مراصد إعداد: جمال بوزيان أخبار اليوم ترصد آراء أساتذة حول الصفوة والمجتمع والتغيير تفاهم وتقارب الحضارات ثمرة تحدث بعد استكمال البناء العالمي تعيش الأمة واقعا سيئا ومن حين إلى آخر يتزايد حصادها المر وما تزال تتخبط في أتون من الأخطار والأزمات والمشكلات بعيدا عن نهضة حضارية تنعشها. سألنا أساتذة عن أسباب تعطل التغيير الحقيقي وأين يكمن الخلل؟ وهلِ الجهود ليست بحجم تطلعات الشعوب وآمالها وأحلامها أم الأهداف لا يمكن تحقيقها عبر الوسائل المتاحة حاليا؟ وهلِ التغيير الإيجابي المنشود غير مدروس أو مدروس لكن دون عمق؟ وهلِ الصفوة النخبة متكونة ولها القدرة الكافية لإحداث واقع جيد للأمة تنهض فيه من سباتها العميق وإزالة الفجوة المعرفية الواسعة جدا أم ذاك يحتاج وقتا طويلا؟ ***** خديعة التقارب والحوار بين الأمم الحضارية.. مدخل أساس إلى تكريس الضعف د. محمد عبد النور بداية يمكن قياس التغيير من مدخلين مترابطين عضويا هما: أ- معيار التغيير ب- غاية التغيير وما طبيعتهما؟ وقبل على ذلك نسأل: ما الأشياء التي بين أيدينا كمكاسب تتعلق بمستوى مكانتنا بين الأمم؟ وأي المكاسب التي تتعلق بمدى ارتباطنا بالفطرة الإنسانية الأولى؟ في الواقع الجواب عن السؤالين الأخيرين سيحدد المعيار والغاية فالمعيار هو مستوى المكانة بين الأمم والغاية هي مدى حفظنا للفطرة الأولى حيث الأول هو معيار غريزي بتعلق بالقانون الطبيعي والثاني هو معيار أخلاقي متعلق بالقانون الحضاري فإذا كان السعي لتحقيق المكانة بين الأمم يدفع إليه الحس الغريزي فإن السعي لتحقيق الارتباط بالفطرة الأولى يرفع إليه الحس الأخلاقي. المعيار الفعلي للتغيير هو المكانة بين الأمم والمكانة بين الأمم أساسها القوة (الشوكة) بما هي ريادة في مجالات الاجتماع والاقتصاد والسياسية والحرب وتحقيق القوة غايته السيادة وقانون السيادة أنها لا تكون مشتركة بين الأمم بعكس معتقد الكثير من نخبنا فالسيادة على الذات وعلى العالم هو أمر لا يقبل القسمة على اثنين وقليل من معرفة التاريخ يجعلنا ندرك ذلك بعيدا عن أوهام التفاهم والتسامح بين الحضارات فالحوار والتوازن بين الحضارات لا يمكن أن يحصل حقا إلا بإشراف حضارة متغلبة تفرض منطقها على البقية.. فإعادة صياغة العلاقة بين الحضارات تحصل فقط عند المنعرجات التاريخية التي تتحول فيها موازين القوة الحضارية كما يبدو أنه يحصل حاليا. أما غاية التغيير فهي حفظ الفطرة الإنسانية الأولى وحفظ الفطرة الإنسانية أساسه الحكمة (الجاه) بما هي تسديد في الشأن العلمي والفني والديني وكل المتع الرمزية وغاية الحكمة تحقيق السعادة وقانون السعادة أن الإنسان محدود محدود في سلوكه ومحدود في حياته وبعكس ما يعتقد أكثر الناس فإن السعادة في الاكتفاء لا في السعي الدائم لقد أصبحت الغاية اليوم هي السعي لذاته بحيث اختزل الأمل الإنساني في المسير المجرد من غاية للوصول فالحاصل اليوم أن الإنسان هو إما ساع للتحصيل بلا غاية في قيم الرزق أو ساع للتفكيك بلا نهاية في قيم الذوق حتى أصبح المال والعلم قيمتين نهائيتين للرزق وأصبحت المتعة والإنتاج قيمتين نهائيتين للذوق. لقد انتهى الأمر بالحضارة الحالية بأن جعلت كل شيء