1 تمهيد(❊): “إنّ قلبي ليكاد ينفطر حسرة على شعبنا المستعبد في هذه الأرض، لقد أضحى خادما لهذا الملجأ المقيت، يرفع المستعبدون بأيديهم دعامات إذلالهم، يشيدون معقل الغطرسة والطغيان. ولكن صدقني، حينما يظهر من بينهم المنتقمون سوف ترتفع أيديهم ضد من اٌضطهدوهم. وسيحطمون بأنفسهم هذه الحصون المريعة، معقل خزيهم واسترقاقهم “ (1). هكذا يدعو “أمريكي” من البيرو إلى تحرير شعبه الذي حوله الإسبان إلى رقيق، إن الدراما التي كتبها فولتير بعنوان “آلزير” أو “الأمريكيون” والتي أخرجت للمسرح لأول مرة سنة 1736 تشفق على مصير عبيد العالم الجديد وتتعاطف مع ثورتهم وتساند المصالحة النهائية القائمة على أساس الحرية للجميع. وخلال عرض للمسرحية سنة 1766 على متن سفينة الكونت أيروفيل، انبهر جوزيف موسنيرو بالأبيات الشعرية التي سمعها على الرغم من أن شخصية الأميرة إيلزير تقمصها بحار قوي البنية ذو عضلات مفتولة، وكان تحت خشبة هذا المسرح مئات من البشر يقبعون في قعر السفينة، جلبوا من إفريقيا في حالة مزرية لنقلهم إلى جزر الكاراييب.
أ. غريش نقله إلى العربية د. محمد العربي ولد خليفة
2 المثلث الرهيب: فبماذا يفسر هذا الفصام؟ إنّه موجود في نص فولتير نفسه، فبالرغم من ورود عبارة استعباد “الأمريكيين” في هذا المؤلف إلا أنه تحاشى أي ذكر لسوق العبيد عبر القارات التي يجلب إليها الأفارقة، والتي كانت في أوجها في الحقبة التي كتب فيها فولتير هذا الكتاب، أثناء سرده لبعض فصول قصة الكونت وقد أشار الباحث الجامعي كريستوفر ميللر في مؤلفه: “المثلث الفرنسي الأطلسيس The Frensh Atlantic Triangle، إلى “أن البحارة ومعهم فولتير كانوا يكيلون بمكيالين إلى درجة أنهم يبدون الأسف والتعاطف مع أميرة البيرو، بينما يقبع تحت أرجلهم أفارقة مكبلون بالسلاسل ينتظرون موعد الإبحار الكبير، وتنتظرهم عيشة الرقيق هذا إذا بقوا على قيد الحياة”. ويتجسّد هذا التناقض في نص الرواية في شخصية موسنيرون: فهو من مروجي تجارة الرقيق التي تفتك بجسد القارة الإفريقية وهو في نفس الوقت رجل حداثي يواكب زمانه، يقرأ ما جادت به قريحة الفلاسفة وخاصة جون جاك روسو. وبالرغم من تنديد الكتاب الفرنسيين بإبادة إسبانيا لهنود أمريكا التي عرفت تاريخيا بتطرفها الكاثوليكي(2)، فإنّهم تغاضوا عن الخوض في مسألة السفن التي تمخر عباب البحر انطلاقا من بوردو أو نانت وعلى متنها شحنات من “خشب الآبنوس” وهي تحمل، في بعض الأحيان، اسم فولتير أو العقد الإجتماعي... وخلال القرن الثامن عشر الذي جابه فيه الفلاسفة غطرسة الملكية واستبدادية الحكم وسيطرة الكنيسة، توسعت تجارة الرقيق لتصل ذروتها، فقد وصل العدد الإجمالي للرقيق قرابة مليون و 100 ألف عبد إفريقي نقلوا عبر فرنسا إلى مستعمراتها: الغوادلوب، لامارتينيك، جزيرة بوربون، لارينيون، جزيرة فرنسا التي أصبحت فيما بعد جزيرة موريس، إلخ... وخاصة سانت دومينغ وهايتي قبل المنع النهائي لهذه “التجارة” سنة 1831 الذي تلاه منع تجارة الرقيق في 1848، حيث تم ترحيل 80 % منهم في القرن الثامن عشر من بينهم 270 ألف خلال عشرية الثمانينات من ذلك القرن. لم يكن من السهل اعتبار الاسترقاق في