أَعادَ لقاء دمشق الذي جمع مؤخرًا رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الفلسطينية خالد مشعل بعزام الأحمد رئيس كتلة حركة "فتح" في المجلس التشريعي الفلسطيني وعضو لجنتها المركزيَّة أجواء التفاؤل مجددًا بإمكانيَّة إبرام تفاهُم يضع حدًّا لسنوات الانقسام الداخلي، مع تركيز بعض المسؤولين في حركة حماس على مظاهر التغيير في موقف حركة فتح في كلِّ ما يتعلَّق بورقة المصالحة المصريَّة، مع إشارتِهم بشكل خاص إلى تراجع القاهرة عن إصرارها على عدم إعادة فتح ورقتها للمصالحة. كما تم إبلاغ حماس رسميًّا في لقاء مشعل برئيس المخابرات المصريَّة عمر سليمان في مكة خلال شهر رمضان، رغم خيبات الأمل الكثيرة والمريرة التي أصابت الفلسطينيين بعدما علا مستوى التفاؤل بتحقيق اختراق حقيقي يُفضي للمصالحة، إلا أن الفلسطينيين الذين ذاقوا الأمرَّيْن بسبب تواصل حالة الانقسام لا يمكنهم إلا أن يستبشروا خيرًا عند الحديث عن تقدُّم على صعيد الحوار، ومع ذلك فإنه إن كان التفاؤل والتشاؤم يصلحان كردَّة فعل عشوائيَّة قد يعبّر عنها العامة على التطورات على صعيد الحوار، فإنهما -مع كل أسف– لا يصلحان كصورة من صور التعاطي المنطقي مع هذا الواقع المعقَّد، لا يحتاج المرءُ أن يكون مطَّلِعًا على حيثيَّات ما دار ويدور في جلسات الحوار المغلقة حتى يكون تصورًا واقعيًّا عن إمكانيَّة تحقيق المصالحة من عدمه، ومما لا شكّ فيه أن أيَّ تصور موضوعي إزاء فرص نجاح أو فشل الحوار الوطني يجب أن يستندَ بشكلٍ أساسي إلى البيئة التي يجري فيها الحوار، والعوامل والأطراف المؤثِّرة في هذه البيئة، ولا يمكننا هنا أن نتجاهلَ الدور الإسرائيلي في الحوار الوطني، والذي يرى كاتب هذه السطور أنه الدور الأكثر تأثيرًا على فرص نجاح الحوار، على الرغم أن أيًّا من الإسرائيليين لا يتواجد في غرف الحوار المغلَقة. وإن كان لا خلاف على أن الإسرائيليين غيرُ معنيِّين بنجاح الحوار، فإن ما يغفل عنه البعض هو أن هامش المرونة الكبير الذي يتحرَّك فيه الإسرائيليُّون يمكنهم من إفشال الحوار، وحتى ندرك حجم التأثير الإسرائيلي على الحوار الوطني، فمن الأهمية بمكان التأكيد على عبثيَّة وعدم صدقيَّة الانطباع السائد بأن ما حدث في غزة في يونيو 2007 وسيطرة حركة حماس هو الذي جعل إمكانيَّة تحقيق المصالحة أمرًا مستحيلًا، هناك سوابق تاريخيَّة حديثة تثبتُ سخف هذا الزعم، الحرب الأهليَّة اللبنانيَّة التي تفجَّرَت عام 1975، والتي أدَّت إلى مقتل عشرات الآلاف من اللبنانيين تم وضع حدٍّ لها في اتفاق الطائف، مع العلم أنه بخلاف الفلسطينيين، فإن اللبنانيين ينتمون إلى أديان ومِلَل وطوائف مختلفة ومشارب متضاربة، ناهيك عن أن عدد الذين سقطوا في الاقتتال الفلسطيني الداخلي لم يتجاوز المئات، فما الذي جعلَ اللبنانيين ينجحون في الوقت الذي يفشلُ فيه الفلسطينيون؟ إن السبب الرئيس وراء ذلك هو أن بعض القوى الخارجيَّة التي كانت تؤثر في الشأن اللبناني باتت ترى أن مصلحتها تقتضي التوصل لاتّفاق لبناني داخلي، في حين حدث تراجع واضح على قدرة القوى الخارجيَّة الأخرى التي لم ترغبْ في هذا الاتفاق على التأثير، فكان اتفاق الطائف. ومن أسف فإن إسرائيل تجد نفسها ذات مصلحة في التأثير على أي حِراك فلسطيني داخلي على صعيد الحوار الوطني، بل إنه بإمكانها التأثير على الكيفيَّة التي يمكن أن تحسمَ بها القضايا الأساسيَّة المطروحة للنقاش في جلسات الحوار. فلو أخذنا على سبيل المثال قضية الأمن والمؤسَّسة الأمنيَّة التي تعتبر إحدى القضايا الرئيسَة التي تطرح في جلسات الحوار الوطني، فهل يعتقد عاقل أن إسرائيل بإمكانِها أن توافق على