على مشرحة العقل والإرادة المطلقين فبقي البشر بلا مقدّسات أو محرّمات تحمي موروثهم البيولوجي (التوجه الطبيعي المعقول للغرائز) وموروثهم الروحي (التوجه الغريزي المعقول إلى الماوراء) هكذا وصلنا إلى مرحلة تغيير الخلق ... لذلك فإذا نظرنا اليوم إلى حضارة الإسلام -ورغم ضعفها الشديد- نجدها ما تزال واقفة على مكاسب مهمة فهي فيما تعلّق بمكانتها بين الأمم محتفظة بوجودها لمجرده إذ المعلوم أن الحضارات قد لا تضعف فحسب بل تنهار إما بفناء ديمغرافي محتم بسبب إبادة أو تهجير أو وباء أو بفناء رمزي بسبب تحول عقائدي أو انقلاب روحي أو ردة دينية فما يزال اليوم في مجتمعات الإسلام عروق تنبض منعتها من الانهيار نهائيا بالزوال من التاريخ أو من الاندراج نهائيا في حضارة أخرى. أما فيما يتعلق بحفظ الفطرة الأولى فحضاراتنا موصولة بقيم الفطرة معرفيا واجتماعيا وذلك بواسطة النص المحفوظ الصريح العبارة والواضح التوجيه الذي يعيد الضمير إلى أسسه الفطرية مهما انطمس الأمر على الإنسان كما وأنها ومن رغم الانزلاقات الكثيرة التي حصلت ما تزال وعلى انزلاقاتها محافظة على الأسرة كقيمة تأسيسية للجماعة البشرية وتلك هي القيم التي ما تزال تربط شعوب العالم الإسلامي كما وأنها تشكل عامل استقطاب عميق لشعوب العالم الأخرى أفرادا وجماعات عندما تتغلب على ذاتها وتتخلى عن مظاهر السيادة والسعادة الخادعين القائمين على فلسفة السير بلا وجهة وصول.. . إن التحديد المتقدّم للمكانة الحالية للحضارة الإسلامية بين بقية الحضارات يجعل اليأس والإحباط الذي يحيا فيهما الإنسان المسلم غير مبرر من حيث كون المكانة الحالية منطلق جيد للبداية فيكفي أن يعلم كل فرد -نخبة أو غير نخبة- أنه ما يزال رافدا بين جنباته لبذور العودة إلى صناعة التاريخ مجددا سواء العودة إلى السيادة أو الوصول إلى السعادة الحقيقيين فالسيادة أساسها القوة والسعادة أساسها الحكمة كما تقدّم. فالمهمة اليوم هي على شقين شق بنائي وشق دفاعي فيكفي أن يكون كل فرد مسلم مستعدا للقيام بأحد الدورين دور البناء ببلوغ ذروات الاقتصاد والصناعة والحرب ودور الحفاظ على معيار العلم والفن والدين والأهم في كل ذلك تجاوز خديعة التقارب والحوار بين الأمم الحضارية لأنها مدخل أساسي إلى تكريس الضعف فهي في النهاية انصياع لشروط واملاءات الغالب الحالي لأن التفاهم والتقارب بين الحضارتين لا يكون هو البداية بل هو ثمرة تحصل بعد استكمال البناء. والواضح أن ذلك يقتضي مقاومة مضاعفة مقاومة الذات التي مردت على استمراء الخطاب الذي يصدره القوي وذلك بالتمييز الواضح بين (خطاب القوي) الذي يصدره المتغلب سرا أو علنا و(خطاب القوة) الذي يجب أن تتبناه حضارتنا ومقاومة العالَم الذي يسعى لطرح ما بقي من (أسباب القوة) عندنا أرضا ليخلو له وجه السيطرة والهيمنة نهائيا بعد أن نغدو من (أسباب القوي) واستمرار هيمنته. وإن كان لي من اقتراح فهو ضرورة الانطلاق من تأمل حقيقة التمانع والتفاصل بين (خطاب القوي) الذي تصدره قوى الهيمنة و(خطاب القوة) الذي يجب أن نؤسس له وأيضا تأمل وإدراك حقيقة التمانع والتفاصل بين (أسباب القوة) التي التأسيس لشروطها وبين ضرورة التحرر من أن نؤبد أنفسنا