بقلم: إبراهيم صموئيل أي خسارة فادحة كانت ستحل بثقافتنا العربية لو أن يد أبي حيّان التوحيدي (310-414ه/922-1023م) طالت جميع مؤلفاته ومخطوطاته -لا بعضها فقط- ورمت بها إلى ألسنة النار، بعد أن دهمه الحزن، وحلت به الخيبة، ونال منه اليأس جراء الإجحاف بحقه، والتنكر لأهمية مؤلفاته، وتجاهل القيمة الكبيرة لمنجزه الثقافي؟! لقد شاءت الأقدار المحافظة على عددٍ من مؤلفات هذا العالم الجليل التي شكلت -إلى جانب أعمال رموزنا الثقافية- منارات وهاجة أضاءت بل صنعت صرحنا الثقافي الحضاري، كما شاء حظّنا الطيب -نحن أبناء الأجيال التالية- نوالَ الفرصة الذهبية لأن نتعلّم ونتأدب وننهل من تلك الثقافة الموسوعية العميقة. وفي العودة إلى سيرة هذا العالم الجليل يتضح لنا وسط أية معاناة مريرة وظروف مادية وروحية بائسة وشقية ألّف أعمالَه مغالبا الفقر والعوز، ومعانيا من الإهمال، تدفعه إلى الكتابة والتأليف أصالةُ ثقافته وحبه للأدب، وحميّة روحه لتأدية رسالة رأى في إنجازها مبررا لوجوده ودوره في الحياة. ولقامة التوحيدي العالية وأهمية أعماله التي وضعها، خصص الباحث والمؤرخ الكبير ياقوت الحموي عددا من صفحات كتابه الشهير (معجم الأدباء) للحديث عنه وبيان فضله، متعجبا من تجاهل أدباء ومؤرخي عصر التوحيدي له، وملقبا إياه بشيخ المتصوفين وفيلسوف الأدباء. رغم ذلك أقدم أبو حيان التوحيدي على إحراق عدد من مؤلفاته (انتقاما من الناس الذين كفّروا صنيعه) وفق أحمد أمين محقق أشهر كتاب له: (الإمتاع والمؤانسة) وشعورا عميقا لدى عالِمنا بأنه لم يجنِ من مخطوطاته سوى الظلم والفقر كما يبوح هو نفسه قائلا (إني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمدّ الجاه عندهم، فحرمت ذلك كله، ولقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء وإلى التكفّف الفاضح عند الخاصة والعامة..)! محنة التوحيدي لم تقتصر على عصر ولى وانقضى، وإنما هي متكررة مستمرة حتى عصرنا الراهن. ومحنة التوحيدي هي محنة الكتابة، ومختلف الأشكال الإبداعية، في حاضنها الاجتماعي والفكري السائدين. لنتذكر، في هذا الوجه من المسألة، محنة المفكر المصري المعاصر نصر حامد أبو زيد، ودرجة معاناته جراء الحملة التكفيرية عليه وعلى أعماله! نحن لسنا في قلبه وروحه لنعرف بدقّة حجم الألم الذي انتابه، ومساحة الأسى والحزن في روحه جراء ما لاقاه مما كرس حياته وجهده وفكره لتقديمه للثقافة العربية والعقل العربي.. بيد أننا يمكن أن نقدّر ذلك (فضلاً عمّا كتبه وصرّح به) من اضطراره مكرهاً إلى مغادرة بلده، والهجرة النهائية إلى بلد آخر! لم يحرق أبو زيد كتبه وأعماله، غير أنه أحرق مراكبه حين غادر بلده مقهورا مرغما، وقد خلف وراءه مأساة لا تقل فداحة عن مأساة التوحيدي! وفي مثال آخر يكفي أن نستعيد ما كتبه الناقد المعروف رجاء النقاش يوما عن سميرة عزّام في جملة قاطعة، بالغة الدلالة، من أنه (لم تُظلم كاتبة في الوطن العربي كما ظُلمت سميرة عزّام) لندرك حجم الحيف الذي لحق بالمبدعة العربية هذه! فسميرة عزام التي اعترف بفضلها كاتب كبير مثل غسان كنفاني حين قال: (إنها أستاذتي ومعلمتي) لم تكن رائدة القصة القصيرة زمنيا فقط، بل هي -قبل ذلك وأهم منه- رائدة حقيقية في المستوى السردي، والتكثيف، وزاوية الالتقاط، مما نضج بعدها بزمن وتحقّق في فن القصة القصيرة عربيا. ورغم هذا -بل بسببه- يمكننا تقدير الخيبة المريرة التي استوطنت روح هذه الكاتبة المبدعة فأحرقت وجدانها وآمالها قبل أن ترحل مبكرا في سنها وعطائها. فيما بعد كتب عنها الكثير، وقُدّرت حق قدرها وريادتها -في حركة اعتذار نقدي متأخرة!- بيد أن خيبتها لم تخفت بأثر حرف واحد مما كُتب، لأن رحيلها سبق الاعتذار!! وعلى هول إحراق التوحيدي لعدد من مؤلفاته تحت وطأة الجحود والفقر واليأس.. فإن العقل ليسأل لا عن عدد العلماء والأدباء والفنانين الذين كتبوا وألفوا وأنجزوا ثم ما حصّلوا سوى التنكر والأحزان، ولا عن عدد الذين خنقهم الإحباط وذلهم الإهمال والحيف في مختلف مراحل تاريخنا العربي... بل أيضا عمن أنبأتهم رؤاهم، وكشفت لهم بصائرهم، وبثّت فيهم حدوسهم بأنه لا جدوى ولا طائل من إفناء العمر بالثقافة والتأليف والتثقيف؟!. يخطر للعقل أن يسأل عن عدد الذين أرعبتهم المصائر البائسة التي آلت إليها أعمال وحيوات الكثير من المبدعين، فامتنعوا عن أن يضعوا كتابا، مفضلين أن تدفن معهم ثقافتهم وعلومهم من أن تهدر على مذابح الإهمال والتهميش والنكران؟! أولئك الذين ربحوا أنفسَهم وكرامتهم ربما، لكننا خسرنا معارفهم وإبداعاتهم بكل تأكيد!!؟. يخطر للعقل أن يسأل عن هذا الممكن الكامن الذي لم يتحقّق ويرَ النور، وهو ليس بالقليل، ولا بالبسيط! الحياة الثقافية في سوريا تعرف جيدا اسم علمٍ من أعلام المثقفين الباحثين الدارسين، وتشهد لكفاءته وتوازن تفكيره وعمق رؤاه واتساع معارفه هو (أنطوان مقدسي) الذي عاش عمراً طويلاً ثم رحل من دون أن يؤلف ويصدر كتابا أو كتابين طيلة حياته. وأذكر أنه حين سُئل مرة عن الأسباب، اكتفى بأن تبسّم ابتسامة سخرية ممزوجة بالأسى، وغيَّر الموضوع! ليس من الحتمي أن يؤلف عالم أو يكتب كاتب أو يبدع فنان، ثم يلاقي ما لاقاه شيخنا التوحيدي ليدرك المأساةَ ويعتبر منها! يتعظ المرء أحيانا ممن سبقه أو عايشه وعاصره، فيكف وينأى فلا يتحصل لدينا إلا الخسران في ثقافتنا، وإلا مراكمة اليأس واللاجدوى، سواء في نفوس من أعطوا وخذلهم مجتمعهم، أو في نفوس من امتنعوا إنجاء لأنفسهم من الخذلان والخيبة!!.