برحيل المجاهد عمي محمد بن سعد بوسام تكون صورة جهادية مشرقة في زهو، وثرية بعظائم المآثر، وخصبة من حيث العطاء المتسامي قد طويت بعد انبساطها لسنوات قربت من التسعين. وإن خير وصف يمكن أن يوصف به هذا المجاهد الوقور هو وصف: الرجل القرآني. فلقد كان القرآن هو أنيسه وجليسه من فجر يومه إلى غروب شمسه، ومسامره في ساعات طويلة من ليله. إذ لا يمل من تلاوته أناء الليل وأطراف النهار. بدأت علاقة المجاهد عمي محمد بوسام بالقرآن الكريم منذ صباه، فبعد أن استظهر سوّره وآياته، راح يمعن التفحص في معانيها يبتغي منه فهما واستيعابا وتفقها وإلماما بأحكامه وتشريعاته، وإحاطة شاملة بأوامره ونواهيه وزواجره. ثم جلس يحفّظه للصبيان بما في ذلك أولاده الكبار ذكورا وإناثا، ويشرح معانيه ومقاصده للناس أجمعين في حلقات العلم وعلى منابر المساجد. وعلى هذا المنوال، استمر به الحال متعبدا بقرآنه عن علم ودراية في علاقة لم تعرف القطيعة أو المجافاة. وكلما استحضرت شدة تعلق المجاهد عمي محمد بوسام رحمه الله بمصحفه القرآني الشريف، إلا وتذكرت وصية غالية كان يرددها والد الشاعر محمد إقبال على مسمع ابنه فيها الحث والتنبيه وطلب التركيز، ومؤداها: (يا بنيّ أقرأ القرآن، وكأنه نزل عليك). لما تقدم العمر بالمجاهد عمي محمد بوسام شوطا بعيدا، ووصل به إلى آخر العمر، زاد ارتباطه بالقرآن الكريم، وألزم نفسه، رغم ثقل السنين ومتاعب الداء، على أن يأتي على ختمه مرة واحدة كل ثلاثة أيام متأسيا بالسنة المحمدية العطرة. ولم يكن مكتفيا بذلك فحسب، وإنما كان يلوذ إلى مصحفه، وهو على فراش المرض في إصابته الأخيرة، كلما اشتدت عليه الأوجاع وداهمته موجاتها المقلقة التي عجزت المهدئات والمسكنات عن إبطالها أو التخفيف منها؛ لأنه كان يجد في القرآن الكريم بلسما شافيا ومهدئا رائعا في الفترات التي تتداعى فيها الآلام على جسمه الضاوي الهزيل. وكان يعيش لكل حرف من حروفه بكل جوارحه، ويتماهى روحيا مع معانيه ودلالاته، وينصرف معه انصرافا تاما عن مشاق وأتعاب المرض المضني. كانت تلاوة المجاهد عمي محمد بوسام للقرآن الكريم تعبديّة بالقلب والعقل. وكان يسترجع مع آياته البينات بعض ذكرياته لما كان يتردد على الكتاتيب القرآنية، فيدعو لمشايخه بأرطب الأدعية كلما تذكر تقويماتهم لاعوجاحات لسانه وهو طالب مبتدئ لم يتخط بعد مرحلة فك الحروف للوصول إلى عتبات النطق السليم. تعرض لقب عائلة المجاهد عمي محمد بوسام إلى التحريف والتصحيف ككثير من الألقاب العائلية الجزائرية، وأصل لقبه هو: بسّام الذي يضرب بجذوره في طبقات التاريخ السحيقة محققا مكانته وحظوته ووجاهته. وأقرب جد له من أصحاب الذكر والشأن القاضي أحمد بن بسّام الذي تولي القضاء في أواخر عهد الأتراك في الجزائر. وما تزال العائلة تحتفظ ببعض الوثائق التي صادق عليها بختمه الشخصي. وأما من الأباعد في الزمن، فيرد اسم القاضي أحمد بن بسّام الذي تبوأ، هو الآخر، منصب قاض في أيام الدولة الحمادية يوم ازدهارها وذيوع صيتها. ينتمي المجاهد عمي محمد بوسام إلى أرومة أولاد سيدي منصور التي تقطر حلقاتها المتعاقبة مسكا وعطرا. وهي قبيلة طيبة البذور والثمار، ولا يختلف خلفها عن سلفها من حيث طهارة القلوب والكرم والوطنية. وتستوطن المنطقة الشرقية من ولاية برج بوعريريج التي تتعانق مع أرض الحضنة، وتصافح ذرى جبال الأوراس الجليل من بعيد. ولا تبعد عنها قرية أولاد أبراهم عرين سيد القلم والمحبرة الشيخ البشير الإبراهيمي ثاني رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلا بأميال كانت تقطع سيرا على الأقدام. ومن يشاهد هذه المنطقة بعينية في يوم مشرق وصاح، يقف على ما يدغدغ عواطفه، إذ تستهويه سهولها المنبسطة وجبالها المكسوة ووديانها الملتوية في انحداراتها ذات اليمين وذات الشمال وقراها المتناثرة والمتقابلة كأثافي المواقد. ومن