هل الشاعر الكبير هو صاحب الهالة الإعلامية المبهرة حتى وإن كان نصه يعاني فقر الدم الجمالي؟ خاصة إذا كان يجيد نسج العلاقات مع الجميع وعلى حساب الجميع، علما أن أصحاب النصوص الهزيلة بارعون بالضرورة في هذا، أم هو صاحب المشروع الإبداعي الواعي بأبجديات الكتابة والحياة في تحولاتها كلها، حتى وإن كان لا يحظى من الضوء إلا بضوء مصباحه وهو يكتب نصه المنير؟ ونحن في الجزائر نملك الصنفين معا، هل أتأسف على ذلك؟ لا طبعا.. لأن الواقع منسجم مع منطق الطبيعة، وفي النهاية سوف لن يبقى إلا الخالص والمخلص، مع الإشارة إلى أننا لا نعرف خارطتنا الشعرية بكل تضاريسها، حتى معاهد الأدب عندنا لا تعرف، بل إن بعض الباحثين الكبار أصدروا معاجم للشعراء الجزائريين، ويمكن للعارف الجيد بكل من يكتب جيدا في الجزائر أن يلاحظ إغفالا لكثير من الأسماء الجادة، أتوقع أن الجهل بها هو الذي أسقطها من هذه المعاجم. وهذا الجهل مخل بمصداقية الأمور، لذلك فمن التعسف في ظل غياب جرد حقيقي للتجارب الحقيقية أن نطلق حكما على ملامح الشعر في الجزائر، ماذا يعني لي الشعر؟ سوف أكون رومانسيا فأقول: إنه ما تخلّفه الفصول فينا وهي تتعاقب خاضعة لناموس الطبيعة، وعادة ما تكون تلك المخلفات هي ما ترغب الطبيعة في أن تعيشه لو كانت حرة. نكتب أحلام الطبيعة التي لا تتحقق، هذه هي القصيدة التي تبقى في نظري، لذلك أستاء كثيرا من بعض نصوصي لأنني أراها غير قادرة على أن تصل إلى هذا المقام، فأبحث عن بدائلَ لها، أحيانا فقط من أجل إثارة غيرة القصيدة، أتصور أن قصيدة الشاعر الذي يكتب الرواية أيضا تجتهد أكثر من أجل أن تنضج.. يصعب عليها أن تتقبل ضعفها أمام الضرة الوافدة التي تصر بدورها على أن تتجاوزها دوما، والمستفيد طبعا هو أنا، أقصد مشروعي الإبداعي. الكاتب لا يساوي إلا مواطنا عاديا خارج مشروعه الإبداعي، وعلى الذين ينتصرون دوما للإنسان العادي فيهم على حساب المبدع أن يدركوا من الآن أن غيابهم عن وليمة التاريخ متوفر الأركان، وليمة التاريخ لا يحضرها الأنانيون وأصحاب العيون الحافية. عندما اتصل بي صديقي الروائي شوار الخير وطرح عليّ هذا السؤال: ما تنتظر من الرواية الجزائرية؟ كنت في سيارة أجرة مع صديق روائي وكانت بحوزتي رواية »مريم الحكايا« للروائية علوية صبح، وكنت عائدا من مدينة روائية هي قسنطينة إلى مدينة تجنبتها الروايات هي الجزائر العاصمة رغم أن الأغلبية من روائيي البلاد مقيمون فيها. كان الوصول إلى عتبات الأخضرية بعد طريق سيار منذرا بزحمة تأكل الأعصاب، ما جعل الأحاديث داخل السيارة تشرع في التشنج وتطفو على سطوحها الشكوى•• الشكوى كالأعشاب الضارة تجد ذاتها في الزحام، تساءلت بيني وبيني: كم رواية جزائرية كُتبت من هذا المنطلق؟ وكم رواية جزائرية كانت ستكتب بنبرة مختلفة لو كان اليومُ الجزائري منذ الاستقلال خاليا من الزحام؟ يوم بلا تعسفات إنسانية وتاريخية، ثم وجدتني أضحك على غفلة مني حين تذكرت السؤال: ما الذي تنتظر من الرواية الجزائرية؟، والسبب أن السؤال جعل من الرواية كائنا حيا يمكن أن ننتظر منه شيئا، كائنا فاعلا ومتفاعلا تترتب على أفعاله وانفعالاته حقوق وواجبات، مثلي أنا عبد الرزاق بوكبة، فعكست السؤال: ماذا أنتظر من نفسي؟ ضغطت على جبيني مستحلبا جوابا أو نصف جواب فلم أجد، فعلا ماذا أنتظر من نفسي؟ هل أنا أكتب بحثا عن إجابة على هذا السؤال؟ أم هروبا منه؟ غيّرت الصيغة: ماذا ينتظر الناس مني؟ ثم من هؤلاء الناس؟ لا أذكر يوما قال لي فيه أحد أنا أنتظر منك كذا، ما عدا أمي التي أوهمها أحد شيوخ الزوايا قبل أن أولد بشهرين بأني سأكتب كتبا يقرؤها الناس جميعا، لذلك أصرّتْ على أن أدخل المدرسة في مقابل رغبة أبي في أن أتوجه إلى المرعى، وحين أصدرت كتابي الأول ''من دس خف سيبويه في الرمل'' قبل ست سنوات ووضعته بين يديها، وهي التي لا تقرأ ولا تكتب تنهدت قائلة: صدق الشيخ العظيم، ولم تفقد ثقتها في نبوءة شيخها حتى اليوم• مرة قالت لها إحداهن إن ابنك كتب قريتنا أولاد جحيش في روايته فلم تصدق، قالت لي في الليل: يا ولدي•• لا تفعل فأولاد جحيش لا يليق أن تدخل الكتب، قلت لها: لماذا يا أمي؟ قالت: أكتب عن الله والنبي، أما أولاد جحيش فلا يعرفها إلا الله، هناك قررت أن أعصي أمي لأول مرة في حياتي وأكتب قريتي•• ذاكرتي الصغيرة التي كانت في طفولتي تعني لي العالم كله، حتى أنني كنت أعتقد أن الدنيا كلها مظلمة إذا غربت الشمس في أولاد جحيش، وكنت أعتقد أن الله قريب جدا رغم أنه يقيم في السماء حتى أنني مرة حملت قصبة طويلة وعلوت الجبل حتى أدغدغه عله يضحك، كنت أحلم بأن أرى الله يضحك، وها حلمي يتراجع وأنا أدشن عقدي الثالث، حيث أصبحت أحلم بأن أرى إنسانا جزائريا يضحك في هذا الزحام الذي يأكل الأعصاب، صديقي الخير•• إذا كان لا بد أن أنتظر شيئا من الرواية الجزائرية فهو أن تستثمر في الأحلام قبل أن يخونها الوعي الشقي، أن تكتب الحلم في صرخته الأولى قبل أن يصيبه غبار الزحام، وبهذا فقط يصبح المتسبب في تشويه أحلامنا أو إجهاضها مُدانا إنسانيا وإلى الأبد، أما أن نكتب الشكوى من الزحام فستصبح رواياتنا بلا معنى أو مجرد وثائق على مرحلة ما حين يأتي يوم تكثر فيه الطرق السيارة التعددية الفعلية وهذا شطر من الحلم.