بالقدر الذي كانت الثورة التحريرية الكبرى، العظيمة بتضحياتها، الإنسانية بمبادئها، القوية بتنظيمها، السامية بأهدافها، تواجه مخطط الاستدمار الاستيطاني في أبشع صوره وافتك أدواته، بالقدر نفسه الذي كانت تواجه فيه تحدي على جانب كبير من الأهمية والخطورة، الأمر هنا يتعلق بكيفية بناء الدولة الجزائرية المستقلة، وأدوات تجسيد مضمون بيان أول نوفمبر 1954 باعتباره الوثيقة المرجع لأي تحرك سياسي مستقبلا، ماهي طبيعة الدولة المستقبلة، وأي نظام سياسي سيحكمها، وبأي شرعية؟ ومن هم رموزها؟ هل كل الفاعلون في الثورة ونخبتها مثقفون على منهج واحد؟ هنا سنحاول تسليط الضوء على التطور السياسي للجزائر المستقلة على مدار الخمسة عقود الماضية مع التوقف عند أهم المنعرجات الحاسمة والخطيرة التي ميزت هذا المسار وما تزال تداعياتها تتجلى إلى اليوم. محطات لابد منها يعتقد كثير من الباحثين والدارسين والمؤرخين للمسار السياسي للدولة الجزائرية المستقلة، أو بالأحرى على تطور المسار السياسي عبر العقود الخمس المنقضية، وبالتحديد منذ إعلان الاستقلال في الخامس من جويلية 1962 إلى اليوم، أن الحديث عن الموضوع من هذا الجانب سيبقى ناقضا وغير مكتملا مالم يحاط بظروف الثورة وادراتها للحرب ضد الآلة الاستدمارية الاستيطانية الفرنسية التي استهدفت مقومات الأمة الجزائرية، ترابا وشعبا وهوية وتاريخا وثقافة. وفي هذا الإطار يمكن القول اختصارا أن طبيعة الاستعمار الفرنسي وبشاعته، وقلة إمكانيات الثورة خلقت وضعا كثيرا ما تسبب في خلافات بين قادة الثورة ونخبها، حول كيفية تسيير الثورة ومواجهتها للتحديات المطروحة أمامها، ليس فقط فيما يتعلق بحرب التحرير وما تتطلبه من توفير الوسائل والإمكانيات والتأطير والتسيير، وإنما أيضا من باب وضع تضور للدولة الجزائرية المستقلة. وهنا تشير شهادات قادة ومجاهدين إلى أن قادة الثورة ونخبها لم تكف على التفكير في كيفية بناء الدولة الجزائرية وتجسيد مشروع المجتمع الذي جاء في وثيقة أول نوفمبر باعتبارها الوثيقة الإطار و المرجع التي التف حولها كل الجزائريين، ووحدت كل رموز الحركة الوطنية وقادة الثورة. لكن مع بداية تقهقر الآلة الاستعمارية تحت الضربات القاسية للمجاهدين ميدانيا وعسكريا، ودبلوماسيا وسياسيا، وبزوغ فجر الاستقلال، طفت إلى السطح خلافات قادة الثورة كما تبرزه مجريات أشغال مؤتمر طرابلس المنعقد في جوان 1962، إذ لم يعد ممكنا إخفاء الخلاف الذي كان مستشريا بين قادة الثورة على مدار سنواتها العسيرة وخلال محطاتها الحاسمة، ففي مؤتمر طرابلس الذي انعقد في جو مشحون بين القادة، بدى واضحا أن هناك اتجاهين رئيسيين مختلفين حول آليات وأدوات تجسيد الاستقلال ومنه بناء الدولة المستقلة حديثا.، فقد كان فقد كان تيار رئيس الحكومة المؤقتة بن يوسف بن خدة وأعضاء من مجلس الثورة يدفعون في اتجاه استمرارية مؤسسات الثورة إلى غاية انتخاب قيادة جديدة بعد ترسيم الاستقلال والإعداد لذلك، فيما كان التيار الثاني ممثلا في قيادة الأركان مدعومة بأحمد بن بلة، تصر على انتخاب قيادة جديدة تؤول إليها الإشراف وتسيير المرحلة الانتقالية، وهو الأمر الذي أدى إلى انسحاب بن يوسف بن خدة وجماعته من الاجتماع الذي بقي مفتوحا، وتشكيل الفريق الثاني لمكتب سياسي، يضم في عضويته كل من احمد بن بلة، محمد خيضر، حسين أيت احمد، رابح بيطاط، محمد بوضياف، محمدي سعيد و بن علا، وتكرس بذلك الانقسام في التوجهات الكبرى بين الثوار والتي تتجلى فيما بعد بشكل أكثر وضوحا وكادت أن تعصف بالاستقلال. وبرأي العديد من المؤرخين، وشهادات بعض المجاهدين ومنظري السياسية ومنهم الراحل عبد الحميد مهري، فان الانقلاب على الحكومة المؤقتة واحد من ابرز العناصر التي تصنف كأول ضربة عملية ميدانية لشرعية المؤسسات، وبرأي المجاهد الراحل عبد الحميد مهري، فان الميلاد الحقيقي للدولة الجزائرية المستقلة يفترض أن يكون ابتداء من تاريخ تشكيل الحكومة المؤقتة وليس من تاريخ أخر، فقد دعا الرجل في إحدى مداخلاته إلى ضرورة مراجعة الموضوع، وفي ذلك حسب المهتمين تأكيد من واحد من المجاهدين على شرعية الحكومة المؤقتة.