هنالك، يدرك أن الأرض الدمثاء لا تعطي إلا أجود وأوفر الثمار، ولا يسكنها إلا أطيب البشر الذين لا يضيع لهم معروف. تعد قرية الدشرة هي منبت أجداد المجاهد عمي محمد بوسام. إلا أن محبة أفراد عائلته الشديدة إلى نشر العلم وترويجه، دفعهم إلى هجرتها والاستقرار في قرية الرقراقة التي ولد فيها. ويكفي المجاهد عمي محمد بوسام فخرا وشرفا أن جذور أصوله تمتد في تربة قرية الدشرة التي كانت تدعى بقرية الفقهاء السبع. وهو الاسم الذي أطلقه عليها الشيخ البشير الإبراهيمي بعد أن طارت سمعتها في الآفاق، وغدّت واحدة من الحواضر العلمية التي تشد إليها رحال طلبة العلم الشغوفين والمنهومين. وأما الرقراقة، فهي قرية صغيرة متناثرة المساكن توسطت منحدرا بهيا تحسد عليه بين قرية غيلاسة ودشرة أولاد حناش، ومنظرها الطبيعي يبهر الأبصار خاصة في ساعات الصباح لما تبدأ الشمس في الصعود شاقة كبد السماء. كانت مدينة برج الغدير التي تتميز، اليوم، بطراز عمارتها الأنيق وطرقاتها الواسعة، وأزقتها المنظمة، وحدائقها التي تشبه حدائق بابل المعلقة هي عروس مدائن تلك الجهة، كانت مستراح المسافرين القادمين من قلعة بني حماد والقاصدين المنصورة (بجاية) في عهد غابر، ومتلذذين بعنبها الذهبي الذي كان القنطار منه يباع بدرهم واحد. ولذا ظلت هي من تحفظ أسفارا من تاريخ تلك المنطقة القديم بين جنبيها. وكانت جارتها قرية غيلاسة عونا لها في أيام الشدائد والمحن. ومن يتفحص مصدر اسم هذه الأخيرة، يستبعد إرجاعه إلى اللغة الفرنسية بشكل غير مستطاب ولا مريح. والنظر في قواميس اللغة العربية لا يغمطها حقها من الرفعة وعلو الشأن المستنبط من معنى اسمها العربي الأصيل والراسخ. لا يستطيع زائر قرية الرقراقة أن يسمح لنفسه بالمرور إليها من دون أن يمسح ببصره، ولو من بعيد وفي استعجال، قرى الزمالة وأولاد سيدي حسن والشانية وأزبير وأولاد مخلوف وأولاد سيدي سعيد. وقد أباحت قرية الراقراقة، التي صكت اسمها من رقرقة الماء أي من خرير صوته أثناء جريانه منسلخا بين الصخور أو منثالا من الشلالات، فيراها متسلقة صخور الجبل الذي حطت عليه في عناد، أباحت لمساكنها الحجرية الصغيرة أن تبنى في منحدرات مائلة لا تشق المسالك المؤدية إليها إلا بالأرجل وفي حذر. وهي لا تبعد كثيرا عن قلعة بني حماد التي ما تزال آثارها قائمة في المعاضيد التي تتبع ولاية المسيلة. كانت هذه القطعة الجغرافية بتضاريسها الخلابة تشكل قطعة من الولاية الأولى الأوراس خلال كل سنوات الثورة التحريرية. وما تزال إلى اليوم في الطريق الرابط بين مدينة برج بوعريريج ومدينة برج الغدير في المكان المسمى: بثنية العرف شجرة تقف على حافتها مقاومة عوادي الزمان كعجوز شمطاء في مظهرها بعد أن نفضت أوراقها، ويبست براعمها، وتصلب خشبها، وتورمت أغصانها، ولم يبق منها إلا هيكلها الذي يؤرخ للماضي، ما تزال تشهد أنها كانت تمثل نقطة التقاء رجال الاتصال أثناء الثورة التحريرية بين الولاية الأولى والثالثة لتبادل البريد وأغماد الرسائل والمناشير. ومن يقف اليوم أمام تلك التخوم، يبكي ألما وكمدا عن حال الأوراس الذي أريد له أن ينكمش مساحة بعدما كان منبسطا وممتد الأوصال كعنق الزرافة. كانت الوجهة التعليمية للمجاهد عمي محمد بوسام، في منطلقها، زاوية السعيد بن سي المكي، وكنيته: بولعواد، التي أتم فيها حفظ ثلاثين حزبا من القرآن الكريم. ثم التحق بدشرة أولاد العياضي أين أكمل استظهار المصحف الشريف ونال دروسا أولية تعلقت بمبادئ اللغة والفقه. واضطر للعودة طالبا للعلم إلى نفس القرية الأخيرة، ثانية، للجلوس بين يدي الشيخ رابح بوعلام المجاز من معهد الشيخ عبد الحميد بن باديس متعلما. ولما كان طالبا نهما، لم يتوقف عن المطالعة والاستزادة رغبة منه في توسيع مكتسباته وتعميقها. ضاقت ظروف العيش في عين المجاهد عمي محمد بوسام، فاختبر حظه بالذهاب إلى