بقلم: عادل لطيفي شهدت مصر انقلابا في الوضع السياسي كان مطلعه حركة تمرد شبابية مجتمعية جمعت حولها حشدا من المصريين لا يمكن إنكار حجمه وانتهت بمباركة عسكرية أثارت المخاوف من عودة الجيش إلى التحكم في الأفق السياسي لمصر ولثورتها. بعيدا عن مصر أثارت إزاحة الإخوان عن الحكم التساؤل حول إمكانية استعادة السيناريو المصري في تونس، خاصة وأن حركة تمرد تونسية قد تشكلت وهي تحاول حشد التوقيعات في انتظار حشد الجماهير ضد المجلس التأسيسي كما يرى القائمون عليها. لكن المدقق في الحالتين يلاحظ من الفروق الكثير مما يجعل من الصعب استنساخ الحدث المصري في تونس دون أن يعني ذلك استمرار الوضع التونسي على ما هو عليه. بعد تدخل الجيش المصري لحسم موقف كان بطبيعته في ذروة التأزم، تحول السؤال عن طبيعة الحراك المجتمعي الضخم المعارض للرئيس المصري محمد مرسي إلى سؤال يبدو لي شكليا وهو حول طبيعة ما حدث، إن كان انقلابا أم ثورة؟ إن الحسم العسكري جاء تتويجا لزخم شعبي هائل على عكس الانقلابات العسكرية التقليدية التي يكون فيها الانقلاب مسقطا على الشارع. وفي هذا السياق لا بد للإخوان أن يطرحوا السؤال الجوهري حول الأسباب الموضوعية لهذا الاحتجاج الشعبي عوض البحث عن مبررات واهية لتخوين الشارع والمحتجين كما فعل السلف المخلوع. بعيدا عن رهانات الواقع المصري، يعد تدخل السلطات الأمنية بأصنافها متوقعا في مثل هذه الوضعيات. أي وضعيات الانتشار الشامل للعنف الاجتماعي بما يهدد الأمن العام المنذر بدوره بسقوط الدولة. إذ عادة ما تبقى السلطات الأمنية ومنها الجيش هي الضامن لاستمرارية الدولة خاصة في المجتمعات التي تتمتع بقدر من تقاليد العمل السياسي المدني وحيث النظام السياسي منفصلا عن الدولة. وكنا قد شاهدنا هذا التدخل العسكري الأمني في تونس كذلك لحسم الموقف 14 يناير 2011 والإسراع بدفع الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي إلى مغادرة البلاد مما حدا بالبعض إلى الحديث عن انقلاب في تونس وليس عن ثورة. لا يمكننا أن ننسى كذلك أن استمرار نفوذ المؤسسة العسكرية في مصر بعد الثورة كان قد ساهم فيه الإخوان إلى حد ما، وكان ذلك في أول مرة عندما قبلوا بخارطة الطريق التي وضعها الجيش، والحال أن شباب الثورة في ميدان التحرير كان لا يزال ينادي بإسقاط حكم المشير. ثم كان ذلك في مرة ثانية عندما أعلن عن الدستور الذي أعدته القوى الإسلامية والذي قبل بالحفاظ على امتيازات المؤسسة العسكرية بما فيها سرية ميزانيتها. بعيدا عن المستوى السياسي ومن وجهة نظر معرفية أرى أن السؤال الأهم هنا يتمثل في التساؤل حول خلفيات انزلاق مسار ما بعد الثورة في مصر إلى الاحتكام للشارع. هنا تبدو المقارنة مع الحالة التونسية مهمة خاصة وأنها تساعدنا على الإجابة عن تساؤلنا حول إمكانية تكرر السيناريو المصري في تونس. إن تشابه الوضع السياسي العام في كلا البلدين لا يعني بالضرورة أننا إزاء نفس الحالة وبالتالي إزاء نفس المآل من المواجهة. هناك نقطة فارقة تتعلق بطبيعة المجتمعين، فعلى المستوى الاجتماعي تبقى السمة الطاغية على المجتمع المصري هي الصبغة الفلاحية بالرغم من توسع الحواضر ونمط العيش الحضري الذي استقبل أعدادا كبيرة من النازحين من فوائض الأرياف. يتميز هذا النمط الريفي بهيمنة نوع من المحافظة الاجتماعية والدينية كما يتميز بشدة التمايز الطبقي والسلطوي الذي يجد تعبيراته في المجتمع المصري في هشاشة الطبقة الوسطى. مثل هذه العلاقات السلطوية تفسر إلى حد ما أن عمليات التحول الاجتماعي والسياسي كانت تتميز غالبا بنوع من الصدامية مثلما حصل خلال الثورة العرابية وثورة 1919 ثم ثورة فبراير 2011، أي إن الحراك المجتمعي في مصر يأتي عادة في شكل مخاض صعب لكنه لم يصل يوما إلى مرحلة الانتشار الشامل للعنف ويعود ذلك إلى قدم تقليد الدولة المركزية وقوتها. على خلاف ذلك تتميز الحالة التونسية بالتراجع الكبير للصبغة الفلاحية الريفية في المجتمع، وبتنامي المدن الوسطى والصغيرة الداخلية التي استوعبت الفائض الديمغرافي الجهوي مما خلق نوعا من التوازن