سياسة الأمر الواقع تمنح احمد بن بلة السلطة وقد عاد الصراع إلى الواجهة بعد تنظيم الاستفتاء ودخول قادة الثورة إلى الجزائر المستقلة، لكن المكتب السياسي الذي تأسس في طرابلس حسم الصراع لصالحه، بعد قراره تنظيم انتخابات المجلس الوطني يوم 20 سبتمبر، يتكون من 196 عضو 196 وفي 25 سبتمبر انعقد أول مجلس تأسيسي برئاسة عباس فرحات، فيما انتخب المجلس احمد بن بلة أول رئيس للجمهورية الجزائرية المستقلة. ليبدأ فصل جديد من مسار بناء الدولة، لكنه لم يخلو من الصراعات الحادة والتي وصلت إلى حد التقاتل بين الإخوة الفرقاء، والتي كادت أن تتطور إلى ما لا يحمد عقباه لولا فطنة الشعب الجزائري الذي خرج في مسيرات عفوية رفعت شعار»بركات بركات، سبع سنين بركات«. أزمة صائفة 1962 وما تلاها من أحداث عنيفة ودامية، لم تمنع السلطة الجديدة من طرح دستور 1963، وإجراء الاستفتاء الشعبي في 08 سبتمبر 1963 واعتماده رسميا بعد يومين من تاريخ الاستفتاء، لكن لابد من الإشارة هنا إلى أن خلافا حادا آخر انفجر بسبب الدستور، بين بن بلة ورئيس المجلس التأسيسي فرحات عباس، فكانت أزمة سياسية جديدة استغلها الرئيس احمد بن بلة لبسط خياراته وتوجهاته بعد تخلصه من المعارضين في المجلس التأسيسي، فتم تكريس الأحادية الحزبية والنظام الاشتراكي كخيار سياسي واقتصادي واجتماعي للدولة الحديثة. وهو ما تم التأكيد عليه في الميثاق الوطني لعام 1964.
بومدين يكرس الشرعية الثورية ويبحث عن الشرعية السياسية؟ وبرأي المتتبعون فان فترة حكم احمد بن بلة وان كانت قصيرة بكل المقاييس إلا أنها كانت طويلة بصراعاتها، مريرة بأحداثها، متوترة بانقساماتها. ورغم ما يعتبر من قبل البعض انجازات حققها الرجل في مجال بناء مؤسسات الدولة، من مجلس تأسيسي، وحكومة، ورئاسة، ووضع دستور للبلاد ثم الميثاق الوطني، إلا أن الرجل لم يتمكن من ضمان الاستقرار التام في المجال السياسي وحسم مسالة الصراع على السلطة بصفة نهائية، فقد ظهرت خلافات أخرى وتصدعات في تحالف بن بلة مع هيئة الأركان بقيادة العقيد هواري بومدين، انتهت بقيام الأخير بانقلاب على الرئيس احمد بن بلة يم 19 جوان 1965 تحت عنوان ما كان يعرف بالتصحيح الثوري. وبعيدا عن الأسباب الكامنة وراء الانقلاب وقد تم الحديث عليها بإسهاب من قبل الفاعلين والمؤثرين في تلك الفترة رغم تضارب الروايات أحيانا، إلا المؤكد أن الجزائر من خلال ما اصطلح عليه سابقا في الأدبيات السياسية بالتصحيح الثوري، لم يحسم الصراع على السلطة نهائيا، وظلت مسالة الشرعية مطروحة وتطرح بقوة. فقيام العقيد هواري بومدين بحل المجلس التأسيسي واستخلافه بمجلس الثورة وحكومة جديدة تحل محل الرئاسة يرأسها العقيد نفسه، كانت من ابرز الخطوات التي أقدم عليها العقيد بومدين في إطار مراجعة نمط الحكم وطبيعة النظام السياسي، والتي جسدت النظرة الشمولية للسلطة ومنع أي رأي مخالف من التعبير عن رأيه خارج إطار مجلس الثورة والمؤسسات المنبثقة عنه. وحسب المهتمين بتتبع المسار السياسي للجزائر بعد الاستقلال، فقد ظل الرئيس هواري بومدين رغم السلطات الواسعة التي كان يتمتع بها، سياسيا وعسكريا باعتباره رئيس مجلس الثورة، رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع الوطني، يعاني من عقدة الشرعية المنقوصة جراء الانقلاب على الرئيس