بقلم: رشاد أبو داود في أغسطس 2014 خصص الكنيست الإسرائيلي جلسات لمناقشة قصيدة محمود درويش عابرون في كلام عابر والتي جاء في مطلعها أيها المارون بين الكلمات العابرة ويهاجم فيها الاحتلال بالحقائق والتاريخ المزيف بالتاريخ الحقيقي والواقع المفروض بقوة السطو المسلح بسطور من الحقيقة التي يحاولون طمسها بالأسماء العبرية وبالمستوطنات الحجرية. يومها لم يتمكن الكنيست الإسرائيلي من إصدار قرار بمنع تلك القصيدة لتظل الأكثر إيلاماً للإسرائيليين تماماً كما يؤلمها الآن صبي يترك لأمه رسالة يستسمحها أن ترضى عنه ويغادر إلى الاستشهاد على حاجز للاحتلال وليطعن جندياً ويخطف سلاحه ثم يطلق النار على البقية الذين تجمدوا خوفاً داخلياً تاريخياً لم تمحه أسلحة القتل الشامل والصفقات المشبوهة. تجلى الفزع الإسرائيلي وهستيريا القلق من قصيدة محمود درويش التي كتبت إبان الانتفاضة الأولى عام 1988 فبدأت المعركة كأنها لا تدور على الأرض بل تدور على أرض القصيدة تلك. كما شنت حملة صحفية وإعلانية واسعة في إسرائيل عليها ترجمت القصيدة إلى اللغة العبرية وتوحد اليسار واليمين في جبهة واحدة تحت ادعاء أنها تهدد الوجود الإسرائيلي وتدعو إلى إبادة اليهود ورحيلهم ونفيهم ورميهم في البحر. وصل الأمر إلى أن اتخذها اليمين الإسرائيلي إعلاناً انتخابياً لأنها ضمنت لحزب الليكود مقعداً انتخابياً يحتاج إليه للانفراد بالحكم. وقام اسحق شامير رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بقراءة مقاطع منها في الكنيست الإسرائيلي البرلمان كدليل أن الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية مستحيل وأن العرب يريدون رمي إسرائيل في البحر ولا يعترفون بوجودها. وقتها أوضح درويش أن القصيدة تدعو إلى إنهاء الاحتلال وتدور حول الانتفاضة في الأراضي المحتلة وتنادي بإقامة دولة فلسطينية في حدود 1967 إلا أن القصيدة اتهمت بالقنبلة وبالخطر وبالطاعون من قبل المثقفين الإسرائيليين وسيّست وفسرت أنها تتحدث عن محو كامل للوجود الإسرائيلي. وأجزم أن درويش ابن الجليل وحيفا ويافا وعكا واللد والرملة كان يعني ما ذهب إليه الإسرائيليون تماماً. انصب جزء من الحملة على القصيدة بالغضب على شخص درويش وما يمثله من الفلسطينيين والعرب في الأراضي الفلسطينية عام 1948 والذين يتعرضون لسياسة التمييز العنصري وتمارس بحقهم مخططات الطمس ومحو قوميتهم العربية والثقافية. وكأن محمود درويش ليس من حقه أن يعود بنشيده إلى قريته التي ترعرع فيها وهي قرية البروة التي احتلت عام 1948 وخرج منها طفلاً لاجئاً هائماً في أصقاع الدنيا ليقول للإسرائيليين هذه بلادي كان لي هناك بيت وطفولة وأحلام وكان لأبي حصان وحقل ولأمي حبل غسيل وأغنية وماض ومستقبل. وظل حتى وفاته يحن إلى قهوة أمه. قال درويش في القصيدة: أيها المارون بين الكلمات العابرة احملوا أسماءكم وانصرفوا واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة وخذوا ما شئتم من صور كي تعرفوا أنكم لن تعرفوا كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء. أيها المارون بين الكلمات العابرة كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة وانصرفوا وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس أو إلى توقيت موسيقى مسدس فلنا ما ليس يرضيكم هنا فانصرفوا ولنا ما ليس فيكم: وطن ينزف وشعب ينزف وطن يصلح للنسيان أو للذاكرة. أيها المارون بين الكلمات العابرة آن أن تنصرفوا وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا. بعد أكثر من ثلاثين عاماً من عابرون في كلام عابر لم تزل الحقيقة الصلبة أقوى من الواقع المزيف. يقول صديقي زياد خداش الكاتب المدرس الفلسطيني المغروس في ارضه: قبل أسبوع وبالصدفة جلست قربه على صخرة أمام بحر يافا كان طلابه أمامه وكان طلابي أمامي يصنعون من الموج مدينة. كانت مدينة طلابي تندفع نحو مدينة طلابه وتمحوها فيعاود طلابه بناء مدينتهم ويعاود طلابي تدميرها. وهكذا أمضى طلابي وطلابه النهار كاملاً يبنون ويدمرون. قال: قبل أربعة آلاف سنة عاش أجدادي اليهود هنا فأنا من هنا هذا ما يقوله التاريخ وليس أنا. بالمناسبة أنا مدرس تاريخ يكمل زياد: قلت له : قبل التاريخ عاش أجدادي الفلسطينيون هنا فأنا من هنا هذا كله يقوله البحر وأنا. بالمناسبة أنا مدرس تاريخ أيضاً. في طريق العودة إلى رام الله كنت أؤكد لطلابي أن الرمل يكذب وأن الموج صادق حد العاصفة.