ك(سبب للقوي) بوصفه دورا نرضى به لنكون أسبابا في تقوية مواقف ومواقع الآخرين فهذا الإدراك هو أساس التغيير الإيجابي المنشود. ***** التغيير الحقيقي يبدأ بزرع مفاهيم البناء أ. راضية زمولي إن النظر الى المطالعات الفكرية الهادفة والأفكار والمعارف المهمة حول التغيير التي لا حصر لها ولا غنى عنها لأي أمة تبغي النهوض أو أي مثقف يهتم بتغيير واقعه ومحيطه.. عند النظر الى هذه الأخيرة وإسقاطها على الواقع المعاش الذي يوحي بجهل متفش وغفلة متأصلة في أعماق مجتمع مريض. يدعو إلى حتمية للتغيير والنهوض بالأمة من قاع الظواهر والآفات المنشرة.. ثم إن المتأمل في فشل الحلول الليبرالية الديمقراطية وحتى الاشتراكية الثورية في كل المجالات يدعو إلى البحث عن الخلل والمشكلات المانعة للتغيير بين الجهود المبذولة والتطلعات المرجوة وبين الأهداف المسطرة والوسائل المتاحة ودور النخبة في كل هذا. ها قد أبانت الحلول المستوردة والدخيلة على مجتمعاتنا أخيرا على فشلها الذريع فكان إثم هاته الحلول أكبر من نفعها.. وقد كانت مشكلة التغيير الاجتماعي من أهم المسائل التي شغلت الفكر الإنساني والتي يمكن تجسيدها في محورين وتفسيرين أساسين لهاته المشكلة هما التفسير المادي لكارل ماركس والتفسير المثالي لصاحبه هيجل.. فأما الأول فهو الاتجاه الذي يتبع الفكر بالمادة يرى أن وعي الناس يتحدد بوجودهم الاجتماعي أي أن التغيير الاجتماعي يخضع لعوامل خارجة عن الوعي..أما الثاني اتجاه يرى تبعية المادة للفكر أيأن وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم إن الوعي أو الفكرة هو السبب في التغيير.. وقد يكون هذا التفسير صالحا في رقعة جغرافية معينة قد تصدق على المجتمعات الأوروبية مثلا فلا يمكن وصفها بالشمولية والعالمية فأنى لنا بإسقاطها على مجتمعنا المسلم؟. اما في موروثنا الفكري يؤكد المفكر مالك بن نبي هذا في أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها وليس العكس فليس واجبا لكي ننشئ حضارة أن نشتري كل منتجات حضارة أخرى فذاك ممتنع كما وكيفا فحتى يركِّب العالم الإسلامي حضارتَه في زمانه هذا وجب عليه أن يرجع إلى تلك الصيغة التحليلية التي تصنع كل ناتج حضاري: ناتج حضاري = إنسان + تراب (مادة) + وقت.. ومعلوم أن وجود المتفاعلات غير كاف لحدوث التفاعل في الاتجاه الصحيح المراد إذ لابد من تدخل مركِّب ما يؤثر في مزج العناصر الثلاثة.. إن هذا المركِّب ليس سوى الفكرة الدينية التي رافقت تركيب كل الحضارات خلال التاريخ.. فكما كانت الفكرة الإسلامية مركِّب الحضارة الإسلامية فكذا الفكرة المسيحية مهدت الطريق لحضارة الغرب بالرغم من أن هذه الفكرة لم يُكتب لها أن تعمل وتؤثر إلا قرونا بعد ميلادها بخلاف الفكرة الإسلامية التي تزامن ميلادها وانخراطها في بناء حضارة المسلمين ويذكر هنا مثال نهضة اليابان المعروفة التي تنافس كبرى الدول الأوروبية في شتى ميادين الصناعة والعلم فهل كلفها ذلك ان تتجرد عن شيء من طقوسها الدينية أو ما تؤمن به من مقدسات أو أن تهجر شيئا من معابدها بل كانت من الشعوب التي عرفت كيف تختار ما تراه الأصلح لها من مدنية الغرب مع الاحتفاظ باستقلاليتها وقوميتها وآدابها