لقد حولت تكنولوجية الاتصالات والمواصلات العالم لقرية عولمة كونية صغيرة، وأدت لظهور تحديات جديدة، لا يستطيع أي بلد أن يتعامل معها في الألفية الثالثة، بطريقتها المحلية الوطنية القديمة للقرن العشرين. فقد عانى العرب بعد حضارة عظيمة، من سلبيات انهيار الحكم العثماني، بعد أن جثم على صدر الأمة العربية قرونا طويلة، وزاد الطين بلة أزمنة الاستعمار الأجنبي، التي استمرت بشكل عسكري مباشر في القرن التاسع عشر والعشرين، وبشكل خفي اقتصادي في القرن الحادي والعشرين، وحتى انتفاضة العولمة مؤخرا. وبعد أن تخلصت حركة التحرر العربية من الاستعمار العسكري المباشر، بدأت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وترافقت بحركات انقلابات عسكرية، عرفت بثورات الشرق الأوسط، كثورة عبد الناصر، وثورة القذافي، وثورة الأسد، وثورة صدام، وثورة حماس، وثورة حزب الله ومن «خلفها». وقد بدأت جميع هذه الانقلابات «بيوفريا» الخطابات الثورية الانفعالية الرنانة، وأنتجت دكتاتوريات ثورية فاشلة، وشعوب انفعالية عاطفية غير منتجة، وعقول فردية متسلطة، وأدت للهزائم المنكرة للجيوش العربية، وانتهت بفشل الأيديولوجيات القومية، والاشتراكية، والشيوعية، وخرافات الإسلام السياسي، ونظريات ولاية الفقيه، بل كانت هزيمة منكرة للعقل العربي. ويبدو بأن العالم يمر اليوم باستمرارية هزائم فكر الحرب الباردة، بعد انهيار النظام الشيوعي في القرن الماضي، ببدء بوادر انهيار نظام الرأسمالية الفائقة، بانفلاتها من سلطة الأنظمة والقوانين، وبجشعها المفرط، وباستهلاكها الجنوني، في ظاهرة انتفاضة العولمة، التي بدأت بثورة حزب الشاي في نيويورك، وامتدت لشوارع الاتحاد الأوربي، بل انتشرت للشرق الأوسط، لتعود من جديد إلى قلب منطقة مأساتها، بالوول ستريت، بمدينة الرأسمالية الفائقة نيويورك. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: كيف سيتعامل العرب مع تحديات العولمة للألفية الثالثة؟ فهل سيقنعوا بانتفاضات تونس، مصر، ليبيا، سوريا، اليمن، وينتظروا تطور دكتاتوريات جديدة؟ هل مشكلة العرب في حكوماتهم، أم المشكلة الكبرى في العقل العربي، وسلوكياته؟ فهل سيتوجه العرب في هذه المرة، لمعالجة هزيمة العقل العربي وسلوكه، وهل سيبدأوها بثورة لثلاثة مائة وخمسين مليون عقل عربي، على ثقافة هدر الوقت، وضعف المسؤولية، وعدم الكفاءة، وقلة الإخلاص، وسوء أخلاقيات السلوك؟وهل سيعالج العرب فرط المظاهر الدينية الكاذبة، وزيادة التطرف، وفقد التوازن العاطفي، بتطوير معايير مجتمعية لأخلاقيات السلوك، وحسن المعاملة، ولطف اللقاء، وحسن الحوار، وقلة الكلام، وكثرة التركيز على السمع، وظرف الخلاف، واحترامه؟ وهل سنرجع مقولات ثقافتنا، كالوقت كالسيف أن لم تقطعه قطعك، وإن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وخير الكلام ما قل وذل، ولسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك، وصديقك من صدقك لا من نافقك؟ وهل سيحتاج ذلك لتطوير تعليم يخلق جيلا يحترم تاريخه، وثقافته الجميلة، وأخلاقياته السامية؟وهل سيحتاج كل ذلك لتدريب يخلق جيلا يستطيع أن يعالج تحديات عولمة الألفية الثالثة، وتشابكاتها المعقدة؟ وهل سنخلق أجيال قيادات جديدة، بعيدة عن عقلية الحرب الباردة، واعية لأهمية التعاون والتنسيق العالمي، ومستوعبة لتحديات عولمة القرن الحادي والعشرين؟ وهل سنوقف التلوث العقلي للشباب من خطباء العمائم السياسية، التي اعتمدت على دغدغة عواطفهم الانفعالية، وأغرتهم بالحور العين والغلمان المخلدين، وأبعدتهم عن روحانية الدين، وسلوكياته الأخلاقية، مما أدى لضعف ذكائهم الروحي والعاطفي والاجتماعي والجسمي والفكري، الأساسية لمعالجة معضلات العولمة المتشابكة والمعقدة؟ وهل سنرجع الاعتبار لقيادات ديننا الحكماء والأفاضل، بحكمتهم، ورزانتهم، وبحدة ذكائهم الروحي والديني، وبابتعادهم عن نجاسة السياسة، بمناوشاتها الفاضحة وأكاذيبها المخجلة؟ وكيف سنطور فلسفة تعليم تخلق قيادات العولمة القادمة، لينجحوا في التعامل مع تحدياتها، ليحققوا لشعوبهم الكرامة والتنمية، تنمية تجمع بين ثقافة الشرق وحداثة الغرب، بعيدة عن الغربنة وإختلاطاتها المؤسفة؟ تحديات التعليم عزيزي القارئ في وطننا العربي كبيرة ومتشعبة، وأهمها ضعف فلسفتنا التعليمية التي تعتمد على جمع المعلومة وتلقينها، وتجنب المسائلة، وتوجيه التفكير التقليدي، وتربية العمل على التواكل لا الإتقان، وفقد التوازن بين تعليم العلوم الطبيعية والعلوم الروحية، وليسمح لي عزيزي القارئ لأقدم شخصية لنتعرف من خلالها على قوة التعليم في خلق أجيال الحياة، لا أجيال الموت. ولدت الكاتبة الغربية، هيلين كيلر عام 1880، وقد أصيبت في الشهر التاسع عشر من عمرها بحمى شديدة أدت لفقدانها البصر، والسمع، والتكلم. وتعرفت في السنة السادسة من عمرها على المدرسة، آن سوليفان، فعلمتها أبجدية اللمس. وقد تحدت كيلر عاهتها، فأكملت دراستها الجامعية بتفوق، ونشرت قصة حياتها في عام 1902. ويبقى السؤال المحير ما هي الظروف المجتمعية التي تحول الأعمى والأصم والأبكم، لبصير ومفكر وكاتب؟ وما هي فلسفة التربية المجتمعية والتعليم المدرسي التي تحول كامل السمع والبصر، لمتطرف يفجر نفسه، ليقتل أبناء شعبه، ويحطم اقتصاد بلده؟التقت الآنسة كيلر بالفيلسوف الياباني، شونسوكي تسورومي، في نهاية الثلاثينيات، حينما كان طالبا بجامعة هارفارد، فنصحته بقولها «لقد تعلمت الكثير في الجامعة، ولكن بعد تخرجي، كان علي أن أتناسى ما تعلمته، وأبدأ من جديد». حاول تسورومي أن يتفهم معنى كلمة التناسي، فشرحها بقوله «تصورت بأنني تعلمت حياكة جاكتة الصوف في الجامعة، وحينما تخرجت فتقت هذه الحياكة من جديد لخيوط صوفية، ثم قمت بحياكتها من جديد على قياس جسمي». ووضح في حواره بأن الآنسة كيلر تناست المعلومات الجامعية الملقنة وتفهمتها بطريقة جديدة، لتستفيد منها في دراسة تحديات مجتمعها، وإيجاد الطرق المناسبة للتعامل معها. ولو تعمقنا في حوار الفيلسوف لفهمنا بأنه لا يؤمن بتلقين المعلومة، بل بالتدريب للبحث عنها، والاستفادة منها في التعامل مع التحديات الحياتية، كما لا يعتقد بأن هناك مشاكل مرتبطة بحقيقة معينة ثابتة، بل هناك تحديات تتغير مع الزمن والظرف المرافق. كما ليس هناك حلول ثابتة، بل هناك طرق لمحاولة التعامل مع التحديات حسب الظروف وزمانها.