احمد بن بلة، وهو ما دفعه إلى طرح دستور وميثاق1976 الذي اقر حل مجلس الثورة وتعويضه بمجلس منتخب وهو المجلس الشعبي الوطني عام 1977 وقبله تم انتخاب رئيس الجمهورية في 11 ديسمبر 1976 فتم إرجاع السلطة التشريعية للمجلس الشعبي الوطني، ويتم كل ذلك في إطار الحزب الواحد وضمنه، ويعتقد مراقبون أن الهيكلة الجديدة التي اقرها الرئيس بومدين لا تخرج على نطاق بحثه على شرعية سياسية ظلت تنقصه منذ انقلاب 1965، ويقول دارسون للشؤون الجزائر السياسية أن العقيد هواري بومدين تمكن من تكريس الشرعية الثورية كخيار سياسي وحيد لممارسة السلطة أو الوصول إليها، متجاوزا بذلك كل الآراء التي كانت تدعو إلى الشرعية السياسية والتعددية الحزبية وواطلاق الحقوق السياسية. وكانت اغلب الحركات السياسية السرية وحتى الكثير من قادة الثورة قد حاولوا مواجهة ما يصطلح عليه البعض المخطط البومديني للاستيلاء على السلطة، لكن كل المحاولات باءت بالفشل أمام تحكم الرجل في كل مناحي الحياة بقبضة من حديد، وتحقيقه لانجازات دبلوماسية كبيرة، وامتلاكه لتأييد واسع من قبل الفئات الاجتماعية الهشة كالفلاحين والعمال ومختلف فئات الشعب التي تأثرت كثيرا بتوجهات الرجل الاجتماعية، وانجازاته الصناعية.
الشاذلي بن جديد رئيس ولدته الأحادية وأزاحته التعددية في ديسمبر 1978 تعرف الجزائر ذكرى مأساوية، برحيل الرئيس هواري بومدين، ورغم الاختلاف في الروايات حول ظروف وفاته والتي ماتزال إلى يوم الناس هذا مجهولة، فقد عين مؤتمر جبهة التحرير الوطني الشاذلي بن جديد أمينا عاما للحزب ويجري استفتاء في 8 فيفري 1979 ويحصل لرجل على أغلبية مطلقة ويتولى منصب رئيس الجمهورية الجزائرية، وكان ذلك إيذانا بدخول البلد في مرحلة سياسية جديدة وشبه مغايرة للمرحلة البومدينية في توجهاتها الكبرى، سيما ما تعلق بالخيارات الكبرى للاقتصاد الوطني التي خضعت لمراجعات هيكلية رغم إقرار الاشتراكية كخيار لارجعة عنه. أما من الناحية السياسية فقد تم الإبقاء على خيار الحزب الواحد في ممارسة السلطة والوصول إليها. وقد تميزت مرحلة حكم الشاذلي بن جديد تحت غطاء جبهة التحرير الوطني، بتفاقم الأزمة الاقتصادية، وتدهور الأوضاع الاجتماعية، لكن أيضا ببداية ظهور مشاكل ذات طابع سياسي، سواء ببعدها الثقافي أو الديني، ففي مطلع الثمانينيات تعرض نظام الشاذلي بن جديد ومن خلاله جبهة التحرير الوطني إلى تحد حقيقي بعد خروج أنصار المطلب الامازيغي إلى الشارع معربين عن مطالبهم التي انحصرت آنذاك في الاعتراف بالمطلب الثقافي واللغوي الامازيغي، فكانت أحداث الربيع البربري، مؤشر كبير على دخول المعارضة السرية في الجزائر مرحلة جديدة من النضال من اجل الحقوق السياسية في إطار التعددية. كما كان أيضا للحركات الاسلاماوية السرية محاولات للتعبير عن وجودها، سواء من خلال نشاطات مصطفى بويا اعلي والتي اتخذت مسارا عنيفا أو من خلال نشاطات جماعة الشيخ نحناح. فقد أظهرت هذه النشاطات فضلا على اليساريين الذين كانوا ينشطون بغزارة في صفوف العمال والطلبة، رغم محدوديتها في بداياتها الأولى، أن الأوضاع السياسية مرشحة لتعرف تطورات عميقة، فكانت أحداث قسنطينة فيما بعد واحدة من الأحداث التي جسدت بوضوح وجود مطالب سياسية ضد احتكار السلطة من قبل الحزب الواحد تحت غطاء الشرعية الثورية..
