دهلي أو كما سماها البريطانيون «دلهي» بعد احتلالهم الهند، كانت فيما مضى حاضرة إسلامية تضارع بعمرانها وازدهارها التجاري حواضر الشرق الشهيرة مثل بغداد والقاهرة ودمشق. لم تُعرف دهلي على قدمها في التاريخ طريقها إلى الشهرة إلاّ بعد قرابة خمسة قرون من بداية الفتوحات الإسلامية بها مع حروب محمد بن القاسم الثقفي حوالي عام 89 للهجرة 707م. ويعود الفضل في ظهور دهلي على مسرح الأحداث كحاضرة إسلامية ثم كعاصمة للهند كلها إلى القائد التركي الأصل محمد الغوري الذي فتح شمال الهند، حيث تقبع دهلي على ضاف نهر يمنا، وقد فتح قائدُه الشهير قطب الدين أيبك دهلي حوالي عام 592 للهجرة، وبعد وفاة الغوري أعلن قطب الدين نفسه سلطاناً على الهند واتخذ من دهلي عاصمة للبلاد من عام 602 للهجرة ومن وقتها لم تتخل دهلي عن موقعها المركزي في بلاد الهند. أما تسمية المدينة باسم «دهلي»، فهناك من يرى أنها سميت باسم الملك موريان راجا ديلو، ولكن ثمة تأكيدات بأن اسمها فارسي الأصل من «دهليز» وتعني الحد، بينما يعتبر البعض أن الكلمة مشتقة من «ديلي» أو «دهالي» الهندوسية التي تعني حداً أيضاً، فهي بذلك مدينة على حد وعتبة الهند. وقد شهدت دهلي أياماً من الازدهار والانحدار عبر تاريخها، وتقلبت بين رغد العيش وبريق الذهب وجحيم الحروب المدمرة والمذابح الرهيبة. «قوة الإسلام» وقد زودها قطب الدين أيبك بمسجدها الأقدم «قوة الإسلام» الذي يزدان بالمئذنة المعروفة باسم قطب منار، وهي ترتفع لأكثر من 220 متراً وجمع هذا السلطان في مسجده بعضاً من أعمدة المعابد الهندوسية التي هدمها ومنها عامود هائل يرجح أنه كان بمعبد أجمير الشهير عند الهندوس. وواصلت دهلي الازدهار في عهد ألتمش المملوكي، حيث أسس القصر التاريخي المعروف بقصر المرايا، وهو مقر حكم سلاطين المماليك بالهند. ومن هذا القصر حكمت أول سلطانة مسلمة البلاد، وهي السلطانة رضية ابنة ألتمش حوالي عام 628 للهجرة، وكانت تقود الحملات بنفسها وتجوب الأسواق في ملابس الرجال وتجلس إلى الناس وتستمع إليهم سابقة شجر ة الدر بنحو عقدين. وزار الرحالة المغربي ابن بطوطة دهلي وقت حكم السلطان المملوكي محمد بن تغلق وتولى وظيفة قاضي المدينة، وكتب عن أسواقها وعادات أهلها قبل أن يغادرها في عام 734 للهجرة 1342م. ولم يقيض لابن بطوطة أن يشهد محاولة السلطان نقل العاصمة إلى منطقة ديوكر الحصينة لتجنب غارات المغول القادمين من الشمال، فقد أسس مدينة دولت أباد ونقل إليها دواوين الحكومة ثم زود سكان دهلي بالمؤن وأعد لهم وسائل النقل وأمرهم بالرحيل بأمتعتهم إلى العاصمة الجديدة، ولكن أغلب الناس هلكوا بالجوع والمرض في الرحلة الطويلة 700 ميل وهُجرت دهلي وصارت خرائب قبل أن يعيد فيروز شاه بن تغلق مقر الحكم إليها في حوالي عام 750 للهجرة لتبقى عاصمة لعموم الهند من يومها. ولم تكد دهلي تستعيد عافيتها حتى حاصرها تيمورلنك واقتحمها عام 801 للهجرة وسلب جنودُه الأهالي، فضلاً عن ارتكاب مذبحة مروعة راح ضحيتها حوالي مئة ألف من سكان العاصمة. الامبراطورية المغولية ولكن أحفاد تيمورلنك الذين أسسوا الامبراطورية المغولية بالهند كفَّروا عن سيئات غزوة تيمور الجد واتخذوا من دهلي ميداناً استعرضوا فيه كل فنون العمارة الإسلامية وإلى فترة حكم أباطرة مغول الهند التي تمتد لقرابة ثلاثة قرون تدين دهلي القديمة بشهرتها السياحية كمتحف معماري مفتوح يزخر بالمساجد والقلاع والقصور التاريخية، وكان بهادر شاه