بحلول يوم 26 جانفي تكون مرت سنة عن رحيل المناضل الكبير والشخصية الوطنية الأصيلة البارزة سي عبد الحميد مهري، رحمه الله وطيب ثراه، ومن دون مبالغة يمكننا القول أنه الشخصية الوطنية الجزائرية الفذة التي كانت تلقى رواجها الواسع واللامحدود بالاحترام والتقدير إن على المستوى الشعبي، أو على المستوى الرسمي الجزائري والعربي، وقد كانت له خصال نادرة، قلما تجدها مجتمعة في شخص بعينه، كان وطنيا حتى النخاع، ويعتبر الجزائر وشعبها جزء لا يتجزأ من الوطن العربي الكبير، كان صبورا، ورجل صدق وحق، يمارس السياسة في نظافة تامة، ولا يؤمن بمقولة ميكيافيلي الانتهازية واللاأخلاقية زالغاية تبرر الوسيلةس، لأنه يرى في أنها لا تتماشى والقناعات الروحية للشعب الجزائري، يمارس السياسة في وضوح تام، وفي أعلى مستويات الممارسة السياسية المبدئية النظيفة. أحب الجزائر حتى النخاع ودافع عن سيادة شعبها سابقا ولاحقا سي عبد الحميد لم يكن بالسياسي السطحي العادي، ولا برجل الدولة العابر عبور ما تتطلبه المُهل الزمنية للكرسي السياسي، أو المنصب الرسمي في هياكل الدولة، بل كان ذُخرا للجزائر في كل الظروف والمحطات الصعبة والشائكة، كان رحيما بالوطن، وبكافة أفراد الشعب الجزائري، ورُبما وهذه قناعتي بالرجل الوحيد، أو من القلائل جدا، الذين يحبون الشعب الجزائري كله، ولا يفرقون بين هذا الفصيل السياسي و ذاك حينما يتعلق الأمر بالوطن، وكان الوحيد ربما الذي لم يقطع الصلة بالدولة والعناصر القوية في النظام الجزائري القائم، رغم اختلافه الجذري معهم أحيانا في كثير من الأمور الجوهرية، وقد كان يخاطبهم بالنصح والتنبيه والتأشير على المخاطر، وعلى ما يجب فعله، بمستواه السياسي الرفيع، وكان صريحا مع الجميع، يُخاطبهم بكامل الاحترام والوضوح وقد عرف بهذا السلوك الشهم حتى مع من كانوا يختلفون معه، ويكنون له العداء، دون لف أو دوران وفق ما جرت العادة عند آخرين، من زفصيلة بشر البصل والعنصلس وفق ما يُقال. ما أعرفه عن سي عبد الحميد وما أعرفه عن سي عبد الحميد جيدا، أنه أحب الجزائر حتى النخاع، ودافع عن حق شعبها سابقا ولاحقا، في السيادة والكرامة، وحرية القناعة والتعبير والرأي، وتساوي جميع الجزائريين في أي طموح، أو مسعى مشروع، وهذا تحديدا ما يحصل لي الشرف العظيم أن أشهد به اليوم أمام الله، وأمام الوطن والشعب في الذكرى الأولى للترحم على روحه الطاهرة الزكية. ولكم أن تتابعوا شهادتي الحية في الرجل، الذي جمعتني وإياه الانتخابات التشريعية لسنة 1991 ، بشكل مباشر، ولن أزيده وصفا على ما يتمتع به من خصال الرجل الوطني القومي الصالح، فقط أُقول: تشاء الصدف وأنا الصحفي الصغير سنة 1991 أن كلف رحمه الله الأستاذ صالح خوري المدير العام لأسبوعية المجاهد الأسبوعي، اللسان المركزي لحزب جبهة التحرير الوطني، التي كنت أشتغل بها آنذاك، بالبحث عن صحفي جزائري يتوفر على جملة من المواصفات والخصال، اشترطها عليه سي عبد الحميد رحمه الله، ولأن الأستاذ صالح خوري يعرفني جيدا، أحالني عليه، ، وقد قابلته بعد تردد وخوف من جسامة المسؤولية ، وعرض علي القيام بمهمة الإشراف على الجانب الإعلامي في الحملة الانتخابية، التي انقسم عليها ظهر