تعود نشأة الدولة الحديثة إلى الأفكار التي نادى بها مفكرون أوروبيون خلال ما عرف في الفكر الغربي بعصر التنوير. وتقوم هذه الأفكار على إظهار حالة الطبيعة في الحياة والتي تتسم بالفوضى وسيادة روح الغلبة والقوة والسيطرة. وقدموا مقابل هذه الحالة فكرة الدولة القائمة على العيش المشترك والتسامح والمساواة بين المجموعات المتساكنة في حيز جغرافي معين لمنع هذه المجموعات من الاعتداء على بعضها البعض. وبالتالي فإن الدولة تكون حامية وعادلة ونابعة من الإرادة في العيش المشترك ومبنية على التوافق العام أي تعبر عن إرادة الأمة وليست مفروضة من طرف مجموعة على باقي المجموعات الأخرى. أما الموحدون الذين أطاحوا بالمرابطين والحمّاديين والزّيريين فأقاموا دولة كبرى تحت سيوف قبيلة مصمودة وفق مذهب خاص بهم وكانوا مناهضين للمذهب المالكي الذي تبناه المرابطون. الدول التي تأسست على أنقاض الموحدين كانت تحركها العصبية القبيلة. فالحفصيون الذين انفردوا بحكم تونس ومدوا نفوذهم إلى منطقتيْ قسنطينة وبجاية كانت النواة الصلبة في حكمهم تتكون من قبيلة هنتاتة وهي فرع من مصمودة. وتبنت هذه الدولة اسم الحفصية نسبة إلى أبي حفص عمر صاحب المهدي بن تومرت مؤسس الحركة الموحدية بالرغم من شيوع نسبها إلى أبي حفص عمر بن الخطاب، بينما قامت دولة بني زيان التي كانت تلمسان هي عاصمتها على أكتاف قبيلة بني عبد الواد الزناتية وانتسبت إلى والد مؤسسها يغمراسن بن زيان. أما دولة بني مرين التي أسقطت حكم الموحدين واستولت على عاصمتهم مراكش فتنسب إلى فرع زناتي آخر. كانت القبيلة التي تستأثر بالحكم تسعى لإبعاد القبائل الأخرى باعتبارها مناوئة لها ولعل أبرز مثال في التاريخ على ذلك الصراع القبلي هو العداء الذي استحكم بين صنهاجة وزناتة خلال القرون الوسطى والذي أوّله المؤرخون الفرنسيون إلى صراع بين الحضر والبدو. أدى الخلاف القائم بين الطرفين إلى قيام صنهاجة، على سبيل المثال، بمنع زناتة من تربية الخيول وقتل كل زناتي يربي حصانا لأن الخيول كانت في تلك الحقبة الأداة الرئيسية للحرب. نتج عن ذلك العداء المرير بين المجموعتين هجرة عدد من القبائل الزناتية إلى المغرب الأقصى والأندلس. نذكر من بين القبائل الزناتية التي انتقلت إلى المغرب بنو يفرن وبنو مرين وبعض فروع مغراوة، بينما انتقل بنو برزال إلى الأندلس رفقة عائلة بني حمدون أمراء المسيلة. كان بنو برزال يقيمون بمنطقة سالاّت ببوسعادة. وتحضرني في هذا المقام رواية منسوبة إلى المرحوم مولود قاسم مفادها أن بني برزال هاجروا إلى أمريكا ضمن التوسع الإسباني خلال العصر الحديث وإن اسم البرازيل قد يكون منسوبا لهم. كانت القبائل التي تعاقبت على الحكم في الجزائر عادة ما تلجأ إلى إقامة تحالفات محدودة مع قبائل أخرى، لكن تلك التحالفات كثيرا ما تتغيّر ومع تغيّرها تضعف السلطة المركزية وتسقط النّظم الحاكمة أي الدول. ومع سقوطها تبرز قبائل أخرى وأسَر أخرى حاكمة وبالتالي تسود نُظُم أخرى أي دول أخرى. أدى هذا النوع من الحكم خلال العصور الوسطى إلى ضعف قيام سلطة مركزية قوية تتميز بالديمومة