إنّ التهرب من الضرائب، والعمل بالتالي بشكل غير قانوني صار القاسم المشترك بين الكثير من أصحاب الورشات، والذين لاهم لهم إلاّ تحقيق الأرباح، دون الاضطرار لا إلى دفع مستحقاتهم من الضرائب ولا تأمين عمّالهم، ولاشيء· مصطفى مهدي لهذا فإنك تجد بعض الخواص يجعلون من بيوتهم، أو فيلاتهم مكاناً لنشاط غير قانوني، أو بدون وثائق ترخصه، مثل ورشات صناعة أو تحويل المواد الأولية، أو الصناعات الصغيرة، وغيرها، حيث يختار هؤلاء، ورشات لاتراها أعين الرقابة، وهو الأمر الذي وقفنا عليه، ونحن نمرّ ببعض تلك المصانع الصغيرة، وكان دليلنا في هذه الرحلة، عمار 21 سنة والذي - على حداثة سنه- فقد عمل في الكثير من الورشات، منذ أن توقف عن الدراسة قبل سبع سنوات، فكان يعمل في الورشة أشهرا معدودات ثم ينتقل إلى غيرها وهكذا، ويشرح لنا ذلك قائلا: إنّ العمل عند الخواص شيء رهيب ومتعب، ولا مستقبل فيه، هذا بالإضافة إلى المعاملة السيئة التي يلقاها العامل من صاحب الورشة، والتي قد تصل إلى حد الشتم، بل والضرب كذلك، وعندما رأى تفاجئنا مما قاله، أضاف مؤكدا: أجل فأنا مثلا وكنت لم أتجاوز حينها الرابعة عشر ضربني صاحب الورشة، أو المعلم بحجة أنه أراد تأديبي، لكني لم أسكت وشتمته وخرجت، وإلى الآن لم آخذ أجرتي المتبقية، هؤلاء يستغلون فقر العامل وحاجته إلى النقود لكي يعاملوه معاملة أكثر سوءا من معاملة السيد للعبد، كنا قد بلغنا حي بوفريزي ببوزريعة، كان عمار يحدثنا عن السنوات التي أمضاها في العمل عند الخواص، وكنا نسير باتجاه بعض تلك الورشات، إلى أن طلب عمار أن نتوقف، لكننا لم نشاهد لا ورشة ولاشيء فنظرنا إلى عمار، والذي أشار لنا أن إصبروا، فصبرنا، وماهي إلاّ دقائق حتى توقفت شاحنة تحمل ورقا مقوى عند مدخل إحدى الفيلات ففتح الباب على مصراعيه، وخرج منه أطفال ومراهقون يرتدون ثياب العمل، أو ثياباً مهترئة تدل على أنهم عمال في ورشة، وراحوا يفرغون الشاحنة من الورق المقوى وفي لحظات معدودات أنجزوا عملهم كاملا، فأقفلوا الباب، وعادت الشاحنة من حيث أتت، كما لم يحدث شيء، فقال لنا عمار إن هذه الورشة تعمل منذ تسع سنوات ولم ينتبه لها أحد، أو لم ينتبه لها عمال الرقابة· بعدها اتجهنا إلى باب الواد، في سقوطو تحديدا، ونفس الشيء فعلناه، حيث توقفنا بسيارتنا أمام إحدى البنايات وكانت فيها حركة عادية، حيث كانت الساعة الحادية عشر والنصف، أي قبل الإفطار بقليل، حيث خرج عاملان لا يتجاوز سنهما السادسة عشر، وذهبا إلى محل لبيع الأكل الخفيف، واستغل عمار الفرصة لكي ندخل البناية، فرغم أنه لم يعد يعمل عنده، إلاّ أنه بقي محافظاً على علاقات مع صاحب الورشة ومع العمال، وكانت الورشة عبارة عن غرفة كبيرة، أو قبو، حوالي 500 متر مربع، وفيه أجهزة وماكنات متخصصة في صنع وتعليب الأكياس البلاستيكية، أمّا العمال فكانوا أطفالا، ولم يتجاوز أكبرهم السابعة عشر من العمر، كان عمار يحدثنا عن أدق التفاصيل دون حتى أن نسأله عن الأجرة، قال إنّ أقدم عامل لايتقاضى أكثر من عشرة آلاف دينار، وعن ساعات العمل، فهي عادية، أي ثماني ساعات ولكن أغلب العمال، يضيف، يعملون ساعات إضافية، والساعة بخمسون ديناراً، لكن ماساءنا رؤيته، ودون أن يحدثنا مرافقنا، هو انعدام النظافة، وهذا الأمر يعرض العمال، خاصة وأنهم أطفال ومراهقون، يعرضهم إلى الخطر المحقق، وهم يعون ذلك جيدا، وهو ما قاله لنا علاء، 17 سنة، وهو صديق لعمار، وبعد حديث مقتضب، وعلمه بهويتنا، أوّل ما تحدث عنه هو النظافة، وأنّ الكثير منهم أصيب بأمراض في الرئتين أو غيرها، بالإضافة إلى الحوادث التي تقع لهم إذا ما أساءوا استعمال الماكنات، وقبل شهرين، يقول علاء بتأثر، فقد صديق لهم أصبع يده، ولكن صاحب الورشة، والذي لايؤمن عماله، تكفل بمصاريف علاجه، ليس لأنه أشفق على حاله، ولكن حتى لا يكشف أمره، ثم توقف علاء عن الحديث، وكأنه يخفي شيئاً ما يتردد في مصارحتنا به، لكنه انتهى بأن قال بلهجة حزينة إن صاحب الورشة يستغل ضعفهم لضربهم أحياناً، أمّا الشتائم والكلام الجارح فهي مرادفات لصباح الخير والسلام عليكم عندنا، وحتى الصلاة يقول باستياء، لايسمح لنا بتأديتها· تركنا علاء، وورشة الأكياس البلاستيكية وغادرنا، أمّا عمار فراح في الطريق يحكي لنا عن حوادث كثيرة وقعت له في تلك الورشات، ويقول لنا إنّ ما رأينا وما سمعنا ليس إلاّ غيضا من فيض، لكنه مع ذلك ابتسم وهو يتذكر المواقف المضحكة التي وقعت له كذلك فيها، وبقي ينظر إلى الأفق وكأنه يحاول استرجاع ذكريات طفولة مسلوبة·