في زمن الاستعمار الإنجليزي للهند، كان الوطنيون الهنود يتندّرون من مثقفين، من بني جلدتهم، يبذلون قصارى جهودهم في تقليد المستعمر البريطاني في كل شيء، في طريقة عيشه، في ممارسة رياضاته، وفي إظهار اللكنة البريطانية أيضا، فالويل كل الويل لمن احتفظ بصبغة «الهنودة» في نمط من أنماط عيشه. كان هذا هو شعار التحضّر. ولعلّ من نتائج هذا التقليد المَرَضي من هذه الفئة لأسيادها المحتلين احتقارٌ شديدٌ لبني الجلدة من عامة الشعب. وعلى الرغم من أن الاستعمار ولّى إلى غير رجعة فإن بقايا الانتلجنسيا الهندية المتغربنة لا تزال تعبّر عن حنين لزمن غابر تتحسر عليه. ولا تشذّ الهند عن بقايا الدول التي تعرضت للاستعمار، ومنها البلدان العربية. ولعل حالة المثقفين العرب في الغرب، ونتحدث هنا عن فرنسا، لا تختلف عن حالة المثقفين الهنود أيام زمان. فبيْن رغبة في تقليد المستعمر السابق، المتفوق في كثير من المجالات، إلى الخوف من فقدان المنصب والهالة في حالة التعبير عن موقف (يكون هذا الموقف عادلا بكل المقاييس والأعراف ويتطلب الصدعُ به) لا يعجب الرأي العام السياسي والثقافي السائد. ويكتب باسكال بونيفاس في كتابه الأخير «المثقفون المزيفون» (سنة 2011): «الخوف من الاتهام بمعاداة السامية له ثقل مزدوج: فالعربي يتعرض، ب«سهولة» للشبهة. ومن ينتقد إسرائيل يشتبه به بصفة أسرع. وإذا أراد عربي ما أن يبقى مرتاح البال فعليه أن يتجنب التعبير عن الشرق الأوسط، اللهمّ إلا إذا كتب ب(شجاعة) لصالح إسرائيل، الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط المهددة من قبل الإرهاب». ويضيف باسكال بونيفاس: «لا أزال أحتفظ في ذاكرتي بلقاء جمعني مع مثقف مسلم تم تسويقُه باعتباره (معتدلا)، وتتلقفه وسائل الإعلام. كنا في ندوة خارج فرنسا، فتقدّم ليتبادل الحديث معي، حدّثني عن السَِِّجال الذي كنتُ موضوعا له سنة 2001 (إبان محنته بسبب انتقاده لإسرائيل). كان خطابه هجوميا على مواقف إسرائيل، إلى درجة اعتبرتُ فيها هجومه مُبالَغا فيه. في اليوم التالي، التقيتُ به في المطار، حدّثتُهُ عن ندوة حول الصراع في منطقة الشرق الأوسط ينوي معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (يديره بونيفاس) تنظيمها، تحضُرُ فيها كل الحساسيات الفرنسية حول الموضوع إضافة إلى إسرائيليين وفلسطينيين. رأيت امتقاع وجه مُحدِّثي، وبدل أن يُجيب توجَّهَ نحو الجمارك بخطى متسارعة أتصور أن إيقاعها كان سيسبق إيقاع عدْو أوسين بولت (العدّاء الجامايكي الشهير) نفسه. لقد بدا لهُ أنّ التعبير، علانية، عن موقفه حول الصراع العربي الإسرائيلي سيُهدِّدُ، بالتأكيد، مستقبله المهني». (المثقفون المزيفون صفحتا 76 و77) هي حالة من حالات معاناة المثقف العربي في الغرب. فإما السكوت في المواضيع الخلافية والتطرق للمواضيع التي تساعد على الشهرة (حالة الصحافي الجزائري محمد سيفاوي مثال ناصع وبليغ، كما ورد في كتاب بونيفاس)، من خلال جلد الذات وتحقيرها والاستعداد لكل حملة تواقيع يظهر فيها تخلُّف الشرق وانتشار غيبياته، وإما العيش في هامشية مميتة لا تستطيع التأثير على الأحداث المتسارعة. ثمة حالة أخرى، ولعل الحالات المتفردة كثيرة، مثل قيام مفكرين من أصول عربية وإسلامية بانتقاد مواقف عنصرية ومشينة، فعلا، لمفكرين وعلماء غربيين، لكن بعد موتهم. وهو ما فعله الباحث التونسي عبد الوهاب المؤدب في مقال له في مجلة «إيسبري» الشهيرة (عدد أغسطس/ آب 2011) عن «الإسلام في كتاب (مدارات حزينة)» للأنثروبولوجي الفرنسي الراحل كلود ليفي شتروس. يرى المؤدب أن شتروس سطّر صفحات رهيبة عن الإسلام في نهاية كتابه «مدارات حزينة». ويعيب المؤدب على شتروس عدم فهمه لرمزية أعجوبة الزمن: «تاج محل». كما أنه يناقش زعمه بأن الإسلام حابى الذكر على حساب الأنثى. وينطلق المؤدب من هذه الأعجوبة (تاج محل)، ليفند زعم شتروس وليكشف جانب الأنثى فيها، في علاقة وثيقة سرية مع الفلسفة الأكبرية للمتصوف محيي الدين بن عربي، العزيز على قلب المؤدب. «تاج محل معمار إسلامي يأخذ بعين الاعتبار ثنائية المُذكَّر/ المؤنث، المُؤسِّسَة للوجود». (مجلة «إيسبري»، ص 78). وينهي المؤدب مقاله: «يكفينا أن نستنتج أن نفس الشخص (المُؤلِّف) يمكن أن يكون في نفس الكِتاب حاملا للبصيرة والعمى، للهذيان والوضوح، للخرف والتمييز (...). والإنسان، في حقيقة الأمر، ليس معصوما. وليفي شتروس، في كلامه عن الإسلام، بدا مثله مثل أي إنسان آخر، يحمل في داخله التناقض الوجداني الذي يُشيّده اتحاد المتناقضات». (ص 86) وتحديدا فإن هذه العناصر المتناقضة التي يذكُرُها عبد الوهاب المؤدب، من بصيرة وعمى، ومن هذيان ووضوح، ومن خرف وتمييز، هي التي تسكُن المثقف العربي الذي استجار بواحة الغرب وفيْئها.