بقلم: عادل لطيفي لقد مكن سياق الثورة في البلدان العربية، وخاصة في الحالات التي آلت إلى حد أدنى من الاستقرار السياسي، من استعادة بعض النقاشات ذات الطابع الفكري والثقافي على مستوى وسائل الإعلام وداخل الفضاء العمومي، وذلك بعد أن كانت منحصرة في الإطار الضيق للجامعيين وللنخب بصفة عامة. ومن بين هذه المواضيع موقع الإسلام من الحياة العامة ومن القوانين، والفرق بين الإسلام وما يسمى بالإسلام السياسي. ومما سهل أمر هذا السجال نسبيا هو وصول عديد الحركات الإسلامية للحكم بعد أول انتخابات نزيهة، لكن ما لم يكن يحسب له الإسلاميون حسابا هو أن الحكم غيَّر وضعهم من مواجهة الدولة باسم المجتمع إلى مواجهة المجتمع ذاته. النجاح الانتخابي للإسلاميين قد لا يتفق البعض مع تسمية الإسلام السياسي، وخاصة من هم منخرطون في إطار العمل داخل هذا الصنف من التعبيرات عن الإسلام، لكن لا بد من إبداء ملاحظتين هنا: تتمثل الأولى في أن التعبيرات عن الإسلام متعددة وهذا لا يمكن أن ينكره أحد ولو بدعوى أن الإسلام واحد، فعديد التعبيرات السنية تختلف عن التعبيرات الشيعية كما تختلف كلها عن التعبيرات الصوفية، وهذه مسألة طبيعية لأننا نتحدث عن النظرة إلى الدين وليس عن الدين نفسه. أما الملاحظة الثانية فتتمثل في كون تسمية الإسلام السياسي تسمية معرفية أكاديمية تستعمل في علم اجتماع الأديان وفي التاريخ وفي الأنثروبولوجيا، وليست تسمية سياسية أطلقها الخصوم. وعندما نتحدث عن هذه المجالات العلمية يجب أن لا نستحضر ما يقوله البعض من أنها علوم غربية أو أنها من ضروب الاستشراق، لأن في ذلك استنقاصا من الذكاء العربي ومن منهج علمي تراكم عبر التجربة الإنسانية وساهم فيه العرب المسلمون من خلال ابن خلدون على سبيل الذكر. المقصود بالإسلام السياسي هو تحويل الإسلام كمعطى ديني وثقافي وحضاري إلى قاعدة أيديولوجية مرتبطة بالدولة واعتباره مشروعا للحكم بالمعنى الحديث للكلمة. أقول هنا بالمعنى الحديث أي المرتبط بالدولة الحديثة التي تبلورت على أنقاض الشكل القديم مع أواسط القرن التاسع عشر. فقد شهدت هذه الدولة تغيرا على مستوى علاقة السلطة بالفضاء الترابي وبالمجتمع تغيرت معه أسس الشرعية كما تغيرت معه أنماط تنظيم الدولة في الفضاء العثماني، ولذلك يسميها المؤرخون بالدولة التنظيماتية نسبة إلى بداية الإصلاح. فقد اقتضى التنظيم الجديد أن تحتكر الدولة وظيفة سن القوانين وتنظيم الإدارة، مما استوجب إدراج تعليم جديد نشأت معه طبقة جديدة من البيروقراطية المرتبطة بالدولة وثقافة جديدة كذلك مرتبطة بالتسيير (الدولتي) يطلق عليها المؤرخون مصطلح (ثقافة الدولة). في المقابل وجدت الأطراف الاجتماعية التقليدية نفسها خارج هذا المسار، ومن بينها الأئمة وبعض العلماء ومن ارتبط بهم. ففي خضم هذه الثقافة القانونية الجديدة، أي ثقافة الدولة المؤسسة على مفهومي القانون والإدارة، نفهم بداية بروز الشريعة باعتبارها منظومة قانونية، أي بعيدة عن مفهومها الأصلي والذي نجده في كتب التفاسير، وهو الدين بالمعنى العام (راجع تفاسير الآية 18 من سورة الجاثية). لا بد من الانتباه إذن إلى هذا البعد التاريخي الذي يجعل من الإسلام السياسي إفرازا لسياق عام للتحديث في العالم العربي والإسلامي، كما يفصل بين الإسلام كدين وكثقافة وكحضارة وبين استعماله في مجال السياسة والأيديولوجيا كما عرفتها الفترة الحديثة والمعاصرة. هذا الخلط ما زال قائما، ومثال ذلك ما أورده راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة من أن الحركة الإسلامية، التسمية البديلة عن الإسلام السياسي، هي (جملة المناشط التي تدعو إلى الإسلام باعتباره كلمة الله الأخيرة إلى الناس ومنهاجا شاملا للحياة وخطابا للعالمين). الواقع أن مثل هذا التعريف يعود بنا إلى الحركات الدينية كما عرفتها العصور الوسطى، وهذا بعيد كل البعد عن مفهوم العمل الحزبي الحديث الذي يفصل بين منطق الحزب المبني على المنافسة الديمقراطية فيما يتعلق بالشأن العام والمنطق الدعوي الديني الذي يخضع لمنطق الإيمان والقدسية. عدم التمييز هذا يفسر إلى حد ما إحدى المصاعب التي وجد الإسلاميون نفسهم في مواجهتها، أي طبيعة التعامل مع الطيف السياسي المختلف عنهم ثم ضرورة التسيير العقلاني للدولة. قبل الحديث عن تفسير أزمة حكم الإسلاميين في السلطة والتي تقر بها القيادات نفسها، لا بد من التعريج وبشكل سريع على بعض الأسباب التي تفسر نجاحهم الانتخابي في أول تجربة انتخابية تعددية وشفافة. سبقت الإشارة إلى أن عصر الإصلاحات أفرز نمطين من الثقافة، واحدة مرتبطة بالدولة، ثقافة القانون والتسيير الإداري الحديث، والثانية تقدم نفسها على أنها ثقافة المجتمع الأصيلة وهي الإسلام ولكن مع نزعة سياسية جديدة. هذا النمط الثقافي المجتمعي المحافظ لم يتمكن تاريخيا من البروز والتعبير عن ذاته، سواء في إطار الدولة التنظيماتية خلال القرن التاسع عشر، ولا خلال الفترة الاستعمارية بما أن المسألة الوطنية كانت هي الطاغية، ولا كذلك خلال دولة الاستقلال بسبب التسلط. وكان من الطبيعي أن يصعد هذا التيار في تونس ومصر باعتبار الثورات عبرت عن تخلص المجتمع من سطوة الدولة، وقد ترجمت ابتعادها عن التسلط (الدولتي) من خلال عودتها إلى ثقافتها الأصلية في الانتخابات، وهي الإسلام. ومما ساعد على هذا التمييز بين ثقافة الدولة وثقافة المجتمع أن مؤسسة الدولة كانت هي الدافع الحقيقي للتحديث والرقي الاجتماعي في ظل هيمنة الهياكل الاجتماعية التقليدية وتخلف الاقتصاد. لذلك كان المجتمع يقيم عملية التحديث وسياسة الدولة عموما على خلفية نجاحها أو فشلها في المسائل الحياتية الملموسة والتي تهم المجتمع والاقتصاد، وكل فشل للدولة يدفع بالمجتمع إلى الابتعاد عنها سياسيا وثقافيا. أعتقد أنه يمكن فهم انتصار الإسلاميين في الانتخابات ضمن هذا السياق التاريخي العام، لكن ذلك لا ينفي بالطبع وجود عوامل أخرى من بينها بساطة الخطاب السياسي المعتمد على ثقافة المجتمع مما يجعله مستساغا لدى الجمهور، على عكس الخطاب السياسي لخصومهم والذي يركز على مسائل تبدو للفاعل الاجتماعي العادي أنها أفكار مجردة من مثل الحرية والتعددية وغيرها. مأزق الحكم هكذا مثلت الانتخابات فرصة إذن للمجتمع للتعبير عن ذاته، فاختار ذلك المكبوت في مواجهة الدولة، أي في النهاية الإسلام في مواجهة ثقافة الدولة. لكن ما خفي على الإسلاميين هو أن اختيار الناخبين كان للإسلام باعتبار قيمته الاعتبارية، أي كضمان أخلاقي للنزاهة في العملية السياسية التي كانت تهيمن عليها الدولة وليس اختيارا للإسلام كمشروع حكم. فكان ذلك هو الخطأ الأول والذي جعل النخبة السياسية الإسلامية وهي في السلطة تعتبر نجاحها بمثابة تفويض مطلق للحكم حسب فهمها هي لطبيعة الحكم. والنتيجة أن انحصر اهتمامها أولا في تأمين هذا الحكم ولكن على حساب متطلبات المرحلة الانتقالية فيما ارتبط بإعادة بناء المؤسسات الديمقراطية بعد الثورة، ثم من ناحية تلبية انتظارات