إعادة بلورة المؤسَّسة الأمنيَّة التابعة للسلطة "على أُسُس وطنيَّة ومهنيَّة"، كما تطالبُ حركة حماس ومعها معظم الفصائل الفلسطينية، فإسرائيل ترى في هذه المؤسَّسة مجرد وسيلة لتحسين مستوى الأمن للمستوطنين في الضفة الغربية، ولا حاجة للتذكير بما يجري حاليًا في الضفة الغربية. وفي حال أجمع الفلسطينيون على تشكيل أجهزة أمنيَّة على "أُسُس وطنيَّة ومهنيَّة" فإن إسرائيل ببساطة لن تسمحَ لهذه الأجهزة بالعمل، وستطارد قادتها وعناصرها، كما حدث خلال انتفاضة الأقصى، بالطبع لا نريد أن نذكرَ بالدور الأمريكي في هذا الشأن وحرْص واشنطن على وضع رقيب دائم على أجهزة السلطة الأمنيَّة للتأكُّد من قيامِها بالدور المنوط بها، بدأ الأمر مع دايتون ويتواصل حاليًا مع خليفتِه الجديد. وما ينطبق على قضيَّة الأمن والمؤسَّسة الأمنيَّة ينطبق أيضًا على قضيَّة تشكيل الحكومة الفلسطينيَّة بعد إتمام المصالحة، فمن يعتقد بحقّ أن إسرائيل ستسمح بحريَّة العمل لحكومة يشاركُ فيها ممثلون لحركة حماس ما دامت الحركة تصرُّ على منطلقاتِها الأيدلوجيَّة وموقفها السياسي من الكيان الصهيوني، وما تعرَّض له وزراء ونوَّاب حركة حماس من عمليَّات اعتقال وإقصاء خير دليل على ذلك. وفيما يتعلَّق بموضوع منظمة التحرير وإعادة بنائِها على أُسُس جديدة، فلو افترضنا أن الفرقاء في الساحة الفلسطينيَّة اتفقوا على هذا البند وتم إعادة تشكيل المنظمة بناءً على انتخابات أدتْ إلى فوز قيادة جديدة لا تنتمي لحركة "فتح"، كأن تكون الأغلبيَّة في الهيئات القياديَّة للمنظمة للفصائل التي تعارض أوسلو وترفض الاعتراف بإسرائيل، فهل سيتمُّ السماح للقيادة الجديدة بالعمل في الضفة الغربيَّة، وهل ستتعاون الأنظمة العربيَّة المتحالفة مع إسرائيل والولايات المتحدة معها أيضًا. وما ينطبق على هذه القضايا ينطبق للأسف على كل القضايا الأخرى التي تشكِّل جدول أعمال الحوار الوطني الفلسطيني. طبعًا هنا نتحدَّث عن العامل الإسرائيلي، مع إدراكِنا لتأثير العوامل الأخرى، مثل الدور الأمريكي والقوى الإقليمية العربيَّة، والبيئة الفلسطينيَّة الداخليَّة وغيرها من العوامل. إذن ما العمل؟ بلورة إجابة على هذا السؤال تستوجب تحطيم إطارات التفكير الفلسطيني الحاليَّة والتي تحصر حلّ واقع الانقسام في بلورة صِيَغ مصالحة تضمن بقاء تأثير الأطراف الخارجيَّة على الواقع الفلسطيني، مما يجعل الفلسطينيين أمام خيارَيْن لا ثالث لهما، فإما العجز عن الاتفاق على حلّ كما هو الواقع حاليًا، أو انهيار أي اتفاق بعد فترة وجيزة كما حدث بعد التوصل لاتفاق مكَّة في فيفري 2007. إن الحلَّ يتمثَّل في محاولة التخلُّص من كل الهياكل التي يسهمُ وجودها في ضمان بقاء التأثير الخارجي على الواقع الفلسطيني وتحديدًا الإسرائيلي، يتوجَّب نسفُ النظام السياسي الفلسطيني الذي تشكّل بعد التوقيع على أوسلو للتخلُّص من كل تداعياتِه، وعلى رأسها السلطة، إن مجرد وجود السلطة الفلسطينيَّة يستدعي بالضرورة تواصل التأثير الإسرائيلي العميق والكبير على العلاقات الفلسطينيَّة الداخليَّة، لذا يجدر بالفُرَقاء في الساحة الفلسطينيَّة –لو أرادوا مصالحة حقيقيَّة– أن يدرسوا بدائل أخرى لوجود السلطة، ليس بالضرورة حلّ السلطة في الضفة الغربيَّة وقطاع غزة بالشكل التقني للكلمة. لقد كان تشكيل السلطة الفلسطينية بعد التوقيع على أوسلو خطيئةً يدفع الفلسطينيون ثمنها بالعرق والدم، فلا سلطة مع وجود احتلال، فأي سلطة في الضفة الغربية لا يمكن أن تكون "وطنيَّة"، كما بات في حكم المؤكَّد أن بقاء قطاع غزة تحت مظاهر تأثير الاحتلال المختلفة يجعل من الصعب جدًّا الجمع بين المقاومة والحكم.