بقلم: فوزي حساينية* تعجُّ الساحة الثقافية والفكرية في الجزائر وفي كامل أرجاء الوطن العربي بالكثير من المسائل والقضايا التي هي محل نقاش دائم بين المثقفين والمفكرين العرب ولعلَّ من أهمِّ هذه القضايا هي تلك المتعلقة بالتساؤل المطروح دائما عن أسباب غياب فلسفة عربية معاصرة ومن البديهي أن تتعدد الإجابات حسب الاتجاه الفكري أو المدرسة التي ينتمي إليها هذا المفكر أو ذاك المثقف ولكنني بصراحة صريحة لم أجد أدقَّ ولا أحسن من الأسباب التي ذكرها المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي كتفسير لغياب فلسفة عربية معاصرة وذلك في مقال له بعنوان (الفلسفة العربية المستحيلة) المنشور في كتابه (هرطقات عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية). يبدأ طرابيشي مقاله الرائع بالتأكيد على أنَّه لا توجد فلسفة عربية حديثة أو معاصرة وإن وُجدت فلسفة عربية من نوع ما فهي حتما فلسفة مترجمة أو مولدة بواسطة الترجمة مؤكدا وملحا على أن هذا الحكم الصارم ينطبق انطباقا شاملا ودقيقا على كل ما دبَّجه كتاب الفلسفة العرب بمختلف مذاهبهم كتوماوية يوسف كرم ووجودية عبد الرحمن بدوي وشخصانية عزيز الحبابي وماركسية سمير أمين... وبعد أن يُقرر هذه الحقيقة كمسلَّمة ذات صدقية ضاربة يتساءل: لماذا لا توجد ولماذا يكاد يستحيل أن تُوجد فلسفة عربية حديثة أو معاصرة ؟ وفي إجابته على هذا السؤال يرصد طرابيشي ما يعتبرهُ ثلاث سلاسل متراكبة من السببيات المُفَسِّرَةِ كما يلي: أولا: أن الفلسفة المعاصرة نفسها على الصعيد العالمي في حالة أزمة خانقة وذلك بسبب التطور العلمي ذلك أن تطور العلم باعتباره الأداة الوحيدة للمعرفة وللسيطرة على الطبيعة قد جرَّد الفلسفة تقريبا من مجالات نشاطها الواحد تلو الآخر فتطور الفيزياء الرياضية قد أغنى عن الفلسفة في معرفة الطبيعة والكون وتطور علم الاجتماع والسياسة قد جردها من عبء أو لذة البحث في المدينة الفاضلة كما أن تطور علم النفس قد انتزع منها البحث في القضايا والمسائل المتعلقة بالبُنى النفسية التحتية ويُسجل طرابيشي أنَّ الفلسفة ورغم الضربات التي أنزلها بها التطور العلمي فإنَّها ظلت تحافظ لنفسها على بعض الأدوار المتعلقة بالقيم والغايات النهائية أو في مجال الفلسفة العلمية الخالصة المتعلقة بالابستيمولوجي أي معرفة المعرفة ويقول طرابيشي بحق أن الثقافات الوحيدة المنتجة اليوم للفلسفة هي تلك الثقافات المنتجة للعلم وبما أن الثقافة العربية الراهنة لا تُنتج أي شيء من العلم فإنَّه يصبحُ من الواضح لماذا يكون المتفلسفون العرب بالضرورة عبئاً وعالة على الفلسفة الإسلامية القديمة أو على الفلسفة الغربية المعاصرة موضحا أن انتفاء شرط الإنتاجية العلمية لا يترك من خيار للمتفلسفين العرب إلا أن يكونوا في الفلسفة من المستهلكين أي المحاكين شرحا أو ترجمة. ثانيا: إن الحضارة الغربية بحكم أسبقيتها إلى الحداثة قد باتت تتحكم في الزمان الثقافي للحضارات الأخرى إذ أن كلَّ ما يمكن أن ننتقد الحضارة الغربية عليه قد سبقتنا هي نفسها إلى نقد نفسها عليه والمتفلسف العربي يجد نفسه مسبوقا باستمرار في كل موضوع يريد أن يتفلسف بشأنه فقوة وديناميكية وتنوع الإنتاج الفلسفي الغربي ومبادرته إلى طرح مختلف المسائل وقتلها بحثا وتفكيكا قد سَدَّ المخرج النقدي في وجه المتفلسفين العرب