[email protected] كانت آخر مرة تحدثت فيها إلى الراحل الكبير سي عبد الحميد مهري رحمه الله منذ حوالي شهر على ما أذكر، وكانت كلماته غير كلماته التي اعتدت أن أسمع. فقد كانت نبرة كلامه هذه المرة غير تلك النبرة التي اعتدت أن أسمع من سي عبد الحميد قبل ذلك. كنت أعتقد قبل مهاتفته أن سي عبد الحميد مازال بعد في باريس للعلاج، لكنه راح يقول لي بصوت متهدج خاثر على غير عادته أنه عاد ذلك اليوم فقط من العلاج. لم أسترسل معه في الكلام كما كنت أفعل من قبل حيث كان حديثنا يمتد عبر الهاتف لدقائق بعد أن شعرت بأن قلب هذا الصديق الكبير متعب. كان منذ عرفته نبيلا وطيبا وشهما وودودا، يبدو لمن لا يعرفه بأن الرجل سهل المراس، ولكن من عاصروه يعرفون بأن سي عبد الحميد صارم لا يساوم في المبادئ ولا يتاجر. فمازلت أذكر إلى اليوم جدله الحاد مع الرئيس بومدين رحمه الله في الندوة الوطنية للتعريب عام 1975 حول التعريب في الجزائر التي جرت فعالياتها ذلك العام في قصر الأمم، فقد كان الرجل على اختلاف واضح بخصوص هذه النقطة بالذات مع المرحوم بومدين. عرفته منذ أقل من أربعين عاما عندما كان أمينا عاما لوزارة التربية الوطنية، وعرفته بعد ذلك عن قرب بعد أن أصبح وزيرا للإعلام في نهاية سبعينيات القرن الماضي. فقد كان يجتمع بين الحين والآخر مع مسؤولي الإعلام للقطاع العمومي في تلك الفترة، وكنت وقتها سكرتيرا عاما للتحرير قبل أن أرتقي في آخر أيام سي عبد الحميد على رأس وزارة الإعلام والثقافة رئيسا للتحرير بالقناة الأولى للإذاعة. في مطلع الثمانينيات تولى سي عبد الحميد رئاسة لجنة الإعلام والثقافة بحزب جبهة التحرير الوطني، وكان يساعده على رأس قسم الإعلام والثقافة الصديق الراحل بشير خلدون. وللتاريخ فلابد أن أذكر هنا موقفا نبيلا لسي عبد الحميد وما أكثر المواقف النبيلة التي عرف بها الرجل. فعندما ألغى الرئيس الشاذلي بن جديد في مطلع الثمانينات الإجراءات التي كانت ما تزال تطال الرئيس الأسبق أحمد بن بلة شفاه الله وأطال عمره منذ ال 19 جوان 1965، راح الرئيس بن بلة يدلي بسلسلة من التصريحات لبعض القنوات التلفزيونية وبعض وسائل الإعلام الأجنبية والتي أقلقت المسؤولين في تلك الفترة، واعتبرت بأنها إساءة لتلك اللفتة التي قام بها الرئيس الشاذلي تجاه الرئيس بن بلة. وتقرر الرد عبر وسائل الإعلام العمومية بما فيها الحزبية على الرئيس بن بلة بتعاليق على تلك التصريحات، ولم يكن الإعلام المستقل وقتها قد ظهر بعد. وهكذا تم عقد جلسة بالإذاعة الوطنية حضرها المرحومان مهري وخلدون والأستاذ عبد القادر نور مدير القناة الأولى للإذاعة وقتها والصحفي خليفة بن قارة وكاتب هذا المقال لدراسة الموقف من تصريحات الرئيس بن بلة. وتقرر في النهاية كتابة سلسلة من التعليقات الإذاعية للرد على الرئيس بن بلة. وبما أنني كنت رئيس تحرير القناة الأولى للإذاعة فقد كلفني الأخويان مهري وخلدون أن أبدأ شخصيا بكتابة تلك التعليقات. وبعد أسبوع على ما أذكر اجتمعنا من جديد