البعير وفق ما يُقال وهي تنحصر أساسا في استقبال الصحافيين العرب والأجانب والجزائريين، وتوجيههم الوجهة الإعلامية التي يريدونها فيما يخص الشخصيات السياسية لحزب جبهة التحرير الوطني، وأن أشرف وبشكل مباشر شخصيا على الحصص الانتخابية التي تُبث طيلة الحملة الانتخابية في التلفزة الوطنية، والقنوات الإذاعية الثلاث، التي مُددُها الزمنية ربع ساعة، وعشر دقائق، وخمس دقائق، وأن أُحدد مواضيع كل الحصص بالتعاون والمرونة المطلوبة مع كل شخص متدخل من مناضلي الأفلان، وأشهد أمام الله وأمام الوطن والشعب أن سي عبد الحميد فوضني بشكل مطلق في تحديد المواضيع، وكنت أستعين ببعض الإخوان من المناضلين البسطاء المخلصين، ومنهم الأخ قاسة عيسي، عضو المكتب السياسي الحالي لحزب جبهة التحرير الوطني، المكلف بالإعلام، الذي لم يكن مسؤولا حزبيا آنذاك، وبالأستاذ صالح خوري في بعض الأحيان، وتواصلت مهمتي الصعبة هذه في ظروف عادية جدا، مع مناضلي الأفلان من مختلف ولايات الجزائر، ومع مسؤولي البث الإعلامي في التلفزة الوطنية، والقنوات الإذاعية الثلاث، وأذكر أن سي عبد الحميد فوضني رسميا وبشكل مطلق الإشراف الكلي على إعداد كل الحصص الانتخابية، في ''حزبنا بحاجة إلى هزة قوية'' قصر زيغود يوسف، المقر المركزي للحزب، قبل أن أتولى بنفسي وبسيارتي الخاصة غولف سوداء نقل كل المتدخلين، الذين أتولى أنا بنفسي توزيع الحصص عليهم وبالتنسيق والتوجيه السياسي السديد لأمين عام اللجنة المركزية للحزب، وفي كل الأحوال كان يتقبل كل المواضيع والتدخلات التي نقوم ببثها في القنوات الإعلامية المشار إليها، وأذكر أنه حين فوضني رسميا وفق ما ينص عليه قانون الانتخابات أن أتولى توقيع تراخيص تسجيل وبث كل الحصص في عين مكان تسجيلها، قلت له يا سي عبد الحميد: أنا حاليا وبالمعنى النضالي الشكلي للمناضل لستُ مناضلا، لأنني لا أدفع ثمن الطوابع، وليس لي بطاقة النضال، فقط أنا صحفي بلسانكم المركزي منذ حوالي 12 سنة، أجابني رحمه الله: هذا يكفيك، وأعرف قليلا من المعلومات عنك، وأقرأ فيك كل الخير لحزبنا الذي هو بحاجة إلى هزة قوية من الداخل، عندها تشجعت، وقلت له: سي عبد الحميد لدي طلب آخر، (انتبه معي جيدا وحدق في) ، قلت له: هل تأذن لي بأن أتصرف في انتقاء المناضلين الذين توكل لهم هذه الحصص، قال : بالطبع لك كامل الحرية، وثقتنا فيك كبيرة، واصلتُ معه: أنتم سي عبد الحميد كقيادة وطنية للحزب تسعون من وراء كل ما كلفتموني به للحصول على أكبر قدر من المقاعد البرلمانية، وهذا في قناعتي لا يأتي عن طريق أصحاب المحافظ الجلدية الضخمة، والسيارات السوداء الفخمة، بل عن طريق البسطاء من خيرة الشباب المخلصين للوطن والشعب، أصحاب الكفاءات المهمشين والمُبعدين بشكل أو بآخر. قال لي: نعم التفكير، ولك البطاقة الخضراء، وكانت لي بالفعل البطاقة الخضراء، في الإشراف على إعداد كل الحصص والأخوان مصطفى بن نابي مدير الأخبار في التلفزة الوطنية آنذاك، ومحمد شلوش مدير الأخبار في الإذاعة الوطنية والعاملين التقنيين بهما يشهدان على ما أقول. يدعو للمرونة المبدئية ويمنع التطرف حتى عن مناضليه وقد حدث في إحدى المرات أن نقلت معي متدخلا لم أكن أعرفه جيدا من قصر زيغود