فرنسا قضية وطنية، لذلك تمّ اللجوء إلى طرق ملتوية لتحقيقه: بموجب المرسوم الصادر في 03 جويلية 1315 مفاده منع إمكانية الاسترقاق داخل تراب المملكة (3)، وعندما ازدادت الحاجة إلى اليد العاملة في القرن السادس عشر، تمّ استغلال الأيدي المحلية التي لم تكن تفي بالحاجة، لذلك تمّ استقدام “المتطوعين” البيض الذين دفعت بهم الحاجة للاغتراب خارج فرنسا بإمضاء عقود مدتها ثلاث سنوات، ولم تكن حالتهم أفضل من “السود” فلم يكونوا يتلقون معاملة أحسن. في مقال لناقد مجهول، بعنوان “في ضرورة اعتماد الاسترقاق في فرنسا De la nécessité d'adopter l'esclavage en France(4) يشير كاتبه إلى الفقراء الذين تمّ تشغيلهم مثل الرقيق السود يقول: “أيّا كان الاحتقار سواء أكان طبقيا أم عرقيا، فإنّه في الحالتين استغلال الأقوى للأضعف”. في نهاية القرن السادس عشر، بدأت الأمور تتغير بتناقص عدد البيض المنخرطين في ذلك النمط من الاٌستغلال كما تعرّف الناس على وضعهم البائس، في حين شهد اقتصاد الجزر تحولات كبيرة مع توسع زراعة قصب السكر المربحة والتي تتطلب عددا كبيرا من الأيدي العاملة، لذلك وبعد تردد سلكت فرنسا النهج الذي اتبعه الإسبان والبرتغاليون منذ أمد بعيد. ارتبطت العلاقات بين أضلاع “المثلث العابر للأطلسي على هذا النحو، وكانت فرنسا نقطة انطلاق السفن المحملة بالبضائع، وخاصة الأقمشة، الخمور، البارود، إلخ...من جهة وإفريقيا التي تتمّ بها مقايضة السلع بالعبيد وجزر الكاريبي التي تبادل هذه اليد العاملة بالسكر الذي أولعت به صفوة المجتمع من جهة أخرى، في خضم جدل حول كيفيات توسيع الاٌسترقاق. لاحظ ميللر بأنّه خلال القرن الثامن عشر لم يكن هناك اٌعتراض قوي بين الأوساط الثقافية على تجارة العبيد على الرغم من ظهور المبادئ المناهضة للاٌسترقاق التي بقيت مجرّد تأمّلات نظرية. 3 خطاب عصر الأنوار المزدوج: فعلى سبيل المثال، تطرق “مونتيسكيو Montesquieu” في الكتاب العاشر من روح القوانين “L'Esprit des lois” الصادر سنة 1758 في بعض صفحاته إلى مسألة الاسترقاق مقتصرا على إشارات عامة للتاريخ القديم في اليونان وروما. ولكنّه خصص فصلا صغيرا ساخرا حول تجارة العبيد السود، وقد برره في فصول أخرى بإرجاعه إلى الاختلاف المناخي بين إفريقيا وأوروبا محذرا من مغبة إزالته بسرعة، رسالة ميللر في ل: مونتيسكيو ما يلي: “إنّ اٌستبعاد الاسترقاق لا يعني سوى شعوب إحدى قمم المثلث الأطلسي وهي فرنسا وأروبا على العموم، ولكن يمكن تبرير ممارسته في القمتين الثانيتين وهما إفريقيا وجزر الكاريبي، أي أن مونتيسكيو يرفض الاسترقاق في بلاد الشمال ويبرر ممارسته في بلاد الجنوب. لا نجد في مولف آخر لروسو: بعنوان “هيلويز الجديدة” La Nouvelle Héloise (1761) إي إشارة لمسألة الرقّ ومع ذلك، فهو يكتب في العقد الاجتماعي الجملة التالية بدون أن يؤنبه ضميره: بالنسبة لكم، أيّها الشعوب الحديثة، ليس لديكم عبيد، لأنكم أنتم هم العبيد. وما لاحظه ميللر هو أن “العبيد المكبلين، بالأصفاد، ليسوا أصلا ضمن حيز تفكيره”. ولبث الأمر على ما هو عليه حتى ظهور ميرابو وبيرناردان دي سانت بيار “حكاية الهندين” L'Histoire des deux Indes للقس رينال، الذين ارتووا بفكر دونيس ديدرو، وبدأت تظهر أخيرا بعض الكتابات المنتقدة للاسترقاق واعتباره ممارسة لا انسانية. تفسر هذه المواقف قلة عدد المنادين برفع الاسترقاق في فرنسا، مقارنة بعددهم في انجلترا، وقد لاحظت المؤرخة ف.