وأحد تحديات تعليمنا هو تفكيرنا الأفلاطوني، باعتقادنا بأن هناك حقيقة واحدة نحاول الوصول إليها، وإذا اكتشفنا هذه الحقيقة تبقى كل الأفكار الأخرى خاطئة، وبعيدة عن الحقيقة، وبأن معضلاتنا لها حلول متحجرة، وقد نحتاج للرجوع للتاريخ لإيجاد بعض هذه الحلول وبدون المساءلة. وهنا تختلف الفلسفة اليابانية، المأخوذة من الفلسفة الصينية، عن فلسفتنا العربية الأفلاطونية، فهي لا تؤمن بأن هناك حقيقة ثابتة، بل أن المعلومات في تطور دائم، كما أن التاريخ يحتاج لدراسة متسائلة للاستفادة منه وتجنب أخطائه. وهذه الفلسفة مهمة جدا في التناغم المجتمعي، فحينما يؤمن الجميع بأن لا أحد منا يملك الحقيقة، ولكل حرية الرأي بدون أن يفرضه على الآخرين، بل ويحترم اختلاف الآخرين ويستفيد منه، ينتشر الاحترام والوئام والتناغم المجتمعي وتتطور فلسفة العمل الفريق الواحد، وتزداد إنتاجية المجتمع ويتطور اقتصاده. ويرجع البعض تخلف تفكيرنا لتشبثنا الأبدي بما نعتقد بأنه الحقيقة، وكل من يخالفنا فهو حاقد أو منافق أو رجعي. وبذلك نوقف الحوار المنتج، مما يؤدي للتخوف المجتمعي في التعبير عن الأفكار، وتنعدم الحوارات الفكرية الديمقراطية المنتجة، وتتخلف ثقافة التطور الفكري، وتتحجر العقول، ويزداد الخلاف، لتنتهي بصراعات فكرية مفلسة وانعدام الإبداع، وانتشار الغيبة والنفاق. فالإبداع يحتاج لبيئة صالحة، ينعدم فيها الاعتقاد بأن الفكرة المعينة وأحيانا التاريخية هي الحقيقة المطلقة، بل بأن جميع الأفكار يمكن أن تساءل وتناقش وتطور وبحرية. فالتحاور الفكري ينير العقول ويطور الأفكار، ويبرز الأفكار المبدعة والمتناغمة، ويؤدي للاكتشافات والاختراعات جديدة. والتحدي الآخر في فلسفة تعليمنا، هو تعليم إيجاد حل متحجر للمعضلة، وليس دراسة التعامل مع تحدياتها. فحينما نعتقد بأن هناك معضلة محددة، وبأن هناك طريقة وحيده وفريدة لحلها، ستتحجر عقولنا نحو طريقة واحدة جامدة لحل ثابت ومطلق. ومن الممكن أن لا يكون هذا الحل واقعي، ولا يمكن تحقيقه، فنستمر في الخلاف حوله، وتضيع السنين، وتتعقد المعضلة، وتنعدم الحلول. وهنا يمكن أن نشبه ذلك بسائق سيارة، يواجه صخرة كبيرة، في وسط الشارع، ويعتقد بأن هناك حلا وحيدا، وهو بأن يتواكل على الله، ويسوق بسرعة فائقة، ليصطدم بالصخرة الكبيرة، فقد يستطيع أن يحركها، لاعتقاده بأن الخالق، جل شأنه، سيغير جميع القوانين الفيزيائية، التي خلقها، لتتماشى مع تواكله. وطبعا، لن تتحرك الصخرة، ولكن ستتحطم سيارته، ويصاب بجروح بالغة، وقد يستمر في تكرار المحاولة. ومع الأسف الكبير، بأن تاريخنا العربي، مليء بمثل هذه الأمثلة التاريخية، التي أدخلتنا في مجابهات وحروب، أدت لما نحن فيه. فقد نحتاج لتطوير فن دراسة الاحتمالات، وتعلم اكتشاف طرق مبدعة للتعامل معها. ويلزم ذلك تطوير فلسفة تعليمية تنير العقول بالتساؤل المستمر، وتدربها على التعامل مع التحديات، وذلك بعرض المعضلة، وتشجيع الطلبة على الحوار، لمعرفة تشابكاتها وتحدياتها، وتمرينهم على طرق البحث عن المعلومة المساعدة، لإيجاد الطرق المناسبة للتعامل معها. ولنعرض عزيزي القارئ بعض الأمثلة التاريخية للتعامل مع التحديات، فلنتذكر بأن الحرب الباردة استمرت لعقود طويلة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، بسبب تحجر العقول في خلاف أيديولوجي رأسمالي شيوعي. وحينما زار الرئيس غورباتشوف فرنسا، واستعد لتأمل الديمقراطية الليبرالية بعقل متفتح، والتعرف على نتائجها، ولاحظ ما يتمتع به الشعب الفرنسي من حرية، وتطور اجتماعي، وثراء اقتصادي وثقافي، أكتشف بأن دكتاتورية