ن جملة الحوارات المبكرة التي أجراها القائد الراحل هواري بومدين مع الكاتب المصري لطفي الخولي والتي نشرها في كتابه [عن الثورة في الثورة وبالثورة] مقابلة سجلت في الجزائر في أكتوبر .1974 تحدث الرئيس الراحل هواري بومدين عما أسماه زالمرحلة الثانية للثورة الجزائريةس بدءا من 1975, عبر فيها عن قلقه من تنامي ظواهر ارتداد في المستوى الدولي على الصعيد الثوري من خلال أمثلة نكروما في غانا والليندي في شيلي والقلق من الآتي المرتقب دوليا. تكلم بومدين عن نظرية الاتجاه المعاكس في الثورة، فالعالم الثالث كما يراه كان صيادا عندما ثار على واقع الاستعمار القديم فكانت الامبريالية والاستعمار الجديد في مرمى هدف حركات التحرر، ولكن أفق الاتجاه المعاكس تحول إلى أن أصبح الصيادُ هو الاستعمار بينما أضحت الثوراتُ الوطنية مصيدةً وأبطالُها أضحوا أهدافاً للصيد الامبريالي. يقول بومدين لمحدثه الكاتب المصري لطفي الخولي معبراً عن ذكرياته الأليمة عندما التقى بعبد الناصر عشية هزيمة يونيو ,1967 قال عبد الناصر وهو يتمزق ألما: .. عرف الأمريكان أخيراً كيف يصطادونني ويصطادون مصر... السمكة الكبيرة.... نعم كنا أكبر قوة عسكرية, ولكن الجيش المصري أُصيب بسكتة قلبية, لا بسبب رجاله أو سلاحه, وإنما بسبب البيروقراطية العسكرية، ومهمتي اليوم أن أتحرر من شباك الصياد وأُعيد بناء الجيش بالشباب. يعلق هواري بومدين على قول عبد الناصر ويرد عن حالة الجزائر: ...نحن لن نمكِّنَ أي صياد من أن يوقعنا في شبكته... الجزائر اليوم إحدى السمكات الكبيرة، طريقنا للحماية والتطور هو الثورة... بدون الثورة ستأكلنا ثورة مضادة.وهكذا كانت الثورة مسكونة في ذهن هواري بومدين، ومفهومها يمتد من التغيرات الاجتماعية في الجزائر إلى الأبعاد القومية والعالمية للثورة الجزائرية، ودور الجزائر الفاعل في حركة التحرر الوطني العربية والعالمية. ولما كان الحديث لهواري بومدين مع لطفي الخولي بعد حرب أكتوبر 1973 وما تبعها من هدنة ومفاوضات مع إسرائيل، فان قلق هواري بومدين بات واضحا حول مستقبل الثورة الفلسطينية مع كل ما كان يجري حينها من صفقات أمريكية إسرائيلية لجر مصر إلى مصيدة التطبيع. خاصة أن الرئيس بومدين قد تحدث حينها وبصراحة مشيراً إلى وجود خلافات في وجهات النظر مع مصر في المنهج, ومن موقع الرؤية لمستقبل القضية الفلسطينية بعد أن سارت مصر شوطا في التسوية السلمية مع إسرائيل, خصوصا أنّ بومدين حرص شخصيا خلال مقابلاته العديدة مع السادات على متابعة قرار وتوقيت حرب 1973 وقد باركها ووعد بوضع إمكانيات الجزائر في خدمة المعركة, وقد نفذ بومدين ما وعد به مصر قبل الحرب وبعدها، وقدمت الجزائر مساعدات عسكرية ومالية وتعبوية مشرفة كما هو معروف لدعم مصر, وبعد انكشاف غبار المعارك سار السادات نحو التطبيع والصلح مع إسرائيل وعبر بومدين عن موقف الجزائر بصراحة: .. نحن في الجزائر ضد التهوين من حرب أكتوبر، كما أننا ضد التهويل والمبالغة في