5 أكتوبر 1988: بداية التحول يحتفظ جيل بأكمله من الجزائريين بتاريخ الخامس من أكتوبر 1988 كمحطة مفصلية في تاريخ الجزائر الحديث، لا يمكن تجاوزها، على خلفية كونها تفصل بين عهدين مختلفين تماما، بين زمنين لا يتشابهان في مسار الدولة، زمن الحزب الواحد، بشموليته السلطوية، وزمن التعددية بانفتاحها السياسي والإعلامي والاجتماعي والاقتصادي. زمن الشرعية الثورية وزمن البحث عن الشرعية الشعبية أو الدستورية. فقي الخامس من أكتوبر 1988 خرجت مظاهرات عارمة في العاصمة وباقي المدن الجزائرية وسريعا ما تحولت المطالب الاجتماعية إلى مطالب سياسية، حاولت السلطة قمع المتظاهرين باستخدام القوة العمومية لكنها فشلت أمام سقوط مالا يقل عن 600 قتيل حسب إحصائيات رسمية، ورغم اختلاف الروايات وتعدد القراءات حول أحداث أكتوبر 1988: من نظمها ومن قام بها ومن شارك فيها، وما إذا كانت حركة شعبية عفوية أو صراع داخل أجنحة الحكم أم أن جهات خارجية دبرتها للتأثير على مواقف للدولة الجزائرية، إلا أن المتفق عليه أن تلك الأحداث ولدت مشهدا جديدا بإعلان الرئيس الشاذلي بن جديد يوم 10 أكتوبر 1988 على إقرار إصلاحات سياسية عميقة تضع حدا لحكم الحزب الواحد، وهو ما جاء فعلا في دستور 23 فيفري 1989 الذي نص على التعددية السياسية والإعلامية والحقوق المدنية، فضلا على الانتخاب المباشر لكل المجالس المحلية والولائية والوطنية والرئيس في إطار تعددي يضمن مشاركة كل التوجهات والتيارات السياسية بعد اعتماد أحزاب جديدة، كما تم الإقرار على فتح المجال الإعلامي وإنهاء احتكار السلطة للرأي والخبر والمعلومة. والواقع أن الثورة التي أحدثها دستور 1989 على مستوى البنية الهيكلية للدولة، وما تلاها من تحولات عميقة في حركية المجتمع، كانت فارقة في حياة الدولة الجزائرية الحديثة، وأيضا في مجالها الإقليمي وحتى الدولي بالنظر إلى انقسام العالم إلى قطبين آنذاك، فكانت الجزائر سباقة لإقرار إصلاحات هيكلية وسياسية مست كبد النظام السياسي القائم منذ الاستقلال.
