كلما حل عيد أو مناسبة سعيدة أو قرح، إلا وأجدني أفتح مذكرتي مراجعا أرقام الهاتف لأتصل بهذا الصديق أو الزميل مهنئا أو معزيا عبر الهاتف أو عبر الرسائل الهاتفية القصيرة ال ٍََّّ التي أصبحت واحدة من مميزات هذا العصر، ومن سمات التواصل الاجتماعي السريع والواسع الانتشار مثلها مثل الإيمايل أو الفايسبوك· وكثيرا ما أجدني عند فتح تلك المذكرة كل مرة أمعن النظر في هاتف لصديق أو قريب أو زميل قديم وقد غادر الدنيا دون وداع، فأتوقف للحظات متذكرا طفولة قد عشناها وصداقة نسجتها عشرة طويلة، أو زمالة جمعتنا على مقاعد الدراسة أو العمل ،أو أتذكر مناضلا شهما من رجالات جبهة التحرير الوطني لم تبدله عاديات الزمن ولا تنكر المتنكرين ولا زيف المزيفين، حيث كان يصول ويجول معنا فنقطع الجبال والفيافي وسط الناس الطيبين من أبناء الشعب، منظمين مهرجانا هنا أو هناك، أو مدافعين في خطب بليغة عن الجبهة وخطها الأصيل وبرنامجها الاجتماعي الذي بقي وفيا للشعب ولم تلوثه موجة الرياح العاتية التي جاءت بها ثورات دوّخت البعض، وجعلت أصحاب الأفكار المتقلبة والأمزجة المتبدلة ودعاة الرقية والحروز يدوخون ويتوهمون أنهم واصلون للحكم بفعل الأجندات الغربية والإملاءات الأجنبية، أو أجدني وأنا أفتح مذكرتي متذكرا كذلك واحدا من رجالات الوطنية والعلم والأدب والصحافة والسياسة الذي كان يملأ هذا الوطن بخدمته للشعب وجهاده عن الوطن أو بأفكاره وعلمه وكتبه ومحاضراته ومداخلاته الجريئة وكتاباته وخطبه المتميزة والبليغة· منذ أشهر فتحت مذكرتي لأكتب أو أتلفن لبعض هؤلاء الذين عرفتهم، فوجدت أن من بين تلك الأسماء التي غابت عنا إلى العالم الآخر ولم يعد بإمكاني التواصل معها عبر الهاتف أو الاتصال المباشر الصديق الأديب الراحل الطاهر وطار الذي غادر هذه الدنيا إلى غير رجعة منذ أكثر من عام· في تلك السنوات العجاف من تسعينيات القرن، كنت إذا ما ضاقت بي الدنيا أو شعرت بالقلق أهرب من مكتبي بشارع ديدوش مراد فأتسلل خلسة وأنا أنظر يمينا أو شمالا خوفا من رصاصة طائشة أو رمية مخادعة من أن تخترق رأسي رصاصة إلى مكتب الصديق الراحل الطاهر في جاحظيته وسط العاصمة، فنتناقش بود رغم اختلاف المواقف بيننا في كثير من هموم الوطن، الأمني منها والسياسي منها والاقتصادي والاجتماعي·· كانت الصداقة التي تولدت بيننا منذ نهاية الستينيات، رغم عامل السن، تحول دون أن يتطاول أحدنا على الآخر، رغم أن الرجل كان ينتقد أحيانا الجبهة لأنه يعتقد أن بعض رجالاتها ظلموه وظلموا ماضيه وظلموا جهاده ونضاله فيها· وكان كل منا يلتزم بموقفه واحترامه للآخر حتى عندما اختلفنا مرة أخرى عام 2003 و2004 حول الرئاسيات·· عرفت الرجل منذ تجاوزت عتبة الطفولة بقليل، ففي نهاية الستينيات كان الأستاذ الطاهر وطار ينتج برنامج ”لكل سؤال جواب” للإذاعة الوطنية، ووقع الاختيار علي من قبل المخرج الإذاعي الرجل الطيب محمد صواق الذي لا أعرف إن كان مايزال على قيد الحياة لتقديم برنامج الطاهر