منذ اللحظات الأولى للاحتلال الفرنسي 1830 تتابعت الثورات المسلحة في الجزائر، ولكنها، ونظرا لضعف الاتصال والتنسيق بين قادتها، وترامي أطراف البلاد، وكان ينقصها التخطيط الدقيق ووحدة القيادات، وتعوزها الشمولية توقفت أو فشلت. ورغم بطولات وضخامة تضحيات معاركها ظلت عبارة عن انتفاضات جهوية تفجرها وتقودها شخصيات ذات وزن اجتماعي وديني محترمة أو تتصدرها قبائل متوزعة ومندفعة تحت تأثير الروح الوطنية والانتماء العربي والإسلامي، ومن الطبيعي أنها كانت منعزلة عن عوالمها العربية والإسلامية، المنقسمة حينها أيضا؛ في حين كان العدو متحالفا مع أوربا الاستعمارية ويمتلك القوات المدربة والمجندة والمسلحة بأحدث الأسلحة لذلك العصر. من هنا كان خلل المعادلة لصالح الاستعمار. تعتبر الفترة بين 1914-1918 ما بعد الحرب العالمية الأولى فترة تجليات الوعي المشترك لأقطار الوطن العربي بعد انكشاف اتفاقيات سايكس بيكو السرية بين فرنسا وبريطانيا، تجلت في الجزائر بظهور حركة الأمير خالد، تلته عدد واسع من ظهور تنظيمات الحركة الوطنية، كحزب الشعب الجزائري خليفة نجم الشمال الإفريقي، ثم جمعية العلماء المسلمين، وغيرها حتى تكلل النصر على يد وجيش وجبهة التحرير وقيام ثورة نوفمبر 1954 المباركة. وهي الفترة التي يطلق عليها المؤرخون عهد الكفاح السياسي المركز والمنظم الهادف إلى تهيئة الظروف الأنسب للثورة والتحرير، وهي فترة أغدقت الجهات الاستعمارية بوعودها الكاذبة باعتماد حق تقرير المصير للشعوب التي كانت تحت السيطرة العثمانية؛ لكن تلك الوعود انقلبت عليها وصارت واقعا استعماريا مريرا قابلته الشعوب بمطالب الحرية والاستقلال بالثورة المسلحة، ومنها كفاح شعبي فلسطينوالجزائر. في الجزائر، بعد أن حاولت السياسات الاندماجية والتجنيس وفرنسة البلاد وصدور القوانين الزجرية بحق أبناء البلاد من الأهالي وتنفيذ قوانين التجنيد في الجيش الفرنسي وعدم الاستماع لمطالب الأهالي، اشتد التضييق على أحرار البلاد ونخبها التواقة إلى الحرية. وكان المشرق العربي يتطلع إلى القضية الجزائرية ويتابعها ويُعرف بها وينشر أخبارها، وحملت الصحافة الاستعمارية الكثير من الأخبار حول التفاعل بين المشرق العربي والحالة الجزائرية، منها ما نشر حول اعتقال السلطات الفرنسية في الجزائر وفودا عربية وإسلامية زارت الجزائر، واتهمتها ببث الدعاية للقومية الإسلامية ضد فرنسا وحاولت تقليص حركة الحج إلى بيت المقدس وحتى منع الحجيج التوجه إلى البقاع المقدسة في أحوال كثيرة. تقول الكاتبة الأمريكية جوان غليسيبي في كتابها »الجزائر الثائرة«، الذي وصفه المعرب خيري حماد: »بأنه يعرض القضية الجزائرية عرضا تاريخيا وعلميا صادقا ويبين أسباب ثورة نوفمبر 1954 ودوافع نضالها«، تقول الكاتبة غليسيبي في فصل تحت عنوان )طلائع الحركة القومية(: »يعتبر الشعور القومي في الجزائر مزيدا من نوعه بين المشاعر القومية في العالم المعاصر، حتى بالنسبة لتلك المشاعر الموجودة في البلاد المجاورة للجزائر، والواقعة في الشرق الأوسط وأفريقيا«. وتشير غليسيبي كثيرا إلى فشل وسائل القمع الفرنسية، ومحاولات إشراك بعض الجزائريين في مجالس صورية منتخبة تكون فيها الغلبة للمستوطنين في الإدارة والتمثيل أمام السلطات. يضاف إلى ذلك محاولات السلطات الاستيطانية إرهاق المسلمين الجزائريين بشتى الوسائل القمعية، من إلقاء القبض الجماعي، ومنع المسلمين من الحج ، كما كان ذلك في عام ممارسات كانت في 1908 امتدادا لقانون الأهالي الذي