نعم المتفلسفين وليس الفلاسفة العرب فجورج طرابيشي يرفض رفضا قاطعاً أن يستخدم كلمة الفلاسفة العرب بالنظر إلى أنَّهُ لا وجود لإنتاج فلسفي عربي معاصر ودون السقوط في العدمية أو اليأس الفكري بل اعتمادا على حس نقدي رفيع يعتبر أن ما يقوم به بعض المثقفين العرب من محاولات لتَبْيِئَةِ فلسفة ما بعد الحداثة في الساحة الثقافية العربية اليوم محاولات مجهضة مسبقا إذ كيف لمجتمع أخفق في استيعاب الحداثة أن يدعي مفكروه الحقَّ أو القدرة على التعامل مع ما بعد الحداثة ؟ ويختتم تعليلهُ الثاني بهذه العبارة الصميمية المؤثرة حقا: عندما يتصدى متفلسفون من مجتمعات ما قبل حديثة لممارسة فلسفة ما بعد الحداثة فإنه لا خيار أمامهم إلا أن يكونوا مستهلكين لا منتجين لخطاب نقد الحداثة في الغرب نفسه أو بعبارة أخرى: مجرد مترجمين. ثالثا: أن الفلسفة لا تنمو ولا تزدهر إلا في الأجواء الثقافية التي تعرف وتعترف باستقلالية وسيادة العقل في حين أن العقلانية لا تزال تشغل حيزا هامشيا مهملا في الثقافة العربية المعاصرة وفي تعريفه للعقلانية يقول جورج طرابيشي: إننا لا نعني بالعقلانية شيئا آخر سوى هذا المبدأ البسيط والثوري معا: إنه لا يجوز أن تعلو فوق سلطة العقل أية سلطة أخرى وهو الأمر غير المتحقق في الثقافة العربية المعاصرة التي يطغى عليها الطابع الديني موضحا أن اللاهوت نفسه كشكل معقلن من الدين ما زال منفيا من الثقافة العربية منذ أن كُفِّرَ فلاسفة الإسلام وطُرد علم الكلام المعتزلي خارج المدينة الإسلامية وتقلَّصت الحضارة العربية الإسلامية إلى محض حضارة فقه ويقول مفكرنا أن السقف الأعلى للعقل الديني في الثقافة العربية السائدة- وهي سيادة قد عززها في العقود الأخيرة المنُّ النفطي- لا يزال هو العقل الفقهي ولا يجادل طرابيشي في حقيقة أن باب الاجتهاد في الفقه قد أُعيد فتحهُ في العقود الأخيرة على أيدي من سماهم بمنظري حركات الإسلام المؤدلج والمسيس لكنه يؤكد أن باب الاجتهاد قد فُتح ليس للتقدم إلى الأمام بل للارتداد إلى الخلف ولقد كان من الممكن استساغة الأمر لو كان هذا الارتداد إلى الخلف قد تم إلى عصر الأئمة المجتهدين مثل مالك والشافعي وأبي حنيفة لكن الارتداد تم تحديدا إلى عصر ابن تيمية الذي ساد شبه إجماع على توصيفه بأنه عصر انحطاط ويختتم مفكرنا استعراضه للسبب الثالث بهذا القول الاستشرافي التنبوئي: ونحن نستقرئُ ما يطالعنا به المشهد العربي السائد من حولنا اليوم من صعود لمد القوى الناشطة تحت لواء العقل الديني بطبعته الأكثر أصولية لا نغالي إذا قلنا إن العالم العربي يقفُ في مطلع القرن الواحد والعشرين هذا على عتبة الانكفاء على نفسه فيما لا نترددُ أن نسميه قروناً وسطى جديدة. وإذن فالأزمة الذاتية التي تعيشها الفلسفة المعاصرة أولا وأسبقية الحضارة الغربية إلى الحداثة وتحكمها في الزمان الثقافي لباقي الحضارات ثانيا وغياب أو ضعف سلطان العقل في الثقافة العربية المعاصرة ثالثا هي الأسباب التي يعتبرها مفكرنا الراحل مسئولة عن غياب فلسفة عربية معاصرة وهي أسباب وجيهة وقد فصَّلها مفكرنا في مقاله تفصيلاً مقنعاً وقد قمتُ بتلخيص المقال واختصاره اختصاراً شديداً لذلك فلا مناص من حثِّ القارئ على العودة إلى المقال الموجود في كتابه المذكور لتكون الاستفادة منه كاملة وهذه هي غايتي الرئيسة من كلمتي المُوجزة هذه.