يوسف إلى شارع الشهداء، وتبين لي فيما بعد أن ما تحدث فيه هذا الشخص في التسجيل الأول بالتلفزة الوطنية لم يكن مستساغا بالمطلق، وحاد عن السياق الذي اتفقنا على الحديث فيه، وأذكر أن موضوع البث التلفزي مدته خمسة عشر دقيقة، وكان حول نظرة حزب جبهة التحرير الوطني للمرأة الجزائرية، وعوض أن يلتزم هذا المتدخل بما اتفقنا عليه (تبين لي فيما بعد أنه مسؤول كبير، وقد أحاله علي أحد الإخوان في الحزب)، شاط عن الموضوع ، مما اضطرني إلى إعادة تسجيل الحصة لثاني، وثالث مرة، وكان ذلك بالتنسيق مع الأخ مصطفى بن نابي مدير الأخبار بالتلفزة الوطنية، وهو أمر قانوني، وحين رأيت أن هذا الأخ ذهب بعيدا في مهاجمة حزب جبهة الإنقاذ المُحلة بشكل مبالغ فيه، ومُضر انتخابيا وسياسيا بحزب جبهة التحرير الوطني، وراح يتحدث في سياق مُضر بالجزائر، ومتعارض مع توسيع دائرة الرضا الشعبي الانتخابي حتى دائرة التيار المفترض إسلاميا، قلت له بعد أن نبهتُ عليه في المرة الأولى تدارك تطرفه في مهاجمة الإسلاميين بالجملة، وتركيزه على ما يفيد الأفلان، كان تمسك بما كان في رأسه، عندها طلبتُ من بن نابي أن يُمهلني أن أتصل هاتفيا بسي عبد الحميد، وأُطلعه على فحوى التسجيل الذي هو قانونيا لا يتعدى ثلاث تسجيلات، فإما أن يُبث أو لا يُبث، وفعلا اتصلت بسي عبد الحميد وأطلعته عل الفكرة العامة التي أراد هذا الأخ إيصالها للمشاهدين عبر حصته، وكانت باختصار تعطي أوصافا لا أخلاقية للإسلاميين عامة وبالمطلق، وفيها قدر كبير من التهويل،، اهربوا أيتها النساء، جاء الظلاميون، الجهلة،، سيُعيدونا إلى العصور الحجرية،،،،،،إلخ، وحتى الأخ بن نابي لم يستسغ هذا التهويل من باب حرصه الوطني على حدود الاحترام السياسي، والتنافس الشريف وفق ما ينص عليه قانون الانتخابات، وما إن شرحتُ الأمر لسي عبد الحميد حتى بادرني قائلا: وأنت ما رأيك، قلت له على الفور: في محطة انتخابية كهذه نحن لا يجب أن نُعارض المعارضة بهذا الشكل وهذا التطرف، نحن نمارس السياسة، ويجب أن نأخذ في الحسبان أن بيننا وبينهم قواسم مشتركة، وشرائح واسعة من المواطنين متأرجحة في خياراتها الانتخابية بيننا وبينهم، ونحن هنا لا يجب أن نسمح ببث من يتجاوز حدود الاحترام السياسي، والتنافس السياسي الشريف، ومن حقنا أن نأكل من مربع الإسلاميين، لأننا نحن أيضا مسلمين ونِؤمن إيمانا قاطعا بالإسلام، وما إن أنهيت من توضيحاتي هذه، حتى قال لي رحمه الله، وأنت ما رأيك، قلتُ لهُ بكل احترام: سي عبد الحميد، الحصة لا تُبث والرأي رأيك، قال لي: فليكُن، وطلب مني أن أستنسخ ''كاسيت'' أخرى، وأُبلغها إياه حتى ينظر فيها، وكان له ما أراد، ويبدو أنه كان على دراية بهذا الشخص، وأمرني بعدم بث الحصة. مؤمن بمبدأي السيادة للشعب والتداول على السلطة وبحكم تكليفي بهذه المهمة منه رحمه الله، كنت مفوضا قانونا أن أُمثل الأفلان في قرعة توزيع حصص انتخابات الدور الثاني، وكنتُ أنا ممثلا لحزبي، والزميل الصحفي السابق بالتلفزة الوطنية صالح قوامي ممثلا للجبهة الوطنية للإنقاذ المُحلة، ومعنا ممثل ثالث لحزب جبهة القوى الاشتراكية، وقد تمت القرعة في جو تنافسي شريف بيننا، وكانت لي تعليمات من المرحوم تقضي بأن