فيرجيس بأنه “خلال الثورة الفرنسية، لم تنظم أي تعبئة ضد الاسترقاق. تكفي مقارنة ما قام به سكان قرية شامباني الصغيرة الذين طالبوا في سجل الشكاوى إنهاء الاستعباد، بنظرائهم الإنجليز الذين قاموا بجمع 102 عريضة مطالبة بإزالة الاسترقاق والتي تم رفعها في 1788 إلى البرلمان الإنجليزي، بالإضافة إلى جمع 20 ألف توقيع (من مجموع 75 ألف من السكان) في 1791 بمانشستر وهي المدينة الصناعية التي تضم أكبر عدد من الرقيق”(5) فبينما تبنت النخبة في فرنسا قضايا إنسانية نظرية باسم مبادئ لا يمكن المساس بها، بدأ الشعب في إنجلترا منذ 1791 في جمع توقيعات ما يقارب 13 % من الشعب الإنجليزي (الذكور) لعرائض مناهضة للاسترقاق، وهذا ما أعطى هذه الحركة صبغة شعبية. لا يقتصر عمل ميللر تحت عنوان “أدب وثقافة تجارة الرقيق” على ما كتبه الفلاسفة. فهو يتابع مسألة الرقّ عبر ثلاث مراحل، أولها قصص الخيال التي كانت مواضيعها الأساسية حول تجارة العبيد، وقد برزت في المرحلة الأولى أديبات من النساء في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر مثل أوليمب دوستايل، وكلير دوراس وغيرهن اللواتي تميزن بإحساسهن المرهف بمعاناة العبيد، لم يحظ ذلك الأدب بأيّ اٌهتمام فقد كان ضحيّة التعصب ضد “الزنوج”، وظهر في المرحلة الثانية الكتاب الرومانسيون من حقبة ما بعد التجديد التي تميزت بالاهتمام بالمغامرات البحرية والقصص الملحمية، ولكن لم يتعرّف عليها القراء بالقدر الكافي ونجدها على الخصوص في كتابات بروسبر ميريمي، وأوجان سو، والبارون روجي، وإدوارد كوريبار، وأخيرا وبعد أمد طويل ظهر كُتّاب جزر الكاريبي الذين أعادوا قراءة تاريخ الاسترقاق للخروج من الصورة المشوّهة التي رسمها البيض للزنوج وهي صورة أخرجتهم من الحقوق الأوليّة لكل البشر وخاصة بعد تزايد التهجين (الزواج المختلط بين البيض والسود)، وقد ساهم كل من إيمي سيزار (6) إدوارد غليسون، ماريز كوندي في تصحيح تلك الصورة المشوّهة. وبالنسبة لميللر، ليس الأمر مجرد عملية استقراء لأعمال تطرق أصحابها إلى الاسترقاق، ولكن يتعداه إلى محاورة ميريمي وغليسون وفولتير وسيزار، ومحاولة معرفة طبيعة العلاقات بين القمم الثلاث للمثلث الأطلسي وكيفية تسيير تجارة العبيد. وهكذا، تمّ عرض مسرحية ألزير، المذكورة آنفا، بصورة دورية في سانت دومينغ ما بين 1765 و 1782 بعد عزل العبيد والهجين في مؤخرة الركح لحضور العرض. ومما لا ريب فيه أنهم، على عكس ما جاء به فولتير وموسنيرون، كانوا يدركون الفرق بين مصير العبيد الذين أسرهم الإسبان. بدأت أفكار القرن الثامن عشر تتجسد في سانت دومينغ. وهكذا، أطلق اسم ألزير على 24 امرأة من العبيد ما بين 1778 و 1820 بالإضافة إلى قراءة محرر الجزيرة توسان لوفارتور(7) للقس رينال الذي بشر بقدوم “سبارتاكوس أسود”. وفي ثمانينيات القرن التاسع عشر، أثناء إصدار أوليمب دوغوج والسيدة دوستايل لروايتهما حول الاسترقاق، نشطت في كل من فرنسا وبريطانيا حملة ضد تجارة الرقيق والمستعمرات بقيادة تيار يدعو إلى مستقبل أفضل، وهو التيار الذي يضمّ المثقفين الليبيراليين (أمثال آدم سميث أو إيدموند بورك)(8) ألم تخرق الدول المستعمرة مبادئ السوق الحرة بتصدير بضائعها المتواجدة ما وراء البحر بصورة إلزامية للبلد الأم وشراء مقابل ذلك ما ترغب فيه فقط؟ 