وقرأت ثلاثة تعليقات كتبتها للرد على تلك التصريحات. وأعجب المرحومان مهري وخلدون بتلك التعليقات وتقرر أن نشرع في بثها على أمواج الإذاعة. وفجأة وجدت المرحوم مهري يتوقف عن الكلام ثم يخاطبنا جميعا بقوله: »اسمعوا.. علينا ألا نخطئ في حق الرجل مرة أخرى، بن بلة كان وسيبقى رمزا كبيرا من رموز الجزائر، حتى وإن أخطأ بمثل هذه التصريحات، فعلينا نحن ألا نخطئ في حقه«، وطلب منا التريث وعدم بث تلك التعليقات إلى حين. وفعلا فلم تمض سوى أيام حتى أشعرنا سي عبد الحميد بأنه تقرر عدم بث أي تعليق للرد على تصريحات الرئيس بن بلة. ويبدو أن سي عبد الحميد كان وراء إقناع المسؤولين ومن بينهم الرئيس الشاذلي بن جديد بتوقيف بث تلك التعاليق وعدم الانسياق وراء تصريحات الرئيس بن بلة. وقتها ازددت إدراكا بقيمة الرجل وعمق تفكيره ونظرته الوطنية الصائبة وإنصافه لعظماء وزعماء الجزائر ومن بينهم الرئيس أحمد بن بلة. ولعل من بين المزايا العديدة التي ينفرد بها سي عبد الحميد عن مختلف المسؤولين الذين عرفتهم خلال تجربتي المتواضعة إعلاميا وسياسيا وبرلمانيا على امتداد أكثر من أربعين عاما أن سي عبد الحميد ظل يجمع عددا من الخصال لا تتوفر في غيره من هؤلاء المسؤولين إطلاقا. فمن بين ما يتميز به سي عبد الحميد تواضعه الكبير وحلمه الكبير، فعندما تهاتفه في أي وقت وفي أية مناسبة فإن الرجل يرد عليك شخصيا ولو بعد فترة إن كان في ندوة أو لقاء فكري أو سياسي أو خارج الوطن. وحتى إن دعوته لحضور وليمة عائلية أو لمحاضرة فإن الرجل يلبي الدعوة دون تردد أو تلكؤ. ظن بعضهم أن إزاحته عن قيادة حزب جبهة التحرير هو النهاية السياسية للرجل، لكن سي عبد الحميد ظل على الدوام يصنع الحدث السياسي حتى لمجرد حضوره أي لقاء وحتى دون أن يتكلم، أما إذا تكلم فإنه يغطي عن الجميع لأن كل عبارة من عباراته تعبر عن أفكار ورسائل قوية للخصوم ولغير الخصوم. عندما يتدخل في أي نقاش تشعر بهدوء الرجل وعمق ثقافته وبعد نظره وتحليلاته الصائبة دون أن يتجنى على شخص أو مؤسسة أو حزب. لا يجامل ولا يتفلسف عندما يتعلق الأمر بقضايا الوطن و بمبادئه التي لم يتزحزح عنها قيد أنملة. تخرج كلمات سي عبد الحميد هادئة ولكنها تنفذ في رأس الخصم كالرصاصة القاتلة، فهو في السياسة فارس جزائري وعربي متميز،إذ يذبح خصمه دون أن يستعمل الموس. كلماته دواء وشفاء لمن يحبون الرجل ويحترمون رأيه. كان سي عبد الحميد وطنيا جزائريا حتى النخاع وكان عروبيا قوميا إلى أقصى الحدود، وكان إنسانيا عالي الهمة ومثقفا من طراز رفيع. في أعقاب انتخابات 26 ديسمبر التشريعية لعام 1991 الملغاة جرى الحديث خاصة في الأوساط الصحفية عن تحالف محتمل في الدور الثاني بين حزب جبهة التحرير الوطني وحزب المرحوم محفوظ نحناح. كنت من بين الذين ترشحوا في تلك الانتخابات واجتازوا الدور الأول بالترجيح. ونظرا للزمالة التي جمعتني في نهاية الستينيات بالمرحوم نحناح، فقد التقيت به في مقر حزبه، وكانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي أدخل فيها مقر ذلك الحزب. ولمدة تقرب من الساعة استعدت مع المرحوم نحناح ذكريات أعوام قضيناها معا بالإذاعة. ثم تحدثت معه عن احتمال التحالف بين حزبينا في بعض الولايات ومن بينها ولاية الأغواط التي كنت مرشحا فيها مثلما تناقلته الصحافة. وقبل أن أفترق مع المرحوم نحناح أشعرته بأنني سأطلع سي عبد الحميد بالموضوع. لم يبد المرحوم نحناح رأيا صريحا بالرغم من أنه طمأنني بأنه سيطرح الفكرة مجددا مع مع سي عبد الحميد. وعندما خرجت من مكتب الشيخ نحناح اتصلت بالمرحوم مهري وأخبرته بما دار بيني وبين المرحوم نحناح. ابتسم المرحوم مهري ابتسامة عريضة تدل على عدة معان وأرسل لي رسالة مشفرة فهمت منها شيئين اثنين: أن الدور الثاني لن يقع وهذا عندما أشار لي بأن المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني سيبت في الأمر إن جرى الدور الثاني، وأما الرسالة الثانية فقد فهمت منها بوضوح أن فريقا كبيرا من جماعة نحناح يضغطون عليه للتحالف مع الفيس وليس مع جبهة التحرير الوطني كما كان يسوق ذلك للإعلام من أجل الاستهلاك الحزبي. والواقع أن تلك الملاحظة من طرف المرحوم سي عبد الحميد عادت لذاكرتي هذه الأيام من جديد خصوصا بعد انسحاب حمس من التحالف الرئاسي وحديث البعض عن تحالف محتمل للتيار الإسلامي في التشريعيات القادمة. في آخر لقاء ببيته رحمه الله قبل ثلاثة أعوام تحدثنا عن موضوع كتابة التاريخ والمذكرات، ولم أجد ممانعة من الرجل، ولكنه كان متهيبا من ردود الفعل التي كثيرا ما يطرحها هذا النوع من الكتابات مادام شهود الذاكرة وصناع الحدث والتاريخ على قيد الحياة. لم يكن سي عبد الحميد متزمتا ولا منغلقا، كان ذا فكر استشرافي بعيد المدى، كان يعيش عصره وما بعد عصره. عندما طلبت منه قبل ثلاثة أعوام خلت كتابة تقديم لكتابي »الرجل الذي رفض الوزارة« لم يتردد لحظة واحدة. سلمته مشروع نص الكتاب، وعندما انتهى من قراءته وكتب تقديمه اتصل بي رحمه الله عبر الهاتف لاستلام النص. جلسنا لفترة طويلة استعدنا فيها كثيرا من القضايا الوطنية والدولية ثم سلمني التقديم على شريط وحدة تخزين flash bisque. ولما حاولت فتحه في جهاز الكمبيوتر لم أتمكن من ذلك، فاتصلت بسي عبد الحميد ليحدد لي موعد جديدا لتسلم النص، فوافق على أن يكون اللقاء في اليوم الموالي. وبعد أقل من عشرة دقائق فوجئت بالمرحوم يتصل بي من جديد ويطلب مني موافاته بموقعي على الإيمايل حتى يرسل النص عبره. وهذا ما كان بالفعل، فقد كان الرجل يتعامل مع التكنولوجيات بفكر رجل العصر، إذ كان جهازه المحمول الصغير يرافقه في كل رحلة له داخل الوطن وخارجه. ما أصعب أن نفقد رجلا مميزا من طراز سي عبد الحميد، وما أصعب أن نشعر بفراغ رهيب على ذاكرة حية افتقدتها الجزائر وهي تتأهب لإحياء خمسين عاما على استعادة الاستقلال الوطني الذي كان سي عبد الحميد أحد أبرز صناعه. نعم غاب سي عبد الحميد الذي كان يصنع الحدث لمجرد حضوره في أي لقاء، فإذا به اليوم يصنع هذا الحدث حتى بوفاته.