البوليتاريا عقيمة. وحينما أستلم الرئيس دن زيو بنج القيادة في الصين، واكتشف تحديات بلاده الاجتماعية والاقتصادية، وتخلفها التكنولوجي، وبداء يقارن تخلف الصين بثراء الغرب، قال مقولته المشهورة: «ليس المهم أن يكون القط أسود أو أبيض، بل المهم أن يصطاد الفئران». ويعني بذلك أنه ليس من المهم أن يكون النظام رأسمالي أو اشتراكي، بل المهم أن يطور هذا النظام الاقتصاد، ويزيل الفقر والتخلف، وبذلك توجهت الصين لاقتصاديات الألفية الثالثة. ولنطرح عزيزي القارئ معضلة أخرى في تعليمنا وهو التواكل. فيؤكد الحديث الشريف بأن علينا أن نعقل ونتوكل، ومع الأسف الشديد تحولت ثقافتنا العملية للتواكل لا التوكل. فلم نعد نهتم بالعمل الجاد المتقن، ولا نستفيد من الوقت، الذي إن لم نقطعه سيقطعنا، ويبقى السؤال الملح: هل خلق الخالق، جل شأنه، هذا الكون بقوانين فيزيائية دقيقة ومتقنة، أم ترك هذه القوانين فوضوية، لتتغير في كل لحظة، حسب تواكلنا وصلواتنا؟ وهل الغاية من صلواتنا تطهير النفوس، وتدريبها على القيم والأخلاقيات، أم لتحقيق جشعنا المادي، ببناء قصور كثرة في الجنة؟ ألم يكرر الحديث الشريف، مرارا، أهمية العمل، وقدسية إتقانه، وأعتبره من خيرة العبادات؟ ألم يؤكد رجال ديننا الأفاضل بأن نعمل لدنيانا، كأننا سنعيش للأبد، ونعمل لأخرتنا كأننا سنموت في الغد؟ومن تحديات تعليمنا المستقبلي خلق التوازن بين العلوم لطبيعية والروحية. فتطوير اقتصادنا المستقبلي سيحتاج لتعليم متقدم للعلوم الطبيعية كالفيزياء، والرياضيات، والكيمياء، والعلوم الاجتماعية كالتاريخ وعلوم الاجتماع والعلوم الاقتصادية، ولكن هل سيكفي ذلك؟ أم سنحتاج أيضا لتطوير العلوم الروحية، التي تعلم الإنسان السلوك السوي، للعمل كفريق متناغم ومنتج، ليتعامل مع مواطنيه، ووطنه، وموارده، ومع الطبيعية، بحكمة واتزان؟ وقد عبر كوزو ايناموري، مؤسس جائزة كيوتو اليابانية، ورئيس شركة كيوسيرا، الإمبراطورية التكنولوجية التجارية العالمية، عن ذلك بقوله: «الفلسفة التي أؤمن بها هي أنه لن نطمئن على مستقبل البشرية إلا من خلال خلق التوازن اللازم، بين تطور العلوم المادية والعلوم الروحية. وأعتقد بأنه يجب أن نخلق هذا التوازن في الإنسان، بين ذكائه الذهني والعاطفي، وسيطرة الإرادة. فالحضارة التي تهتم بالذكاء الذهني، وتبخس قيمة الروح، والعاطفة، والإرادة الإنسانية، هي حضارة آفلة... فمع بداية القرن الواحد والعشرين ستكون مسؤوليتنا الأساسية، أن نرفع العلوم الروحية لنفس المستوى الذي وصلت إليه العلوم الطبيعية والتكنولوجية، لنستطيع التعامل مع اختراعاتها بحكمة، لنرفع من قدر أذهاننا ونشرفها». وليسمح لي القارئ العزيز بالتوقف وبالتساؤل، هل حان الوقت لعمل بلداننا على خطة فلسفة تعليمة، تهيئ أجيالنا المستقبلية، لتحديات الألفية الثالثة؟ ولنا لقاء. الباحث العسكري الاستراتيجي لا ينكر اثر قرار تخفيض ميزانية الأمن على القرارات التي سوف تتخذها اللجنة بخصوص الخطة المستقبلية للجيش الإسرائيلي، وهو أمر قد يوجه الكثير من قراراتها، لكن اعتبر أن من أهم مزاياه الخطة الحالية الشفافية في طرح الأفكار والقرارات، رغم عدم وثوقه فيما قد يتمخض عنها، إلا أن الحاجة إلى الانفعال بمؤثرات الواقع واتخاذ رد فعل على ذلك يبقى أمراً مهماً وضرورياً في الوقت الراهن.