وثقافتها.. وقد أشار المفكر مالك بن نبي هنا الى معضلة التخلي عن الهوية فقال: .. وكلما حدث إخلال بالقانون العام الخلقي في مجتمع معين حدث تمزق في شبكة العلاقات التي تتيح له أن يصنع تاريخه.. . اختلفت أسس أو انطلاقة أي تغيير من وضعية الى أخرى ومن هنا اختلفت أساليب التغيير فمنها ما هو ثوري عنيف كمحاولة للخروج من جور أو فساد أو قمع على مجتمع ما تغييرا جذريا شاملا للانتقال من مرحلة إلى أخرى ومنها ما هو هادئ في أساسه إصلاحي في هدفه دون اللجوء للقوة لتحقيقه.. وقد يرى البعض خاصة الأوروبيين أنه لا يرقى إلى مستوى التغيير في شموليته..أما في المجتمع الإسلامي قد تبلور الفكر الإصلاحي على يد العديد من الرواد والمفكرين في العالم الإسلامي في عصر النهضة على يد الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والشيخ عبد الحميد بن باديس في الجزائر.. وقد كان للمفكر بن نبي دور كبير في طرح الخلل على عدة مستويات وإيجاد الحلول لمشكلة التغيير وذلك في منحه كل عنصر من عناصر التغيير قيمة في ذاته مشروطا بتحديد العلاقات المجتمعية وقد قال في ذلك: .. إن شبكة العلاقات هي العمل التاريخي الأول الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده.. .. إذنفنهضة العالم الإسلامي عنده: .. ليست في الفصل بين القيم إنما في أن يجمع بين العلم والضمير بين الخلق والفن بين الطبيعة وما وراء الطبيعة حتى يتسنى له أن يسير عالمه طبقا لقانون أسبابه ووسائله وطبقا لمقتضيات غايته.. . تعد النهضة والتغيير الحقيقي بأهدافه المنشودة أو الأهداف التي يرغب أقطابها تحقيقها في الفكر العام والواقع المتحرك هدفا وغاية حقيقية وطالما كان أعلام هذه النهضة والتغيير يريدون مخلصين أن يُدخلوا بلدانهم العصر الحديث والمتطور في مختلف جوانبه السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية - الاجتماعية والواقع أن هذه الظاهرة لم تخلُ من مفارقة كبرى المتجسدة في سؤال النهضة حول كيفية الحفاظ على الموروث والتقليد بينما كان العالم الذي كان يحيط بالنهضة العتيدة يفكر ويتحرك وبالسرعة والحيوية نحو المستقبل والسير حثيثا في طريق عصر التنوير (القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) ومع كل ذلك فقد سعى الكثير من رواد النهضة إلى الإصلاح والتغيير والتجديد في مجالات الدين والعلم والفكر والأدب ولكن سارت الرياح بما لا تشتهي السفن كما يقال وللمسألة أسبابها الشائكة والمعقدة وبعبارة اليوم لم ينقلب مشروع النهضة ليصبح هما جماهيريا عاما أي إحداث النقلة الكبرى في العالمين العربي والإسلامي على صعيد حياة الشعوب بغية الدخول بجدارة واقتدار إلى العالم الحديث: فكرا وحياة وروحا وعقلا رغم توفر الوسائل أو البذرة الأولى للنهوض وبداية التغيير. إن البحث في الحلول أو التمهيد لبداية التغيير يدعو إلى زرع بعض المفاهيم الأساسية في المجتمعات الباحثة عن التطور بما فيها المكاسب الأخلاقية بعيدا عن موجات التخنث والتقليد الأعمى مرورا بالعناية بالفكر والتعليم والنهضة والثقافة والفن والعديد من المجالات لحدوث التغيير الاجتماعي وبناء صرح الحضارة فالفرد للجماعة والجماعة للفرد. *****