أُركز في اختياري على الحصول على أكبر عدد ممكن من الحصص في الأوقات التي تكون فيها نسبة المشاهدة والاستماع كثيفة على مدار أيام الحملة الإعلامية، وكان لنا ذلك بالفعل، ولكن للأسف تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد تم فيما بعد إيقاف المسار الانتخابي، ويوم أن قدم الشاذلي بن جديد الأمين العام للحزب رئيس الجمهورية استقالته، أو أُرغم على تقديمها، كنت أنتظر في ذاك المساء رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش بمقر التلفزة الوطنية، لأسجل له حصة من خمسة عشر دقيقة، وكنت يومها طلبتُ من بن نابي أن يتم استقبال مولود حمروش بكل احترام وتقدير، وأن نضعه في راحة تامة حتى يُمكن كل الجزائريين من تدخله، وهو حتى وإن كان حزبيا للأفلان، إلا أنه مع ذلك هو ملك لكل الجزائريين ومن دون استثناء. ومن بين ما أشهد به لقرائنا الكرام، ومن يهمهم الأمر أن سي عبد الحميد رحمه الله كان منذ البداية راضيا بالنتيجة التي ستُفضي إليها الانتخابات التشريعية، حتى ولو خسر حزبه أغلبية المقاعد البرلمانية، لأنه كان من المؤمنين إيمانا حقيقيا بخيار الصندوق، ومبدأ السيادة للشعب، والحق في التداول على السلطة، وتساوي كل الجزائريين في الحقوق والواجبات، وأكبر دليل أقدمه لقرائنا الكرام على ما أقول، أنه حين أخبرته في قصر زيغود يوسف قبيل انتهاء الدور الأول من الانتخابات بأن المؤشرات الأولية تفيد أن »الفيس« المحل سيتفوق علينا بفارق كبير، أجابني قائلا: وهل أنت معترض على إرادة الشعب، إن أعطاهم الشعب فمبروك عليهم، وتلك هي قناعته بالفعل. تعهد باحترام إرادة الشعب ودافع بقوة عن خيار الصندوق تعهد باحترام إرادة شعبه، ودافع عن خيار الصندوق، ولم يستسلم لمن وقفوا في وجه السياق الديموقراطي، ووجه الرئيس الشاذلي بن جديد، الذي تعهد هو الآخر باحترام إرادة الشعب، ولأن قناعته السياسية كانت ترى أن الجزائر لجميع الجزائريين، وأن الاعتراف بالحق فضيلة، فقد وقف بسلميته ونظرته الاستشرافية ضد توقيف المسار الانتخابي، والسياق الديموقراطي، وحذر من المخاطر المنجرة عن هذا القرار، ومثلما قدم النصح لقادة »الفيس« المُحل بتحكيم العقل، واتباع أسلوب الحوار، نصح في ذات الوقت السلطة الحاكمة في النظام بخطورة هذا القرار، والعواقب الوخيمة التي ستنجر عنه، وقد كان يقول لهم »أنتم سلطة فعلية ولكن غير شرعية«، وحاول قدر المستطاع إيجاد مخرج سلمي للمأزق الذي آلت إليه الجزائر، والفتنة المدمرة التي عششت في كامل ربوع الوطن، ومن بين الجهود السياسية البارزة التي تُحسب له على طريق المصالحة الوطنية التي لم تُثمر في البداية »لقاء سانت إيجيديو«، الذي كان من المفروض أن يحضره ممثلون عن الدولة وآخرون عن المعارضة، وبمن فيهم قيادة »الفيس المُحل«، وللأسف رغم أن مسعاه الأول آنذاك كان وقف إراقة الدماء الجزائرية، إلا أن هناك من خونه هو شخصيا رفقة حسين آيت أحمد وأحمد بن بلة، الذين من الشخصيات التاريخية البارزة، وأحد الرموز الوطنية القوية المعارضة، وجميعنا يذكر النشرة الإخبارية لليتيمة، التي أطلت علينا فيها الصحفية البسيطة سابقا والوزيرة لاحقا زهية بن عروس، وخونت فيها الإثنين دون حياء ودون خجل.