كان سيفا قمعيا فوق رؤوس الجزائريين منذ تشريعه في 1856. وباشتداد حملات القمع، لم تتمكن الهجرة الكبيرة لسكان المدن الجزائريين إلى الأرياف والمدن البعيدة أن تحميهم من المظالم الاستعمارية وملاحقتها، لذا تعددت الهجرات على نطاق واسع إلى المشرق العربي طيلة القرن 19، وخاصة بعد الاضطرابات الاقتصادية التي أدت إلى استنزاف أوضاع الأسر من الطبقات الوسطى لثرواتها ومصادر رزقها. وبعد وقوع مجاعة 1867 وما سببته من موت لآلاف الضحايا، رغم المقاومة المستميتة للنخب الدينية والاجتماعية الجزائرية في المواجهة وتجنب دمار المستعمر والحفاظ على هوية البلاد؛ إلا أن ظروف بعضها كان فوق الاحتمال، فلم تجد بدا إلا الهجرة والاحتماء بملاذ آمن إلى المشرق العربي. كانت الشام والقدس قبلتها. ولما كانت المقاومات المتعددة للشعب الجزائري تستذكر بطولة وخط الأمير عبد القادر، وما تبعه من ثورات وانتفاضات للمقراني وابن الحداد وأولاد سيدي الشيخ وغيرهم في الكفاح المسلح فقد ظلت الأنظار ترنو إلى المشرق العربي؛ أين حل الأمير بدمشق بعد نفيه ومعه العديد من أصحابه وبقية أسرته ومن تبعهم من المجاهدين. منهم من ارتحل من الشام إلى القدس وحلوا فيها والتحقوا بمن سبقهم من الجزائريين والمغاربة منذ عهد صلاح الدين الأيوبي أين كونوا حارة المغاربة وبوابتها المشهورة عند حائط البراق. ازدادت وتيرة الهجرة إثر اتخاذ البرلمان الفرنسي يوم الثالث عشر من فيفري 1912 قرارا بإجبار الجزائريين على الدخول إلى الخدمة العسكرية الإجبارية بصفتهم رعايا فرنسيين. وحتى في هذا القرار الاستعماري الجائر المهين، فُرض على الجزائري الخدمة العسكرية لثلاث سنوات مقابل خدمة الفرنسي بسنتين. عندها تفجرت المشاعر وتعلق الجزائريون بقناعة أكثر بجدوى المقاومة والكفاح، رغم محاولة السلطات الفرنسية الأخذ بمبدأ التعويض المالي الذي يدفعه المجند مقابل عدم خدمته في الجيش الفرنسي. فقد رفض الجزائريون مبدأ التجنيد الإجباري أو التطوع في جيش أجنبي أصلا، لما فيه من احتقار وإذلال لهم ولكرامته الوطنية، ولاعتبارات دينية وأخلاقية حرمت ذلك، ولعدم الاطمئنان لما يقال عن مساواة مواطنتهم الفرنسية، إضافة إلى أن العوائل الجزائرية وصلت إلى حالة من الفقر يمنعها من حماية أبنائها من تعسف التجنيد الذي دفعت الجزائر بسببه من أرواح أبنائها على جبهات الحرب العلمية الأولى وكلفها ثمنا باهظا. يشير الدكتور صلاح العقاد إلى الهجرة التي تبعت هذا القرار: »... وكان لهذا القرار صدى عنيف بين الجزائريين إلى حد أن هاجر على إثره جماعات متلاحقة من وهران إلى الشام«. وهذه الهجرة سبقتها هجرات لم تنقطع على امتداد تاريخ الاحتلال الفرنسي، وبخاصة بعد قمع كل ثورة وانتفاضة شهدتها الجزائر وما يعقبها من تقتيل وتشريد واحجز الأراضي ومصادرة الممتلكات والتعرض لكل أشكال القمع والانتقام الديني والعنصري. ويؤكد جميع المؤرخين أن الهجرة بعد قرار التجنيد الإجباري، مضافة إلى محاولة التجنيس والسيطرة على تسيير وإدارة الأوقاف الدينية والتضييق على التعليم العربي أخذت الهجرة طابعا جماعيا وجديدا فمن حالة فردية أو عائلية محدودة إلى رحيل قبائل برمتها ونزوح جماعي شمل مئات العائلات تاركة أملاكها وضياعها وكل عزيز لديها، )هروبا من أرض الكفر(، وفرارا من الحكم الاستعماري الظلوم. كتب عن تلك الهجرة الجماعية مارشاند في »مجلة الشؤون الدبلوماسية والاستعمارية« بما يلي: »وعندما أصبح واضحا أن قانون التجنيد الإجباري كان سيصدر لا محالة، باع