آخر حكام المغول وفي أيامه استولى الإنجليز على الهند في أواخر القرن التاسع عشر. ودهلي اليوم ثاني أكبر مدينة بالهند بعد بومباي ويسكنها اليوم حوالي 15 مليون نسمة من مختلف الأعراق والديانات السائدة في شبه القارة الهندية ومن اللافت أن الحكم الإسلامي لم يغيِّر طبيعة التركيب السكاني للمدينة على مر عصورها ويدين سكان المدينة اليوم بالهندوسية بنسبة 82 في المئة وتبلغ نسبة المسلمين 12 في المئة والسيخ 4 في المئة وبقية السكان من أقليات مثل الجينية والمسيحية واليهودية والبوذية. وتنقسم المدينة إلى قسمين مميزين أولهما دهلي القديمة التي تُعرف أيضاً باسم شاه جيهان أباد نسبة للإمبراطور المغولي شاه جيهان، وهي المدينة الإسلامية الزاخرة بالمباني الأثرية والأسواق والمطاعم الشعبية والقسم الثاني هو نيو دلهي أو دلهي الجديدة وهي مدينة استعمارية شيدها الإنجليز لتكون مقراً للحكم وعلى النقيض من دهلي القديمة ذات الطرقات الضيقة فإن الجديدة ذات شوارع واسعة فسيحة تكثر بها الأشجار والحدائق وتغص بالمباني الحكومية والعمائر الحديثة وتعد أكبر مركز تجاري بالبلاد. ويحس زائر العاصمة بأنه انتقل من عالم إلى آخر مختلف تماماً عندما يتنقل بين قسمي دلهي، ولكنه في كل الأحوال سيجد ما يشبع رغباته المتناقضة. المعالم السياحية في دهلي القديمة يجد الشوارع مزدحمة بحركة الناس وعربات الركشة الشهيرة، وكذا الأبقار "المقدسة" التي تمرح طليقة في كل مكان والأسواق المفتوحة التي تبيع كل شيء من أقمشة الساري الهندي بألوانه الزاهية البديعة ومُنتجات الأخشاب وحتى المشغولات الذهبية البراقة. ومن أشهر هذه الأسواق التي يقصدها السائحون سوق «كاروي بام» المشهور بمنتجات الجلود والأقمشة والمشغولات الذهبية والأدوات المنزلية وسوق «تشاتا تشارك» القلعة الحمراء وهو يعود إلى عصر المغول ويعدُّ أثراً تاريخياً وسوق «كونوت»، وهو عبارة عن عدة شوارع ضيقة حافلة بالحوانيت التقليدية أما القسم الملكي المعروف بشاه جيهان أباد ففيه مجموعة من الأسواق منها «مينا بازار» و»داريبا كالان» و»نايا بازار» و»تشور بازار». ومن أشهر المعالم السياحية بالمدينة مسجدها الجامع الذي يتسع لأكثر من 25 ألف مصلٍ وهو أكبر مساجد الهند وشيده شاه جيهان حوالي عام 1650م. وتحيط به أسواق شعبية للتجار المسلمين وهناك أيضاً ضريح الإمبراطور المغولي «همايون» الذي شيدته زوجته «حاجة خاتون» وفاء لذكراه وأضيف لقائمة التراث العالمي مؤخراً. ومن معالم المدينة القديمة المرصد الفلكي المعروف باسم «جانتار منتار» ويعدُّ من أقدم المراصد الفلكية بالعالم حيث اشتهر الهنود منذ القِدم بمعارفهم الفلكية وقد شيده مهراجا سينغ ويُستخدم لحساب حركات الأجرام بدقة وهو حافل بالهياكل الغريبة. وفي نيودلهي العديد من المعالم السياحية التي يقصدها زوار المدينة مثل «بوابة الهند» التي شيدتها سلطة الاحتلال البريطاني تخليداً لذكرى الجنود الهنود الذين سقطوا في معارك الحرب العالمية الأولى ويقدر عددُهم بنحو 85 ألفاً كتبت أسماؤهم على البوابة. القلعة الحمراء يحرص السائحون على زيارة القلعة الحمراء التي شيدها شاه جيهان حوالي عام 1618م. ويبلغ طول أسوارها الخارجية نحو 2.5 كم ويصل ارتفاع السور إلى 33م. وقد عرفت بهذا الاسم بسبب أحجارها الرملية الحمراء. وبداخل القلعة القصر الإمبراطوري لمغول الهند، حيث قضى بهادر شاه فترة سجنه به عقب الاحتلال البريطاني قبل أن تقوم سلطاته بإعدامه.