فرنسا يكدح في أرضها طلبا للعيش، وينشد عملا شريفا يسترزق منه، ويعول أفراد عائلته. ولكن، يبدو أنه وجد صعوبة في التأقلم، فعاد غير متأسف أو متحرج. وفي بداية سنة 1949م، اعتلى المجاهد عمي محمد بوسام منبر مسجد قريته الرقراقة، وتصدي لتعليم الفتيان والفتيات القرآن الكريم بما في ذلك ابنه البكر الأستاذ عيسى الذي أصبح له ذكر محمود في مستقبل أيامه وعددا من بناته. وواصل رسالته الإرشادية والتهذيبية بأنفاس نابضة بالعطاء ومتوثبة إلى تجويد التعليم المسجدي بعد أن ضيّق الاستعمار على التعليم المدرسي النظامي. وكتب لهذا المسجد الذي صان عهدا شريفا ورسم سطورا في الأثر عن سكان قرية الرقراقة أن يحرق غدرا من طرف الأيدي الآثمة في سنة 1958م. وقف المجاهد عمي محمد بوسام موقف المستفيد الذي لا تهمه التصنيفات والمفاضلات في شيء من كل ألوان الطيف السياسي الوطني الذي بدأ مخاضه مع مطلع عشرينيات القرن الماضي. إلا أن مهجته، وبحكم تكوينه، كانت في ميولاتها باديسية عن قناعة. وانضم منخرطا ضمن لوائح جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منذ سنة 1950م. ولم يتوقف عن النضال في سبيل نشر أدبياتها، والتمكين لها، والسعي لتحقيق أهدافها، والتزود من جريدتها البصائر التي كانت سطور افتتاحية أعدادها ترسم توجهاتها. كما كانت له اتصالات وجلسات مع كثير من شيوخها ورجالاتها. لم تكن شحنة التكوين الديني السليمة التي يحملها المجاهد عمي محمد بوسام تسقطه للوقوع ذليلا وخانعا أمام المعمرين الفرنسيين الطغاة والمستبدين، وكانت له في هذا المضمار مواقف أعاد بها الكرامة ورفع المروءة إلى نفس كل مواطني منطقته الغيورين. ففي الوقت الذي كان يتولى فيه إمامة المصلين في مسجد قريته الرقراقة، اشترى أحد الجزائريين سيارة سخرها للنقل الجماعي تربط في ذهابها ورواحها بين قريتي برج الغدير وأولاد حناش. والتزم المجاهد عمي محمد بوسام الركوب معه في كل تنقلاته. وذات يوم، التقاه المعمر الفرنسي ماكسو الذي كان يملك حافلة لنقل المسافرين تجوب نفس خط النقل المذكور، ولامه عن مقاطعة امتطاء حافلته. ومن شدة اغتياظه، انجرف في كلامه من اللوم إلى العتاب. ورد عليه المجاهد عمي محمد بوسام بجملة زادت من فوران دمه وشططه، فحواها: أنا حر في الركوب مع من أشاء. وكانت كلمات المعمر ماكسو التي لفظها قبل افتراقهما حادة كالحراب المسننة، ومليئة بالحقد والبغضاء ومنبئة بالانتقام. وفي أول جمعة تلت تلك الحادثة طالب المجاهد عمي محمد بوسام من على منبره المصلين مقاطعة ركوب حافلة المعمر ماكسو. وأردف توصيته بتحذير يلزم من لم يستجب لها أن يستعد لإمامة المصلين في الجمعة القادمة، وهو أمر معجز لا يقدر عليه أحد. وفي صباح يوم السبت الموالي، تحركت حافلة المعمر ماكسو في سفرها شبه خاوية، ولم تحمل سوى مسافرين اثنين لم يكونا على علم بتوصية إمام المسجد رغم أن ذلك اليوم صادف انعقاد السوق الأسبوعية في برج الغدير الذي يكثر رواده. وبعد أيام قليلة شاع خبر المقاطعة، وسار بين الناس وكأنه النار تنشره الريح الغاضبة في الهشيم الحاطم، وراحت تتوسع دائرته يوما بعد يوم. ورأى المعمر ماكسو في هذا التمرد الذي هشم كبرياءه تحريضا وثورة على العصيان من تدبير الإمام محمد بوسام الذي شق عصا الطاعة عن جبروته المختزل لطغيان الإدارة الفرنسية المتسلطة، وأراد أن يحفر فيها شرخا يصعب ترميمه. ومن أجل استرجاع بريق جاهه الضائع والملوث في أوحال الوحدة والثبات على الموقف، رفع شكوى ضد من لقنه درسا إلى المحكمة. وقضى المجاهد عمي محمد بوسام جولات مترددا على رواقات المحاكم. وصدر الحكم عليه جورا بسجنه وتغريمه بخمس وستين ألف فرنكا فرنسيا. وهو مبلغ يستحيل عليه تسديده، وقتئذ. وبعد تدخل بعض المتنفذين من الجزائريين طوي الملف طيا نهائيا، وخرج المجاهد عمي محمد بوسام من هذه الورطة مصون الهمة والشرف.