هكذا أجهضت عملية الانتقال إلى الشرعية الشعبية لم تكن عملية الانتقال من النظام الأحادي الشمولي إلى التعددي، ومن النظام الاشتراكي الموجه إلى النظام الرأسمالي الليبيرالي، سهلة وسلسة، فقد ظهرت عوائق عديدة سواء داخل مؤسسات الدولة حيث كان هناك جناح مؤثر يرفض العملية، والتخلي على احتكار السلطة أو على الأقل منحها ببساطة، وحتى من خلال الأحزاب السياسية التي تكاثرت بشكل مفرط، أو من خلال تدخلات خارجية أرادت الإجهاز على التجربة التعددية في الجزائر، والمحصلة أن حالة الاستقطاب والتحدي والخروج على القانون من قبل نشطاء الفيس المحل، وتململ مؤسسات الدولة وتصدع المجتمع، أدى إلى انزلاق الأوضاع نحو العنف المسلح الذي كان من ابرز نتائجه، إجهاض مسار الانتقال الديمقراطي التعددي، وتكليف الجزائر فاتورة باهضة سواء في الأرواح أو الممتلكات أو من حيث الآثار النفسية والاجتماعية التي ماتزال تلقي بظلالها على المشهد إلى اليوم. ففظاعة المأساة التي عرفتها الجزائر مطلع التسعينيات من القرن الماضي، هزت أركان الدولة وكادت تعصف بالمجتمع الجزائري، وأدخلت البلد في نفق مظلم استمر لقرابة العشرين سنة. وفي مثل هذا المستوى من المستوى من الانقسام الاجتماعي والانفلات الأمني والتدهور الاقتصادي، تحرك المخلصون من أبناء الجزائر لحماية الدولة من السقوط والمجتمع من التفكك فكانت العديد من المحاولات السياسية، بعضها باء بالفشل والبعض الآخر جاء بنتائج محدودة طيلة النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي. إلى أن استقرت الأمور على مسار التقويم الوطني بعد ندوة الوفاق الوطني التي قذفت الجنرال ليامين زروال إلى الرئاسة بعد أن تمكن القائمون على تسيير شؤون البلد من تنظيم أول انتخابات رئاسية تعددية عام 1995 فاز فيها ليامين زروال، ليتم بعدها انتخاب أول برلمان تعددي عام 1997 وتلته انتخابات محلية وولائية، ليعاد العمل بالدستور الذي عدل بدوره عام 1996 وتبدأ مرحلة أخرى في مسلسل بناء مؤسسات الدولة. وهنا نعتقد انه لابد من التأكيد على ملاحظة طبعت هذا المسار، وتتعلق في جوهرها ببقاء الجدل مطروحا، بل حادا بين أنصار الشرعية الثورية وأنصار الشرعية الشعبية، وان كان الكل متفق ضمنيا أن خصوصيات المرحلة تفرض تأجيل الحديث على الموضوع. في حين اعتبرت بعض الدوائر السياسية أن النظام أعاد إنتاج نفسه متجاوزا الشرعية الشعبية التي طالبت برحيله عقب مظاهرات أكتوبر 1988.
تعميق المسار الديمقراطي التعددي والبحث عن آليات تسليم المشعل منذ وصوله إلى سدة الحكم بعد انتخابات مسبقة عقبت استقالة الرئيس ليامين زروال، أعرب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على نيته في إحداث إصلاحات سياسية واقتصادية عميقة، تمس في جوهرها تقويم المسار الديمقراطي المتعثر من خلال السعي لتكريس الإرادة الشعبية كشرعية وحيدة للممارسة الحكم أو الوصول إلى السلطة، فكانت عهدتين للرئيس كرسهما لمعالجة أثار المأساة الوطنية ووقف نزيف الدم، وتحريك عجلة التنمية الاقتصادية، ومعالجة الاختلالات الاجتماعية، أما العهدة الثالثة فقد خصص جزء منها للإصلاحات السياسية، التي تهدف إلى تعميق المسار الديمقراطي التعددي وتجدير الإرادة الشعبية في الممارسة السياسية، وهنا طرح الرئيس جملة من القوانين المرتبطة بتنظيم الحياة السياسية، فكان قانون الأحزاب، مشاركة المرأة في الحياة السياسية، حالات التنافي مع العهدة النيابية، قانون الانتخابات، وقانون الإعلام، في حين من المنتظر أن يتم طرح التعديل الدستوري المرتقب للنقاش قريبا. وقد جرت الانتخابات التشريعية الأخيرة كثمرة من ثمار الإصلاحات السياسية المعلن عنها، وتستعد الجزائر لتنظيم انتخابات محلية وولائية شهر أكتوبر المقبل. لكن البارز في المرحلة الحالية الموسومة بحراك داخلي كبير وإقليمي متذبذب، هو ذاك التصريح العميق للرئيس عبد العزيز بوتفليقة من ولاية سطيف بمناسبة إحياء ذكرى مجازر 08 ماي 1945 والذي قال فيه »أن جيله طاب جنانه، وعلى الشباب الاستعداد لتسلم مشعل مسيرة الجزائر«. وقد فهم هذا القول على انه رسالة من الرئيس بوتفليقة إلى شباب الجزائر على أن نهاية عهد الشرعية الثورية بات قريبا وان تسليم زمام السلطة للجيل الاستقلال أصبحت مسالة وقت ونحن نحتفل بخمسينية الاستقلال. والواقع أن تسليم المشعل وفق قاعدة تواصل الأجيال، وليس القطيعة بينهم أضحى حتمية سياسية بالنظر إلى عوامل عديدة، منها تقدم جيل الثورة في السن وتأديته لرسالته، ولكن أيضا ظهور قدرات من جيل الاستقلال قادرة على استكمال المسيرة.