بقلم: عبد الباري عطوان إذا كان حضور الرئيس الإيراني محمد أحمدي نجاد قد أعطى زخما خاصا للقمة الإسلامية الاستثنائية التي انعقدت في مدينة مكةالمكرمة ليلة القدر، فإن مشاركة الرئيس المصري محمد مرسي في قمة عدم الانحياز التي انعقدت في طهران، أسست لمعادلة استراتيجية جديدة في المنطقة العربية الملتهبة، بل وربما في العالم الإسلامي بأسره. منظمة دول عدم الانحياز انقرضت منذ عقود بانقراض الحرب الباردة، وسقوط نظرية المعسكرين المتصارعين، الرأسمالي والشيوعي، وتحوّلت مؤتمراتها إلى ظاهرة احتفالية لا أكثر ولا أقل، ولكن انعقادها في طهران في ظل حالة التوتر في المنطقة، على أرضية التهديدات الإسرائيلية الأمريكية بضرب المنشآت النووية الإيرانية، والحرب الدولية بالوكالة المندلعة حاليا على الأرض السورية، جعلا لهذه القمة نكهة سياسية خاصة. كثيرون هاجموا الرئيس مرسي بشراسة لأنه شدّ الرّحال إلى هذه القمة، وقرر حضور فعالياتها، بعضهم كرها لإيران من منطلقات سياسية وطائفية، سياسية لأنها تدعم النظام السوري بقوة، وطائفية لأنها تتزعم الإسلام الشيعي. ونسي هؤلاء مشاركة عدة زعماء عرب، وخليجيين على وجه الخصوص، أي حرام على مصر حلال على الآخرين. ومن المفارقة أن من أبرز الذين يقفون في معسكر المهاجمين للرئيس مرسي الكاتب الأمريكي توماس فريدمان، ولأسباب إيرانية داخلية بحتة على حد زعمه، لأن مرسي الذي وصل إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع في انتخابات ديمقراطية حرة، ما كان عليه أن يحضر قمة تريد كسر عزلة نظام الملالي الذي سحق ثورة ديمقراطية خضراء عام 2009. كراهية فريدمان لمرسي في نظرنا ترتكز على المنطلقات نفسها لكراهيته رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، أي المنطلقات الإسلامية (غير الودية) تجاه اسرائيل، فقد كان حزب العدالة والتنمية التركي النموذج الذي يجب أن يحتذى في رأي فريدمان، لأنه جمع بين الحداثة والعراقة، وزاوج بين الإسلام والديمقراطية وأثبت خطأ النظرية التي تقول بأن الاسلام والديمقراطية قطبان متنافران لا يلتقيان أبدا. ولكن كل هذا المديح لأردوغان وحزبه تبخر دفعة واحدة بعد موقف أردوغان الجريء ضد الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، والسماح بانطلاق سفن الحرية من موانئ بلاده لكسر هذا الحصار. فريدمان يتهم مرسي بالانحياز وهو في قمة عدم الانحياز، إلى الديكتاتورية الإيرانية ضد المعارضة الديمقراطية، وإلى جانب نظام يدعم بقوة سحق الثورة في سورية، ولا نعرف ما إذا كان المستر فريدمان سيتراجع عن هجومه هذا على الرئيس مرسي، ويعتذر مثل آخرين هاجموا وجوده في طهران، بعد أن استمع إلى خطابه الذي سحب فيه الشرعية عن النظام السوري الظالم والقمعي لشعبه، على حد وصفه، أم أنه سيستمر في عدائه لمرسي لأسباب إسرائيلية على غرار عدائه لأردوغان؟ فالمستر فريدمان لم ينتقد زيارة الرئيس مرسي إلى المملكة العربية السعودية، وهي دولة غير ديمقراطية، ولا يعرف شعبها شيئا اسمه صندوق اقتراع أو برلمان منتخب، وغير مسموح أن توجد فيها حركة ديمقراطية، خضراء أو زرقاء، على غرار الحركة الإصلاحية الإيرانية. ومن المؤكد أنه كان سيرحب بحرارة أكبر بالدكتور مرسي لو كانت أول زيارة خارجية له إلى تل أبيب، وليس إلى الرياض أو الصين أو طهران، سائرا على نهج الرئيس الراحل محمد أنور السادات. خطاب الدكتور مرسي الذي ألقاه أمام وفود المؤتمر في الجلسة الافتتاحية كان خطة عمل إقليمية، وعناوين لمشروع سياسي، وتدشينا لعودة دور مصري، إقليمي وربما دولي، غاب لأكثر من أربعين عاما، سيلقى، أي المشروع، ترحيبا من بعض الدول وقلقا من أخرى، ولذلك لم يكن انسحاب السيد وليد المعلم وزير خارجية سورية من القاعة أثناء إلقاء الرئيس مرسي لخطابه مستغربا، لما تضمنه من هجوم ساحق ومفاجئ على النظام السوري، مفاجئ لأن الدكتور مرسي أطلق اثناء مؤتمر القمة الإسلامي في مكة مبادرة لتشكيل لجنة رباعية تضم الدول الأربع الكبرى في المنطقة (تركيا، مصر، إيران والسعودية) لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية، يضع حدا لإراقة الدماء، وهجومه هذا على النظام السوري، وغير المتوقع ربما، يقلل من شأن هذه المبادرة إن لم يكن قد نسفها من أساسها. ما يمكن استقراؤه من كلمة مرسي هذه أن مبادرته التي جاءت غامضة في خطوطها العريضة، بدأت تتبلور حول محور أساسي وهو تنحي الرئيس الأسد، وهذا يشكل حتى الآن خطا أحمر بالنسبة إلى القيادة الإيرانية التي أكدت في مرات عديدة بأنها ستدعم النظام السوري حتى النهاية ولن تسمح بسقوطه. عديدون توقفوا عند امتداح الدكتور مرسي للرسول (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الأربعة، رضي الله عنهم، واعتبروا ذلك تحديا للقيادة الايرانية وبعض اتباع المذهب الشيعي الذين يتطاولون على هؤلاء بالشتائم، باستثناء سيدنا علي بن ابي طالب، رضى الله عنه، وهذا تفسير ينطوي على الكثير من التبسيط. فالتحدي الأكبر في رأينا هو في شن هذا الهجوم غير المسبوق على النظام السوري من رئيس مصر، الدولة العربية الأكبر، بعد أن كان موقف مصر يتسم بالمواربة وعدم الوضوح في الشأن السوري، فإذا كان هناك خلاف بين مصر وإيران لا يجب أن يكون على أساس الطائفية، وإنما على أساس المصالح، فمصر كانت دائما فوق كل الطوائف في رسم سياساتها وتحالفاتها الإقليمية والدولية. الدكتور مرسي استغل وجوده في قمة عدم الانحياز للانحياز إلى جانب المعارضة السورية، وضد النظام في دمشق، وقد يكون بذلك سحب البساط من تحت أقدام دول احتلت موقع الصدارة في هذا الملف، مثل تركيا، والمملكة العربية السعودية ودولة قطر، ووضع مصر بثقلها الإقليمي أمام عجلة القيادة في هذا الملف، وملفات أخرى حالية ومستقبلية. الحرب الدائرة في سورية ستطول وستزداد شراسة في الأسابيع والشهور المقبلة، وفرص الحل السياسي تتراجع بسرعة متناهية، للأسف الشديد، وكل حديث عن مبادرات ووساطات ومقترحات لمبعوثين دوليين هو محاولة لتحويل الأنظار عن هذه الحقيقة الدموية شديدة الوضوح. إنها حرب يجب أن تنتهي، وفق من يصبون الزيت على نارها، بمنتصر ومهزوم ولا مكان للتعادل فيها، ومن الواضح أن مرسي يريد للنظام أن يكون هو المهزوم، وهذا رهان مصري غير مسبوق في هذه الأزمة.