والثبات. وهو ما يعني أن ضعف وجود خصوصية أمازيغية موحّدة لا يرجع إلى ما يوصف بتسلط العنصر الأجنبي على البلاد بل تكمن الإشكالية في الصراع الدائم بين القبائل المتنافسة والذي أعاق قيام سلطة مركزية. فكل قبيلة كانت خارج الحكم تسعى لإسقاط القبيلة الحاكمة وبسقوطها تسقط الدولة القائمة. ومثلما لعب الصراع القبلي دورا محوريا في عدم تأسيس دولة مركزية في بلاد المغرب بالرغم من محاولات المرابطين والموحدين بعث فضاء مغاربي كبير، أدّى تبنّي كل قبيلة لمذهب معيّن على تجذّر طابع التشرذم في البيئة المغاربية بالرغم من أن الإسلام يحمل طابعا توحيديا يتجاوز الشعوب والقبائل. فقد ثارت القبائل الزناتية التي كانت خارجية المذهب على بني عبيد الشيعة تحت قيادة أبي يزيد مَخْلد بن كَيداد الذي عرف بصاحب الحمار وآزرتها القبائل السنيّة. وكادت هذه الحركة أن تنهي الحكم الشيعي في بلاد المغرب، وتوصلت لحكم القيروان لفترة وجيزة. كما تأسست الدولة الرستمية على كاهل قبائل كانت تتبع المذهب الإباضي. وكان تأسيس دولة بني حماد على يد قبيلة صنهاجة الموالية لبني عُبيْد الشيعة وهو ما أدى إلى تحالف قبائل زناتة المناهضة لصنهاجة مع الأمويين السنة في الأندلس. أما دولة الموحدين التي قامت على أكتاف قبيلة مصمودة فاعتمدت مذهبا خاصا بها معاد للمذهب المالكي السني ويأخذ بفكرة عصمة الإمام التي تعتبر عماد مذهب الشيعة. بعد سقوط دولة الموحدين قام على أنقاضها ثلاث دول متناحرة. بنو حفص في تونس مع مد نفوذهم إلى شرق الجزائر وبنو زيان في القسم الغربي والقسم الأوسط من الجزائر وبنو مرين بالمغرب الأقصى. تصارعت هذه الدول فيما بينها بتصارع القبائل التي تقودها في سعيها لخلافة إمبراطورية الموحّدين. عمّقت الخلافات القائمة بين الدول الحفصية والزيانية والمرينية، وهي خلافات قبلية في جوهرها، من عدم توحيد بلاد المغرب مما يعني أن العامل الخارجي لم يكن له شأن كبير في عدم بروز كيان أمازيغي جامع في المنطقة. تشكّل الكيان السياسي الجزائري في العصر الحديث مع حلول الأتراك العثمانيين بالجزائر في أوائل القرن السادس عشر، كان غرب الجزائر والجزء الأكبر من وسطها تحت حكم الدولة الزيانية التي كانت تصارع الزحف الإسباني المتعاظم على سواحل بلاد المغرب، أما شرق الجزائر فكان خاضعا اسميا للنفوذ الحفصي بتونس بينما تتقاسمه فعليا قسنطينة وبجاية والاتحادات القبلية ذات النفوذ، في حين كانت مدينة الجزائر وما جاورها تحت قيادة قبيلة الثعالبة العربية برئاسة الشيخ سالم التومي. لقد ساهمت عدة عوامل في بروز الكيان السياسي الجزائري الحديث في القرن السادس عشر: 1 أدى اعتماد مدينة الجزائر كموقع لإدارة البلاد عقب مقتل الشيخ سالم التومي وطرد الثعالبة إلى شرق العاصمة على يد الأخوين عروج وخير الدين، وكمركز سياسي ثابت لإدارة الصراع مع القوى الغربية في الحوض الغربي من البحر المتوسط من جهة ولتجميع القوى الداخلية لقيادة ذلك الصراع من جهة أخرى، إلى ترسيخ أسس الكيان الجزائري في بدايات العصر الحديث. فباختيار مدينة الجزائر عاصمة للدولة واعتماد اسمها ليكون اسما