4 وجهان لليبرالية الأروبية: إلا أنه بعد خمسين سنة، تخلى مؤيدو هذا التيار (جيمس ميل، جون ستيوارت ميل، ألبكسيس دي توكفيل) عن تبنّي أفكار من سبقوهم واعتمدوا التوسّع الكولونيالي، على الرغم من تمسّكهم بالتبادل الحر والمهمة الأساسية للسوق. إنّ هذا التحوّل الداعم لامبريالية الليبراليين هو موضوع كتاب مهم للباحثة الجامعية الأمريكية جنيفر بيتس بعنوان “ولادة الضمير الاستعماري. تابعت فيه مراحل التغير التدريجي في النظريات التي تأثرت بما طرأ على بعض المفاهيم التي كانت تحقر شعوب الجنوب، وتعتمد التصنيف الثنائي للبشر إلى همجيين متوحشين ومتحضرين وقد اٌهتمت الباحثة بدراسة »المنعطف نحو الإمبريالية« (Turning to Empire)، من خلال مؤلفات بعض المفكرين الكبار في تلك الحقبة. نجد في صفحاته إعادة اكتشاف المفكرين الليبراليين الذين لطالما ورد ذكرهم ولكن قراءة كتاباتهم كانت قليلة جدا، كما وضحت الفروق التي تفصل بين الليبرالية الكلاسيكية وما يطلق عليه اليوم الليبرالية الجديدة(9) ولقد تواصل اهتمام آدم سميث ومن جاء بعده بدراسة التجمعات الإنسانية ولا نجد في أبحاثهم ما يشير إلى ما آلت إليه الليبرالية عند رئيسة الحكومة السابقة مارغريت تاتشر التي أنكرت وجود المجتمع (there is no such thing as society) وعلى العكس، فقد قام المنظرون الأوائل بأبحاث معمقة لدراسة المجتمعات الأوروبية وتلك التي اكتُشفت فيما يعرف بالعالم القديم، من جزر أقيانوسيا حتى القارة الأمريكية. أيّد هؤلاء الباحثون التوجّه الإنساني وترسخت لديهم قناعة بأن كل الكائنات البشرية لها منطق معقول يطبقونه في حل مشاكلهم، وفي نظرهم ليس هناك ثقافة في مجملها، أفضل أو أقل شأنا من ثقافة أخرى، إنّ تعدد الأديان والثقافات يمثّل أجوبة لوضعيات مختلفة. قدم آدم سميث آراءه في كتابه “نظرية العواطف الأخلاقية” وأشار مثلا إلى عادة الأمريكيين الهنود بشد رؤوس المواليد الجدد، والتي اعتبرها المبشرون هجمية وغير عقلانية، فإنه يرى أنّها ليست أكثر لا معقولية من الارتداء الإجباري للكورسية لدى النساء في أروبا وأمريكا على الرغم من علمهن بآثاره السلبية على صحة المرأة، أدت به هذه الرؤيا إلى إدانة كل ما من شأنه أن يؤسس لفكرة التفوق الكلي للمجتمعات الأوروبية. حدثت تحولات عميقة في عالم نهاية القرن 18 والعقود الأولى من القرن 19 فبينما كانت أكبر حصة للصناعات والتّصنيع في العالم تتركزّ في الصين والهند فرضت أروبا تفوقها خلال القرن التاسع عشر لأسباب عديدة منها الغنائم الناتجة عن احتلال أمريكا واستيطانها، والأرباح الناجمة عن التجارة المثلثية التي أشرنا إليها فيما سبق، وخاصة التحكم في تقنيات الحروب، فقد مكّن تزايد الصراعات في أوروبا أقطارها من