هؤلاء أملاكهم وأخذوا نسائهم وأطفالهم ثم غادروا وطنهم«. وحديث مارشاند عن بيع للأملاك ربما أنه لم يتصور أن الأملاك العقارية أو الأراضي لم تجد من يشتريها وليس هناك من سبيل إلى بيعها، مما جعلها تصبح مستلبة من قبل السلطات الاستعمارية ويستولي عليها المستوطنون. وليس التجنيد وحده سبب في اختيار المنفى على الوطن بل هناك من الأسباب الأخرى منها رفض الاستيطان الاستعماري ورفض الفرنسة والحياة الغربية التي أراد فرضها المعمرون وسلطات الإدارة الاستعمارية الفرنسية. في تلك السنة خرجت 800 عائلة من تلمسان وحدها ورحلت إلى الشام وفلسطين. وحتى من سكان القبائل الذين انقطعت عنهم أرزاقهم خرج منهم سنة 1912 وحدها قرابة 5000 فردا وتزايدت الهجرة بشكل متصاعد خلال سنوات الحرب وحتى سنة 1924. ومن أصعب الهجرات التي تعرض لها الجزائريون من اجل إعالة عوائلهم هي الهجرة إلى بلاد مستعمرهم حيث استغلوا في الأعمال الشاقة وقلة الأجور وترك الأهل في الوطن وبذلك تكونت نواة النزوح الجزائري إلى فرنسا وتفاقمت إعداد المغتربين من الرجال إلى أن بلغت مئات الألوف فتضاءلت أمامها الهجرة نحو المشرق العربي بسبب غلق الحدود. أكثر المهاجرين قصدوا سوريا ومنهم من اتجه إلى القدس ومدن فلسطين والقلة منهم قصدوا الحجاز. إضافة إلى تونس والمغرب الأقصى. يقدر بعض المؤرخين أن عدد المهاجرين في تلك الموجة وحدها وصل قرابة عشرين ألف. لقد سبب وجود جاليات جزائرية في المشرق العربي إزعاجا للسياسات الاستعمارية الفرنسية مما لمسته من نشاط سياسي واجتماعي جزائري متميز هناك، وبما أثرت به تفاعلات حركة النهضة العربية وطموحها في التحرير لبلدان الوطن العربي. لقد حمل الجزائريون وأبنائهم تجربة الثورات والانتفاضات الوطنية وتعلموا منها دروسا هامة وخاصة أسباب توقفها أو هزيمتها أمام جبروت الاستعمار وخاصة نهاية ثورة المقراني 1871 التي كان توقفها ضربة قاضية على الآمال للتحرير وطرد الاستعمار. وقد كانوا في طليعة ثوار القسام 1936 وقدموا على مذبح حرية فلسطين إلى اليوم الكثير من الشهداء. إن حروب المقاومة الجزائرية وكما يكتب عنها الكثير من المؤرخين المنصفين كلفت الشعب الجزائري نصف سكانه. وبعد انتكاسة ثورة المقراني بلغت القسوة الفرنسية إلى مصادرة 5 ملايين هكتار من خيرة الأراضي الزراعية التي كانت ملكا للثوار وعوائلهم. كما تم تأميم مليونين ونصف هكتار أخرى، وزيادة على فرض دفع مبلغ 100 فرنك عن كل بندقية كضريبة حرب. وأصدرت السلطات قانونا بالمسؤولية المشتركة الجماعية على كل خسارة تحدث في ممتلكات المحتلين المغصوبة. وبطبيعة الحال فكل نزوح من الجزائر إلى الخارج كان يحل محله توافد المستوطنين الغزاة الذين أطلق عليهم المعمرين وهم المخربون الحقيقيون لأرض وثروات الجزائر. هي صورة مطابقة لما جرى في فلسطين. فما بين 1871-1881 تم توزيع ملايين الهكتارات من الأراضي العربية المصادرة. وبنيت للوافدين الجدد مئات القرى الفلاحية ومنحت لهم القروض السخية. وما كتبه المجاهد الراحل توفيق المدني من وصف الاستبداد وسياسات الإلحاق والضم للأراضي والسيطرة على ثروات البلاد ما بين 1870 إلى 1914 كان تدميرا شاملا لحياة الجزائريين دفعهم إلى خيارات الهجرة، أو الرضوخ تحت نير الاستعباد الاستيطاني. ولكنهم اختاروا خيار الثورة. في حين اندمج المستوطنون واليهود في الجزائر فيما بينهم وتجنسوا وبشروا بدياناتهم على حساب الأهالي من السكان وحقوقهم. وفي نهاية المطاف كان البحر طريقهم من حيث أتوا.