للكيان الذي تديره تم تجاوز مسألة تعدد مراكز قيادة الدولة الذي عانت منه الجزائر في تاريخها القديم والوسيط. من الناحية التاريخية تعتبر مركزية الدولة مرحلة متقدمة في حياة الجماعات البشرية التي تشكلها، فالنظام المركزي لم تعرفه أوروبا إلا في القرن السابع عشر بينما عرفته الجزائر قبل ذلك أي في بدايات القرن السادس عشر. 2 شكّلت التحديات الخارجية التي واجهت الجزائريين وفي مقدمتها صعود أُمَم الغرب وبدايات توسعها خارج القارة الأوروبية دافعا رئيسيا في حفز السكان على التوحّد عبر المواجهة. فقد لعب الجهاد ضد الغزو الإسباني للسواحل الجزائرية من جهة ومواجهة القرصنة الغربية من جهة أخرى دورا مهما في بناء اللحمة الوطنية بين القبائل الجزائرية المتحفّزة للدفاع عن أرضها بدعم من العناصر التركية والجاليات الأندلسية الفارة من الاضطهاد الإسباني. كان عامل التحدي الخارجي عنصرا حاسما في توحيد الجزائريين تحت راية الجهاد وعمّق في الوقت نفسه النزعة التحررية التي يتميز بها الفرد الجزائري. إن نزعة التحرر التي عُرف بها الإنسان الجزائري أضفت على الشخصية الجزائرية نزوعها الدائم للحرية والوقوف ضد كل المحاولات الخارجية التي تستهدف الجزائر وشعبها. 3 تم في هذه المرحلة تجاوز عملية بناء الدولة على أسس قبلية أو مذهبية بعد أن أثبتت التجربة التاريخية فشل المنظومة القبلية في الحفاظ على ديمومة السلطة المركزية لأن البنية القبلية للمجتمع شكّلت عاملا موازيا لقيام كيان مركزي قوي وموحّد. وظهرت في هذه الفترة الاتحادات القبلية الكبرى ذات البعد الوطني والتي ساهمت في التصدي للعدوان الخارجي دفاعا عن الأرض والدين والوطن. فلم تعد القبيلة أو المذهب الذي تستمد منه شرعيتها يستجيبان للتحديات التي فرضتها التطورات الحاصلة. لكنه بالرغم من تجاوز الطابع القبلي والجهوي إلا أن تجذّره في المجتمع جعل منه عنصرا كامنا يبرز كلما ضعُف الحكم المركزي. 4 كما تم في هذه المرحلة تثبيت الحدود البرية للجزائر بصورة دائمة مع كل من المغرب وتونس الكيانيْن اللذين سعيا خلال عهود الزيريين والحفصيين في تونس والمرابطين والمرينيين في المغرب إلى التدخل في الشأن الجزائري، لكن نجاح تلك المساعي كان محدودا في الزمان والمكان نظرا للتصدي الدائم لها. 5 إن بروز الكيان السياسي الجزائري والحفاظ عليه وترسيخه ضمن مجاله في وجه الأعاصير التي كانت تحيط به جعل من الجزائر قوة منيعة في البحر المتوسط، وكانت من الدول التي يحسب لها ألف حساب من طرف القوى الغربية لكن التخلف الذي كانت عليه البلاد في ذلك العصر قياسا بالتطور الذي بلغته الدول الأوروبية أدى إلى احتلال الجزائر في أول صدام حقيقي تخوضه ضد قوة تفوقها تنظيما وعدة وعتادا. دور الكتلة التاريخية في بعث الجزائر المعاصرة أدى السقوط المفاجئ للسلطة المركزية في الجزائر إلى قيام الحركات الشعبية ذات التحالفات الواسعة بتنظيم المقاومة ضد الغزو الفرنسي. لم تتوقف روح المقاومة والصمود طيلة الوجود الاستعماري الفرنسي وانتهت بدحره واسترجاع السيادة الوطنية بعد أن توحدت مختلف القوى الشعبية الفاعلة