اٌكتساب قدرات على تعبئة مواردها لحملات عسكرية طويلة الأمد، لم تتوفر لدى أضخم الإمبراطوريات في الهند أو الصين، والتي كانت تفوض القادة المحليين أو القبائل لحماية حدودها البعيدة(10) . نتيجة لتلك التجارب، فإن حملات الغزو الناجحة بسبب التفوق العسكري كانت وراء تزايد الاٌعتقاد بالتفوق “الروحي” و«الفكري” للعالم الأروبي منذ تلك الفترة وهو أمر ينطلق من مفاهيم فلسفية خاصة، حتى أن البعض ينسبها إلى اليونان القديمة (11)، بالإضافة لذلك تولدت نظرة احتقار للحضارات الأخرى وبدأت في التنامي حتى أن تلك المجتمعات وصفت ب “الهمجية” و “الراكدة” وحسب ما رواه بيتس في كتابه، فلقد ظهرت دلائل نظرية مشتركة وخصوصا ذلك الشعور الذي ترسخ يوما بعد يوم فيما يتعلق بالعلاقات مع المجتمعات الغير أوروبية فالاعتقاد بالطبيعة التقدمية لحضارة أروبا أعطت الأوروبيين الحق في وضع القيم الفكرية والسياسية، لغيرهم من الأقوام، والتي لطالما حرموا منها هم أنفسهم. وتعتبر السياسة التي اتبعها البريطانيون في الهند أكبر دليل على ذلك، ففي منتصف القرن التاسع عشر، بدأ يندثر ذلك الاهتمام الذي أولاه البريطانيون للحضارة الهندية، “كتب بيتس يقول: كانت في السابق تظهر علامات الإعجاب بهذه الحضارة وإبراز ذخائر الثقافة الهندية لدى أعلى مراكز الإدارة وحتى لدى البريطانيين الذين يسعون إلى التوسع الإمبراطوري وخلال القرن الثامن عشر، كان للمستشرقين المعجبين بالحضارة الهندية مكانتهم ضمن دوائر الإدارة الاستعمارية حتى أنه كان لهؤلاء الحكام ميول للثقافة والتقاليد الهندية (يلبسون الثياب المحليّة، ويتأقلمون مع عاداتهم، يتزوجون من هنديات، الخ) ومع حلول سنة 1850 بدأت الأمور تتغير وحلت نظرة احتقار للأهالي بقيت حتى اٌستقلال الهند. 5 توكفيل الداعية للتوسّع الكولونيالي في الجزائر: في فرنسا، أشار ألكسي توكفيل، في ظروف مغايرة لهذا التوجه نحو الإمبراطورية فلم يكن مجرد داعية للفكر الاستعمار، بل كان من دعاة المتمرسين، حيث أنه قدم العديد من النصائح والتقارير للحكومة الفرنسية حول الجزائر، وكان في نفس الوقت قلقا بشأن المخاطر التي قد تنجم عن الديموقراطية الليبرالية ومشجعا لمواصلة استكشاف مناطق ما وراء البحر لكونها من العوامل التي ترسخ الإحساس بالعظمة الوطنية بين صفوف الشعب الفرنسي، كما أن من شأنها إبعاد الشعب الفرنسي عن الاحتجاجات الاجتماعية. ولقد تم تنظير حق الدول الأوروبية الكبرى في الاسترقاق منذ سنة 1550 من طرف جوان جيناس دي سيبولفيدا وفي مناظرة له مع بارتولومي جي لاس كازاس، عارض هذا الأمر قائلا ؟ هل بإمكاننا تقليص عدد الهنود في الاسترقاق؟ ودافع عن حق إسبانيا في إخضاع شعوب أمريكا. ويعود الفضل لمقال إيمانوال والرستين عن الاٌستعلائية الأروبية فقد أشار إلى أهمية فكر دي سيولفيدا والحجة الأولى لتبرير الاستعلاء هي أن الأمريكيين الهنود »همجيون، بسطاء، أميون، عديمو التربية (...) عيوبهم كثيرة ويمتازون بالقسوة، هم جنس من الأفضل أن يحكمهم الغير، إن الاستعباد الإسباني ضروري وهو يعتبر “كتصويب وعقاب على الجرائم المرتكبة ضد قانون الطبيعة والقانون الإلهي...