شأنها، حرب أكتوبر بداية عظيمة لعمل عربي تحرري قادر على الانتصار في النهاية. وعندما امتدح زالقدرات القتالية العظيمة للمقاتلين المصريين والسوريين خاصة والمقاتلين العرب عامةس ظل وبتواضع القائد يتجنب الإشارة إلى امتداح بطولة وحدات جيش الجزائر التي شاركت في القتال. لكنه أوضح درساً وخلاصة لمغزى حرب أكتوبر:إن الحرب أثبتت أن إسرائيل ليست بالقوة التي لا تقهر، وان الحرب فتحت عيوننا على ما نملكه من طاقات وقدرات للتحرير والبناء، لو أحسنّا التخطيط الجماعي المشترك الذي يحقق المصالح المتبادلة للجميع. وعما آلَ إليه مستقبل القضية الفلسطينية من منظور الحل السلمي وما طرحته الولاياتالمتحدة حينها من حلول وتصورات بشأن قضية زالشرق الأوسطس قال بومدين: ...اعتقد بتواضع أن الجزائر بحركتها وبالدور الذي قامت به وفاءً لواجبها ومسؤوليتها القومية خلال حرب أكتوبر قد أكدت أن بُعد المسافة بين موقعنا الجغرافي وبين ميدان المعركة ليس عائقاً لنا أو لغيرنا للتواجد الفعال والمؤثر خاصةً عندما نكون بصدد معركة قومية ضد الامبريالية والصهيونية. وبهذه الممارسة المسؤولة خطَّأنا تلك النظريات التي كانت تقول أننا نقاتل الاستعمار الصهيوني والاحتلال الإسرائيلي ونحن محتمون في موقعنا الجغرافي الذي يفصلنا أربعة آلاف كيلومتر عن معمعة القتال, وأضاف.. فقط أُريد أن أُسجل أننا لم نكن نزايد، ولم نكن نلقي الكلام على عواهنه. وأننا كنا ولا زلنا نقصد كل موقف نتخذه أو رأي ننادي به بإخلاص قومي وبناء على حسابات موضوعية .ويضيف بومدين: (... بالنسبة لنا، وداخل ما أصبح يُعرَفُ عالميا باسم زأزمة الشرق الأوسطس، فان القضية الفلسطينية هي القضية الأم. كانت دائما هكذا. وستظل على هذا المستوى حتى تتحقق كاملة. لماذا ؟: لأن قضية سيناء حتما سَتُحَل، ولأن قضية الجولان حتما سَتُحَل. الصراع العربي الإسرائيلي جوهره فلسطين أو لا فلسطين. ويؤكد بومدين أن الخلافات العربية حول فلسطين لا يمكن أن تضع الجزائر في أي موقع للخيار بينها وبين الثورة الفلسطينية وشعبها، ولأن الجزائر حسب بومدين تختار بلا تردد، وبدون تحفظ الثورة الفلسطينية... والحقيقة الموضوعية التي أود تسليط الضوء عليها، هو أن القضية الفلسطينية بطبيعتها أحد شيئين, إما الإسمنت وإما القنبلة، بين الدول العربية هناك قاسم مشترك بين الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية، وهناك فارق جوهري, الفارق يتجسد على الأرض، ظروف الثورة الفلسطينية أقسى وأصعب, ليس فقط بسبب أن غالبية جسم الثورة خارج الأرض؛ بل إن رقعة المساحة المُحتَلة نفسها هي في موقع جغرافي تتمكن منه قبضة المحتل بسهولة، فضلا عن أن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني قد ضاهى أو تجاوز في عدده الشعب الأصيل .والقاسم المشترك هو أن الشعب الفلسطيني وجد طريقه إلى الكفاح المسلح المباشر، وسار عليه بثبات ودفع ثمن الدم, والدم في النهاية يفرض نفسه وقيمته وثورته على العدو،