في مدينة الأبيض سيدي الشيخ فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ -الجزء الثالث والعشرون- بقلم: الطيب بن ابراهيم دراسة التصوف بتقليد متصوفة المنطقة قد يُدْرس الإسلام من طرف المستتشرقين داخل أو خارج الديار الإسلامية في الجامعات وفي المدارس والمعاهد العليا الغربية الخاصة بالدراسات الشرقية كما فعل الآلاف من المستشرقين الغربيين لكن الأمر يختلف عندما يدرس التصوف الإسلامي داخل العالم الإسلامي نفسه وفي معاقل ومراكز التصوف والإقامة بجوار الزوايا وبين السكان والمريدين وتقليد وتقمص حياة المتصوفة في مظاهرهم من حيث المأكل والمشرب والملبس والحياة في الخلوة الصومعة والعزلة عن الناس فالصورة تكون أكثر وضوحا وأكثر ارتباطا بمحيطها والموضوع يكون اقرب للفهم والتأمل والدراسة أكثر دقة وعمقا . فالدراسة في هذه الحالة تشبه الانتقال من قاعة الدرس النظري إلى قاعة المختبر وهذا هو النهج الذي اتبعه مستشرقو دارسة التصوف الإسلامي بالأبيض سيدي الشيخ . بداية أصبح زعيم المجموعة روني فوايوم يسمِّي نفسه بشيخ الخلوة والاسم له دلالته الصوفية فالمعروف اصطلاحا أن صاحب الخلوة هو سيدي الشيخ وخلوات سيدي الشيخ موجودة في كل اتجاهات مدينة الأبيض وهو صاحب أكثر من مئة خلوة وتقربا لسكان المنطقة وقبائلها ومريدي الطريقة الشيخية ولدهاء مخططي التنصير أطلق القس روني فوايوم زعيم المجموعة على نفسه اسم شيخ الخلوة وأطلق على مقر إرساليته اسم الخلوة وأطلق على زملائه اسم إخوان الخلوة Les frères de la solitude. ولم يأت اسم شيخ الخلوة وإخوان الخلوة وزاوية الخلوة من فراغ أو مجرد صدفة ولكنه كان عملا مدروسا مبرمجا ومخططا فهو يعرف مكانة سيدي الشيخ صاحب الخلوات ويعرف دلالة الخلوة وهو المكان الصومعة الذي يخلو به العابد الزاهد وينقطع عن الناس فعمل ذلك ليس حبا في هذا ولا ذاك ولكن لاستراتيجية مشروع الارسالية وأبعاده. ولم يتوقف عند ذلك بل واصل رئيس الإرسالية عمله ونشاطه رفقة مجموعته خارج الأبيض بإقامة خلوات متعددة ومتنقلة تماما كما كان يفعل سيدي الشيخ صاحب الأكثر من مئة خلوة. بالإضافة لمظاهرهم التي تميزوا بها فشيخ الخلوة ولويس غاردي وميلاد عيسى أطلقوا لحاهم وارتدوا العباءة بل حتى عباءة الصوف كان شيخ الخلوة يلبسها والبرنوس والعمامة وسبحة مثبتة في الحزام بها صليب صغير ودائما على صدورهم رسم القلب المقدس بلون أحمر . وإذا كانت الزاوية الإسلامية في نظر هؤلاء المستشرقين يتزعمها رجال دين وتقوم بخدمات اجتماعية وخيرية فلم لا تقوم زاوية إخوان الخلوة بنفس المهام وبإشراف رجال دين أيضا وهذا تقليد في الشكل والأسلوب لحياة متصوفة المنطقة خاصة والشمال الإفريقي عامة. *إقامة الخلوة كانت الخطوة الثانية التي اتبعها هؤلاء الدارسون للتصوف هو الخروج خارج المدينة والقيام خلال عدة أيام في حياة خلوة وعزلة بعيدا عن الناس لا يأخذ معه صاحب الخلوة إلا القليل من الزاد بالإضافة لحقيبة بها كتبه وأوراقه وأقلامه وهو كل ما يحتاج إليه أثناء خلوته . أول مكان اختار رئيس الإرسالية شيخ الخلوة ليخلو به بداية من يوم 14 سبتمبر سنة 1934 هو مكان يسمى حاسي بتوام يقع جنوب غرب الأبيض سيد الشيخ فجهز الناسك أمتعته وخيمته وانتقل لمكان خلوته ليخلو بها لمدة ثمانية أيام لكنه لم يستطع إكمال مدته وعاد بعد أربعة أيام يوم 18 