« وهو يقول إنّ هذا القانون الإلهي هو الذي يسمح للإسبان بمنع انتشار السوء ويزيل الآفات الكبرى التي ألحقها الهنود بعدد كبير من الأبرياء ونجد في النهاية الهدف الأهم ألا وهو: أن السيطرة الإسبانية سمحت بالتنصير المسيحي ونجد فيما كتبه والرستين الحجج الأربع الأساسية التي لطالما استخدمت لتبرير “تدخلات” “التحضرين” من العالم المتطور في مناطق غير متحضرة وهي: 1 همجية الآخرين. 2 واجب وضع حد للممارسات التي تخرق القيم الكونية. 3 الدفاع عن الأبرياء في مواجهة قسوة الآخرين، ضرورة تسهيل انتشار الأفكار الحضارية العالمية universelles . ما هي العلاقة بين فكرتي “تفوق أروبا” و«التقدم”؟ قاوم ماري نيكولا بحزم ذلك التوجّه ودافع عن المساواة بين الرجل والمرأة ومحاربة التمييز العنصري، واٌعتُبر أحد نقاد سياسة الاستعمار وأكثرهم إصرارا على إدانته، كما أنه دافع دوما عن فكرة وحدة الجنس البشري، ويوضح بيتس أنه على الرغم من إدراكه للتقدم كعملية شاملة يتم من خلالها التقليل من النقائص، كلما ازدادت المجتمعات تقدما نحو معرفة الحقيقة على الصعيدين العلمي والفكري، وقد قادته نظريّته في إمكانية التقدّم والتطوّر في خط مستقيم إلى اعتبار الممارسات الاستعمارية خاطئة ومنحطة ولا علاقة لها بالسياسات الرشيدة للعلاقات بين الأمم التي يمكن أن تتطور مع اٌحترام أنماط معيشتها وثقافاتها. قدم كوندورسيت شروحات في كتابة “نبذة تاريخية” Esquisse من خلال رسمه لجدول تاريخي حول تطور الفكر الإنساني، حيث أقر بقرب حلول اللحظة التي يصبح فيها “الأروبيون” بالنسبة لغيرهم متخلفون في حاجة إلى تدريب وتحرير ليكونوا متحضرين، وستكون نهضة الشعوب الموصوفة الآن بالمتخلفة أكثر سرعة لأنهم سيجدون ما كان علينا نحن اكتشافه موجودا باٌعتباره حقائق بسيطة يمارسونها بمناهجهم الخاصة، بينما نحن لم نصل إليها إلا بعد فترة مطولة من الأخطاء وستكفيه التطورات التي شهدها عالمنا وما هو مسجل في كتبنا مشقة البحث عنها من جديد. 6 أروبا الاثنوسانترية هل هي مستقبل العالم؟ تستحق الفكرة السائدة عن أروبا والغرب عموما باعتبارها المركز الأكثر تقدما للحضارة وتختزل وحدها مستقبل الكرة الأرضية، وكذلك فكرة التطور الارتقائي من البربرية نحو التحضر نقاشا معمقا، وهو الموضوع الذي عني به العلماء الانغلوسكسون تحت عنوان دراسات ما بعد الاستعمار Postcolonial Studies وفي كتاب محرض وشائك بعنوان مثير حول أوربا الإقليمية Propvincializing Europe قدم ديبش تشاكرابارتي تحليلا نقديا للرؤيا التي تزعم بأنّ: “أروبا أولا، سواها ثانيا”، والتي كانت حافز ماركس في التصريح بأن “أكبر البلدان تصنيعا تقدم للبلدان الأقل تطورا صورة مستقبلها الخاص” لقد خصصت للشعوب غير الأروبية حسب تعبير تشاكاربارتي “قاعة انتظار افتراضية في مسار التاريخ” هذا التاريخ الذي أصبح يقاس بالبعد الثقافي بين أمم الغرب وغيرها من أمم العالم. غير أنه لا ينبغي إساءة الظن بالكاتب، فبالنسبة إليه، لا يتعلق الأمر بالعودة إلى تحليل مآل العولمة كما يراه ماركس الذي يضع، بالفعل، كل الشعوب في منظومة واحدة لتاريخ مترابط أكثر فأكثر، كما بين ذلك في خلاصة تحليلاته الفلسفية. 