وطار وهو برنامج أسبوعي، ولم أكن وقتها سوى مجرد طالب ثانوي لم يصل سن العشرين بعد·· ومنذ ذلك الوقت تعمقت صداقتي بالطاهر، حيث ظللنا نتواصل معا حتى أثناء وجوده على سرير المرض في باريس عندما أصابه ذلك المرض اللعين الذي لم يقهر سي الطاهر على الإطلاق فظل يقاومه تارة بالكتابة وطورا بأغنية شاوية جرمونية معتقة قادمة من الزمن الأوراسي الأشم·· ومنذ يومين وأنا أستعد لتقديم تهنئة العام الجديد للعديد من الأصدقاء ومن بينهم عبدو· ب وجدت فجأة أكثر من صديق حتى من خارج الوطن يتصل بي ليعزيني بوفاة الصديق عبدو بن زيان المعروف بعبدو· ب·· عرفت عبدو هو الآخر في بداية السبعينيات، كنت وقتها طالبا بالمدرسة العليا للصحافة، وكان عبدو وقتها يتأهب لإنهاء دراسته الجامعية بنفس التخصص·· كانت أفكاره كطالب ينتمي للتيار اليساري تتعارض مع أفكاري·· ولكن مهنة الصحافة كانت تجمعنا نحن الاثنين، فقد كنت أحد أصغر محرري مجلة الأثير الصادرة عن مؤسسة الإذاعة والتلفزة في عهد المرحوم عبد الرحمن شريط، وكان عبدو· ب أحد أبرز محرري الشاشتان ََّفْكج ٍِّّمل َّمٌ وهي إحدى المجلات المتخصصة في السينما، وكانت تصدر بالفرنسية في تلك الفترة·· وبما كانت المواقف التي تحملتها شخصيا تجاه التيار اليساري أثناء رئاستي للمؤتمر الثالث لاتحاد الصحفيين الجزائريين الذي دار في قصر الأمم من ال 18 إلى ال 21 من شهر نوفمبر ,1982 واحدة من عوامل النفور بيني وبين المنضوين في ذلك التيار وفي مقدمتهم عبدو الذين وجدوا أنفسهم يقصون من قيادة الاتحاد التي تولاها جبهويون من بينهم محمد عباس ومحمد عرابديو وزهير قادوش وتركية ديب وعبد الحميد العياشي وكاتب هذا المقال وغيرهم من الصحفيين· ثم قادت الظروف عبدو في مطلع خريف 1990 ليكون على رأس مؤسسة التلفزة الوطنية مديرا عاما·· كنت وقتها مديرا جهويا لمحطة التلفزة بورفلة، وجئت من ورفلة لعقد لقاء مع المدير الجديد وتهنئته كما تقتضي التقاليد·· لكن الرجل امتنع عن استقبالي دون مبرر، وخرجت من مكتبه ورحت أحرر استقالتي من على رأس مديرية التلفزة لمحطة ورفلة مرفقة برسالة قاسية للمدير العام، وعدت في اليوم الموالي لأطلب مقابلة الرجل، وسمعته رحمه الله وهو يتحدث للسكرتيرة عبر الهاتف الداخلي بأنه لا يرغب في استقبالي، ورحت أعتذر للسكرتيرة فيما سأقوم به بعد أن أجبرني الرجل على ذلك· فقد دخلت مكتبه عنوة ورحت على غير عادتي أوجه له كلاما قاسيا جارحا، ثم وضعت أمامه استقالتي بكل تحد وخرجت من المكتب·· لكن يبدو أن الرجل استدرك خطأ ما قام به تجاهي، فقد جرى نحوي وراح يعتذر عما بدر منه وقدم لي الشاي بنفسه ·· وبعد أقل من شهر على تلك الحادثة جمعني بعبدو حوار مباشر على أمواج إذاعة ورفلة حول برامج ومستقبل التلفزة ورؤية كل منا للعمل التلفزيوني·· وأتذكر أن أحد المواطنين من وادي سوف اتصل بي على المباشر أثناء تلك المقابلة الإذاعية قائلا: كيف يمكن لك يا أستاذ بوعزارة وأنت المعروف بوطنيتك أن تتعامل مع مدير من هذا النوع له توجهه الذي يتنافى وتوجهك ووطنيتك؟ ورحت أجيبه بأن التلفزة التي حررها أمثال عيسى مسعودي وعبد العزيز شكيري وعبد القادر نور ومدني حواس وجيل المجاهدين والوطنيين في ال 28 أكتوبر ,1962 لا يمكن للبعض مهما كانت قناعاتهم أن يجعلوا منها قناة مستنسخة من قنوات ما وراء البحر المتوسط!! ومنذ ذلك اليوم أصبحت علاقتي بعبدو بن زيان علاقة صداقة واحترام·· إذ لا تكاد تمر مناسبة دينية أو وطنية إلا وأجد أن المرحوم عبدو يسبقني إلى الهاتف مهنئا أو سائلا عن أحوالي مثلما كنت أفعل ذلك بدوري في مختلف المناسبات، وكنا قليلا ما نلتقي على مأدبة غداء أعالي العاصمة·· عندما عاد عام 1993 على رأس مؤسسة التلفزة وكنت وقتها قد تم استدعائي من قبل المرحوم مصطفى عبادة، المدير العام الأسبق للتلفزة، للإشراف على بعث مشروع مجلة تلفزيونية طلب المرحوم عبدو أن أتولى إدارة محطة ورفلة للتلفزة من جديد بناء على إلحاح كبير من طرف العديد من المسؤولين، ولم أقبل العودة لذلك المنصب إلا بعد أن ترجاني أن أساعده أكثر من مرة في هذه المهمة·· في أعقاب انعقاد المؤتمر الجامع لحزب جبهة التحرير الوطني في ,2005 كلفني الأخ عبد العزيز بلخادم بتنظيم احتفالات اليوم العالمي لحرية التعبير والصحافة في الثالث ماي من ذلك العام· وكان الاحتفال مناسبة لتنظيم ندوة فكرية وحفل تكريم للصحفيين، وكان من بين الوجوه التي تمت دعوتها لتحاضر في ندوة الأفلان المرحوم عبدو الذي لبى الدعوة دون أي تردد· وأتذكر وقتها أن هناك من راح يلومني من أصدقائي الأفلانيين على دعوة عبدو للندوة، ولكنني رحت أقول لهؤلاء ألا يحكموا على المظاهر· ولذلك فإن هؤلاء فوجئوا بالمرحوم عبدو وهو يقول أمام الجميع بأنه جبهوي حتى النخاع وأن أباه مجاهد، وكانت المداخلة التي قدمها أمام الحضور من أحسن المداخلات وأثراها للنقاش·· وكانت تلك رسالة واضحة على تعلق الرجل ببرنامج ومبادئ جبهة التحرير الوطني· فقد كانت الجبهة على الدوام البيت الذي يأوي الجميع حتى الذين قد يطرحون بعض الأفكار التي تبدو مناقضة للخط الأصيل للجبهة، لأن الجبهة كانت وما تزال تكره قمع الأفكار وتؤمن بالحوار حتى لو اختلف مناضلوها معه، وأن الجبهة لا تخاف من أية طروحات عكس ما يراه المواطن بالنسبة لبعض التيارات السياسية التي يتلون قادتها مع كل ظرف، معتقدين أن الشعب لا يتابع تصرفات أمثال هؤلاء الذين دوختهم الرياح القادمة من بعيد أو من قريب، فظنوا أنهم قادمون لاستلام الكرسي، ولكن الكرسي كما يقول المرحوم محمد الشريف مساعدية يدوخ اللاهثين وراءه، ثم إن قدوم هؤلاء سيبقى مجرد سراب يحسبه الظمآن ماء وما هو بماء·· فوداعا عبدو وداعا·· وتأكد أيها الصديق العزيز أنني سأحتفظ بهاتفك وبذكراك كما أنك لو كنت حيا بيننا، مثلما احتفظت قبل ذلك بهاتف وذكرى من سبقوك إلى هناك من الأصدقاء الذين قد نختلف معهم في بعض القضايا ولكننا كنا مع ذلك أصدقاء نفرق بين مصلحة الوطن وبين الإيديولوجيات والمواقف الشخصية·