعات عن فرحها بمصائب الجماعات الأخرى وكانوا قبلاً أولاد وطن واحد وتزداد الأمور كارثية حين يجري التمثيل بالجثث إلى الحد الذي لا يتصوره عقل إنساني وهكذا حين يكون البكاء في مكان ما حزناً على فقد الإنسان يكون الفرح في مكان آخر وللسبب نفسه. وهذا ما حصل على امتداد الحرب الأهلية في لبنان وهذا ما يحصل الآن في سورياوالعراق واليمن وليبيا. ويطرح السؤال الأصعب: كيف يعود الشعب شعباً واحداً ويشعر بوحدة الآلام بعد هذا التدمير العاطفي للحس المشترك؟ لا شك أن هناك مسؤولية تقع على من أشعل الحروب ولم يحسب حساباً لوحدة الأوطان والشعوب فمسؤولية من (طَأْفَن) الحياة في العراق من أحزاب وميليشيات ذات ولاء لإيران وقاد البلاد والعباد إلى عذابات مزقت نسيج الشعب الواحد مسؤولية كبيرة ومسؤولية النظام السوري في تمزيق وحدة الشعب السوري ثابتة للعيان ومسؤولية الميلشيا الحوثية في جر اليمن إلى حرب داخلية مسؤولية لا تغتفر وقس على ذلك. ولهذا فإن محاسبة المسؤولين عن تحطيم الحس العاطفي المشترك ودق إسفين بين أبناء الشعب الواحد تقود مع الأيام إلى نسيان الآلام المتولدة عما جنته أياديهم. ولكنه أمر قد يطول. إن شعباً فقد الإحساس بالآلام المشتركة هو شعب بين قوسين.