7 خلاصة: عند متابعة التناقض والصراع بين الرؤيتين السابقتين (ليبرالية تجريدية وممارسة للتوسع الكولونيالي والاسترقاق) نجد في وقائع التاريخ ما يسمح بنقدهما معا، ومتابعة ما آلت إليه الرأسمالية من امبريالية تمحو كل وعود التيارات الإنسانية التي بقيت مجرد وعود ينبغي أن تبقى هدف الكفاح الجماعي من أجل اٌنسانية تقبل التعايش بالفعل في ظل اختلافاتها المذهبية واٌنتماءاتها العرقية. خلاصة القول، أن الحلّ لا يكمن في التخلص من الفكر الأروبي، بل بتحريره من ظلامية الأمبريالية وتوظيفه ليستفيد الجميع من إيجابياته على غرار ما قام به مناضلو الحرية عبر العالم مثل هوشي منه في فيتنام وسان يات صن في الصين وسيمون بوليفار في جنوب أمريكا والمهدي بن بركة في المغرب.
نقله إلى العربية: د. محمد العربي ولد خليفة عن آلان غريش العالم الدبلوماسي مارس 2008 إحالات (❊) العناوين الفرعية من اقتراح المترجم 1 نقل عن النص الأصلي لمسرحية فولتير، www.voltaire-integral.com/html/03/08Alziri.htm 2 العديد من ترجمات الكتب الإسبانية المنددة بمصير الهنود موجودة بفرنسا منذ القرن 16عشر، من بينها كتاب لاس كازاس، وعلى الأخص “طغيان ووحشية الإسبان في الهند الشرقية” Tyrannies et cruautés des Espagnols حيث صدرت الطبعة الأولى في 1579، أنظر/ إيدوارد دار بيشير سيبر الرأي المعادي للاستعمار في فرنسا خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر Anti-slavery opinion in France during the second half in the eighteenth century . بارت فرانكلين، نيويورك، 1970 (الطبعة الأولى1937) 3 لم يطبق هذا المبدأ بصورة مطلقة، حيث تواجد عدد معين من العبيد في فرنسا المتروبول (أي المتواجدة في أروبا وليس المستوطنات) أنظر، بيار ح.بول “الأعراق والاستعباد في فرنسا النظام القديم” Race et esclavage dans la France de l'ancien régime، بيرين، باريس 2007 . 4 نص مجهول بتاريخ 1797، تقديم، ميريام كوتياس وأرليت فارج، بايار، باريس 2007 . 5 إلغاء الاستعباد الوهم الكولونيالي أ. ميشيل، باريس 2001.. 6 قدم ميللر توضيحات مطولة حول مفهوم سيزار حول “الزنوجة” negritude وساعد على تكوين نظرة جديدة للسود. 7 حول لوسان لوفارتور، انظر، دافيد بريون دافيز، الثورة التي قلبت حال العالم الجديد، الذي يذكر فيه كتاب ماديسون سمارت بال وتوسان لوفارتور، أعمال الجنوب، أرليس 2007 (المجلة الدولية للكتب والأفكار، ع: 2، باريس، نوفمبر ديسمبر 2007) اقرأ بيان الكتاب ، ص 24. 8 مفهوم التحررية يضم مفارقة تاريخية بما أنه لم يحمل معناه الحقيقي إلا في القرن التاسع، وبالنسبة لجنيفر بتس، فإن هذا المفهوم يضم تقاسم عدد معين من القيم: المساواة والحرية وسيادة القانون ومسؤولية الحكام. 9 أنظر Frncois dzenord, Néo-libéralisme version Française, Demopolis, Paris, 2007. 10 نشرت هذه التوضيحات من طرف المؤرخ البريطاني كريستوفر أ. بايلي في 1780 naissance du monde moderne, le monde diplomatique- l'atelier, paris 2006 11 حول لا معقولية فكرة إرث اليونان في أروبا، أنظر Marcel Détienne, les Grecs et nous, perrin, paris, 2005.