سبتمبر أما خروجه لخلوته الثانية فكانت رفقة ضيفه القادم من فرنسا الأب دوريو Duriaux ابتداء من 18 نوفمبر سنة 1934 إلى غاية 27 من نفس الشهر باتجاه جبل تيسمرت ثم واصلا رحلتهما نحو البنود سيرا على الأقدام حوالي 80 كيلومترا واضطر ضيفه الفرنسي بسبب العطش إلى شرب ماء الغدير المتجمع من الأمطار والذي لم يتعودا عليه أما خلوته الثالثة فكانت يوم 3 أكتوبر سنة 1935م لمدة خمسة عشر يوما اختار لها مكان يسمى بالبنود هي اليوم بلدية جنوب غرب الأبيض وهناك كانت بداية تأليف كتابه في قلب الجمهور الذي صدر سنة 1950م وترجم لأكثر من عشرين لغة. أما كبير دارسي التصوف في مدينة الأبيض سيدي الشيخ لويس غاردي المعروف في الأبيض ب ماري أندري فكانت خلواته أكثر ومداها أطول ومتعددة الأماكن أول خلوة صومعة له كانت يوم الأربعاء 13 ديسمبر سنة 1933 رفقة زميله جورج غوري وهي اسبق خلوة لغاردي على غيره باتجاه جبل تيسمرت وهو آخر جبال سلسلة الأطلس الصحراوي جنوب غرب الأبيض بحوالي ثماني كيلومترات أما خلوته الثانية فكانت يوم الخميس 3 أكتوبر سنة 1935م رفقة زميله القس مارسال إلى حاسي بتوام جنوب غرب الأبيض ودامت مدة خمسة عشر يوما وكانت خلوته الثالثة يوم الجمعة 15 نوفمبر سنة 1935م رفقة زميله مارسال أيضا إلى النخيلة شمال غرب الأبيض سيدي الشيخ بالقرب من دائرة بوسمغون حاليا وهو مكان شبه جبلي يتوفر به الماء ومناسب أحسن من مكانهما الأول . وكانت خلوة غاردي الرابعة مدة شهر وهي الأطول بالمقارنة مع خلواته السابقة بدأت من 9 مارس إلى 3 افريل سنة 1936م في البنود وهكذا توالت الخلوات لغاردي ولبقية زملائه. وما نلاحظه أن غاردي في أول خلوة له خرج لها في جبل تيسمرت كان برفقته بناء أسباني وكان يعتزم بناء خلوة ثابتة لكنه تخلى عن الفكرة وعمل بالتقاليد المحلية إقتداء بسيدي الشيخ في التعبد في الخيم عن طريق الخلوات المتنقلة غير الثابتة في الصحراء. وعند مجيء القس المصري جورج شحاتة قنواتي إلى الأبيض سيدي الشيخ استغل غاردي مجيء زميله واصطحبه معه في رحلة خلوة إلى مكان يسمى الدفالي حوالي 15 كلم شمال المدينة رفقة شيخ الخلوة روني فوايوم ودامت الخلوة عدة أيام ومن هنا انطلقت أعمالهما المشتركة الكبيرة حول دراسة التصوف الإسلامي ومن هنا أيضا قال المستشرق المصري جورج قنواتي أن منطقة الأبيض من أحسن الأماكن في العالم لدراسة التصوف الإسلامي. أما ميلاد عيسى فذهب في خلواته إلى أبعد النقاط عما كان معروفا فبالإضافة لأماكن الخلوات التي كانت معروفة لسابقيه روني وغاردي والتي تطرقنا لها آنفا أضاف لها أماكن أخرى ابعد منها مسافة عن الأبيض تصل إلى حوالي 120 كلم وهي حاسي بوزيد والمتيلفة وأدخل تنظيمات دقيقة على كيفية الخروج إلى الخلوة. لم يكتف هؤلاء الدارسون للتصوف بهذه المظاهر داخل مدينة الأبيض سيدي الشيخ والتنقل بضواحيها للخلوات لدراسة التصوف الإسلامي بل واصلوا ذلك خارج المدينة في رحلات عبر الصحراء ولمسافة مئات الكيلومترات وعلى ظهور الجمال فشيخ الخلوة بعباءته الصوفية تنقل عبر الصحراء من الأبيض سيدي الشيخ إلى مدينة المنيعة على ظهور الجمال في رحلة دامت اثنى عشر يوما سنة 1938م وزميله ميلاد عيسى لبس العباءة والبرنوس وسار على الأقدام بصحبة الجمال من الأبيض إلى بني عباس لمدة خمسة عشر يوما وتكررت الرحلات عدة مرات. يتبع...