بين المدن الكبرى والأرياف. نضيف إلى ذلك حيوية الطبقة الوسطى في تونس وأهميتها اجتماعيا وسياسيا مما يجعل من التاريخ السياسي التونسي موسوما بنوع من السلمية ومن التواصل. عامل آخر مهم يميز بين الحالتين ويتمثل في دور المؤسسة العسكرية، فإن كانت للمؤسسة العسكرية المصرية سطوة ونفوذ منذ العام 1952، وتدعمت بفعل المواجهة مع إسرائيل، فقد أريد للمؤسسة العسكرية التونسية أن تكون جمهورية بالفعل ولا تتدخل في الشأن السياسي عموما وهي من بين الإنجازات التي تحسب لبورقيبة. يفسر هذا العامل كذلك اختلاف المسارات بعد الثورة في البلدين. إذ مر الحال في تونس بسرعة إلى مرحلة انتقالية توافقية في حين بقي الوضع المصري رهين التجاذب بين القوى السياسية والجيش في مرحلة أولى، وهو ما يحيلنا إلى الحديث عن اختلاف على مستوى الشرعية في البلدين. ففي مصر بقيت الشرعية الانتخابية تشكو من نوع من الهشاشة بسبب الاختلاف حول الدستور، وكذلك بسبب قلب الأحكام القضائية للمعادلة في عديد المرات. أما في تونس فقد كانت الشرعية الانتخابية أوضح وأمتن بسبب التوافق الكبير الذي قام حولها. لكنها في الحقيقة شرعية فقدت الكثير من مصداقيتها بسبب التأخير في صياغة الدستور وبسبب ضعف المشروع المقدم ثم بسبب تجاوز مدة السنة التي تم الاتفاق عليها قبل الانتخابات. إذ لا يمكن اختصار الشرعية في مستوى الانتخاب فقط، فالأهم من ذلك هو شرعية الأداء بما تعنيه من حسن تسيير للدولة ومن تحقيق للبرامج الانتخابية وللوعود خاصة ونحن في مرحلة انتقالية وليس في مرحلة استقرار ديمقراطي. أي إن هذه المرحلة تبقى بصفة عامة محل تجاذب بين الشرعية الثورية والشرعية الانتخابية والشرعية التوافقية. هل من سيناريو مصري في تونس؟ أرى أن مختلف العناصر التي تم تقديمها هنا تؤكد على الفوارق بين الحالتين بالرغم من أن الوضع العام، أي مرحلة ما بعد الثورة مع حكم الإسلام السياسي، تبدو نفسها. وربما أذهب أبعد من ذلك إلى القول بأن السيناريو المصري كانت قد شهدته تونس يوم 8 فبراير 2013 يوم دفن المناضل شكري بالعيد. إذ يعتبر احتشاد الجماهير التاريخي يومها بمثابة احتجاج شعبي عارم ضد سياسة الحكومة وتساهلها مع العنف مما أوصل البلاد إلى الاغتيال السياسي الصادم للتونسيين. في ذلك اليوم اهتزت الشرعية الانتخابية إن لم نقل قد انهارت ودخلت البلاد في شرعية توافقية جديدة غير مصرح بها، ويذكرنا هذا المشهد بالوضع المصري يوم 30 جوان أي يوم الحشد ضد مرسي. من جهة أخرى قدم الجنرال رشيد عمار قائد الجيوش المتخلي شهادة مهمة تقول بأنه تدخل في ذلك اليوم وطلب من الوزير الأول السابق حمادي الجبالي الدعوة إلى حكومة تكنوقراط. وهذا التدخل من طرف المؤسسة العسكرية يذكرنا بتدخل المؤسسة العسكرية ممثلة في شخص عبد الفتاح السيسي لحث الأطراف السياسية على إيجاد مخرج في مرحلة أولى ثم لفرض تصوره للخروج من الأزمة في مرحلة ثانية. هكذا دخلت تونس مرحلة توافق جديد لعبت فيها مكونات المجتمع المدني دورا مهما من حيث انخراطها في التوسط بين الفاعلين السياسيين، وهي ميزة مهمة من ميزات الحالة التونسية والمتمثلة في حركية وحيوية مكونات المجتمع المدني وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل الحاضن التاريخي لاحتجاجات التونسيين منذ نشأته. وقد بادر الاتحاد في الفترة الأخيرة مع رابطة حقوق الإنسان وعمادة المحامين ونقابة الأعراف برعاية حوار وطني لإيجاد توافقات حول الدستور. والواقع أن ترسخ دور هذه الهيئات (التعديلي) لا نجد له مثيلا في الواقع المصري، مما يجعل من كل توتر سياسي فرصة للمواجهة واحتدام التوتر. هكذا يمكن القول بأن استنساخ الحالة المصرية في تونس يبقى أمرا مستبعدا بالنظر إلى المعطيات الهيكلية المذكورة. لكن إطالة مدة الفترة الانتقالية دون تحديد موعد نهائي للانتخابات وفي ظل تأزم الوضع الاقتصادي والاجتماعي، مع رداءة مشروع الدستور المقترح قد تجعل من اندلاع حراك شعبي ضد الترويكا في تونس احتمالا ممكنا وخاصة في المناطق الداخلية من تونس مهد الثورة والتي مل انتظارها من وعود لم تتحقق.