المجتمع على المستوى الاقتصادي والمعيشي. في الوقت نفسه كان يتم ذلك في ظل خلط كبير بين مستويات الحكم والإدارة والدولة بسبب ضعف الثقافة السياسية للأحزاب الإسلامية. أمام هذا المأزق لم تجد النخبة الإسلامية في السلطة في مصر وتونس سوى خيارين: إما الانفراد بالحكم وإعادة صياغة النظام السياسي على مقاسها، مثلما جسدته الحالة المصرية من خلال الإعلان الدستوري الذي أصدره محمد مرسي والذي اعتبره خصومه بمثابة تأسيس لتسلط جديد. أما الخيار الثاني فجسدته الحالة التونسية من خلال تحالف صوري بين الإسلاميين وأحزاب ليبرالية (أي لا مرجعية دينية لها وهذا لا يعني بالضرورة أنها علمانية) على أن يبقى عصب الحكم متمثلا في وزارتي الداخلية والعدل بيد حركة النهضة في حين تذهب الوزارات الأكثر، تقنية مثل المالية والاقتصاد، لحلفائها. كما لجأت حركة النهضة كذلك إلى استعمال العديد من شخصيات النظام السابق في إدارة بعض المجالات لتعويض نقص خبرتها في الحكم، وخاصة في مجال الإعلام أو في وزارة الداخلية والعدل. هكذا نفهم كيف تعطلت عملية الإصلاح السياسي الضامنة للانتقال الديمقراطي بسبب هيمنة هاجس الحكم على الإصلاح. لن أتحدث عن المستوى الاقتصادي والنتائج الكارثية التي آل إليها الوضع، لأن الأعذار لتبرير الفشل موجودة ومنها ظرف ما بعد الثورة وكذلك الأزمة الاقتصادية العالمية، بل سأكتفي بمثالين يرتبطان أساسا بوجود الإرادة السياسية في الإصلاح السياسي المنشود بعد الثورة من عدمه. فلو أخذنا مثلا ملف القضاء للاحظنا فشلا ذريعا في تحقيق استقلالية القضاء، والتي من دونها لا يمكن تصور انتقال ديمقراطي سليم. وحتى الحديث عن فشل قد لا ينطبق على الواقع بما أن لا الحكومة ولا المجلس التأسيسي في تونس حاولا فعلا العمل على تحقيق هذا الهدف، فلمدة أكثر من سنة عملت الحكومة على تعطيل إقامة هيئة مستقلة للإشراف على القضاء العدلي بسبب محاولة فرض رقابة حكومية عليها. وحتى بعد إنشاء هذه الهيئة فإن الحكومة لم تلتزم بقانونها المتعلق بتعيين القضاة والذي صدر عن المجلس التأسيسي، حيث عمدت وزارة العدل مؤخرا إلى تعيين قضاة سامين بناء على قوانين صادرة في الستينيات من القرن الماضي، وبرر الوزير تمشيه بأنه لم يتم إلغاء تلك القوانين، والحال أنه صدرت قوانين بعد الثورة تتماشى وأهدافها في مطلب الحريات والقضاء المستقل. وفي هذا الإطار تتنزل المواجهة بين الحكومة والقضاة بقيادة جمعية القضاة التي وقفت في وجه بن علي سابقا. قد نضيف إلى هذا السياق العدلي تعطل مسار العدالة الانتقالية بسبب عدم تمرير المشروع للمصادقة عليه في المجلس التأسيسي بعد سنتين من الحكم. نلتمس هذا الفشل كذلك من خلال وضعية الإذاعة الوطنية التونسية التي تم تعيين أشخاص على رأسها على مبدأ الموالاة أو عدم الكفاءة. وقد نتج عن ذلك رداءة الأداء وغياب البرامج الحوارية الجادة بالرغم من الوقفة الحازمة من الصحفيين للدفاع عن استقلالية المرفق العام، وتراجعت نسبة مشاهدة الإذاعات العمومية وتراجعت مداخيلها من الإشهار، واستفادت من هذا الوضع إذاعات خاصة اعتبرت أقرب إلى هموم المواطن. من الواضح والوضع هكذا أن حركات الإسلام السياسي وقعت ضحية فجائية الثورة من ناحية وضحية نجاحها الانتخابي الذي أنساها أن هذه الشرعية الانتخابية لا تكتمل إلا بشرعية الأداء. فالرغبة في الحكم دون برنامج للحكم ودون ثقافة الحكم في وضع الانتقال الديمقراطي المنشود، تجعل من الصعب على أي حاكم مواجهة ضغط المجتمع.