في ثورة شاملة انطلقت في الأول من نوفمبر .1954 شكلت الكتلة التاريخية التي انصهرت تحت لواء جبهة التحرير الوطني عبر تجاوز الطابع القبلي والجهوي مدعمة بروح الصمود والمقاومة، عاملا جديدا في بناء الجزائر المعاصرة. وانتصرت الكتلة التاريخية في ثورة التحرير باسترجاع السيادة الوطنية. الملاحظ أنه عبر أغلب مراحل التاريخ كانت النتائج التي تفرزها الصراعات الدائرة بين القوى المتصارعة لا تحدّدُها قوة الضغوط التي يمارسها الطرف الأقوى والمهيمن ولكن تفرضها روح الصمود وديمومة المقاومة لدى الطرف الأضعف. فقد وقعت الجزائر في ظروف يسودها التخلف تحت السيطرة الاستعمارية الفرنسية لمدة تزيد عن قرن وثلث القرن. وعلى غرار الجزائر خضعت معظم دول عالم الجنوب الفقير والمتخلف لهيمنة القوى الغربية في عالم الشمال الأكثر قوة وحداثة. لكنه بالرغم من اختلاف موازين القوى بين الجانبين، شكلت ديمومة الصمود وتجذّر روح المقاومة العامل الأساسي في تحقيق الاستقلال. وبعد استرجاع السيادة الوطنية واجهت الجزائر مشاكل بناء دولة عصرية. وبدأت روح التحدي والمجابهة تتراجع تحت ضغوط قضايا البناء والتنمية. ولذلك كانت مرحلة ما بعد استرجاع الاستقلال تستوجب الإبقاء على التكتل التاريخي الذي قاد الثورة ليواصل مسيرة بناء الدولة متجاوزا الولاء للقبيلة والجهة والحزب. وهكذا، شكلت عملية الاستناد إلى الكتلة التاريخية بديلا حضاريا تجاوز عوامل الفرقة والشتات بين القوى التي شاركت في ثورة التحرير. لقد مثّلت جبهة التحرير الوطني، بوصفها جبهة عريضة تؤطر قطاعات واسعة من الشعب، نموذجا حيا لذلك. وهو نموذج انتشر عبر الكثير من الدول حديثة الاستقلال ولدى حركات مقاومة عديدة باعتباره تحالفا عريضا يتجاوز صراع الأيديولوجيات والعُصَب والمناطق، ويضم الأطراف الرئيسية الفاعلة لتقف جنبا إلى جنب في قيادة عملية التحول والحفاظ على وحدة الوطن. ظل مفهوم الكتلة التاريخية في بناء الدولة الوطنية محتفظا بحيويته حتى منتصف الثمانينات من القرن العشرين، لكنه مع أواخر ذلك العقد بدأ يتعرض للاهتزاز مع طغيان أشكال أخرى من القناعات لدى قطاعات من الشعب سواء كانت تلك القناعات تتسم بطبيعة دينية أم تستند إلى نزعة قومية أو مثّلت تعبيرا عن مصالح فئوية صاعدة. لقد جسّدت أحداث 5 أكتوبر 1988 مدى عمق الأزمة التي عاشتها الجزائر بعد منتصف عقد الثمانينات من القرن العشرين. لقد وجدت الدولة الوطنية في المجتمعات الحديثة نفسها أمام تحديات جديدة، فالعديد من الدول حديثة الاستقلال ظلت رهينة لمرحلة الصراع مع الاستعمار وركزت كل جهودها لبناء مؤسسات لإدارة الشؤون العامة للمجتمع لكنها فشلت في تثبيت مفهوم المواطنة لدى شرائح واسعة من الشعب . أدى ذلك إلى حدوث انفصام في العديد من المستويات بين الدولة والمجتمع. وانكفأت تلك الشرائح إلى مستويات أدنى من الولاء الوطني مثل الجهة والعرش أو القبيلة، فبرزت ولاءات جهوية أو قبَلية ونزعات انفصالية ضد السلطة المركزية بالتوازي مع ظهور مرجعيات تعزز تلك الولاءات على أسس دينية أو عرقية أو ثقافية. أدت الأحداث التي عرفتها الجزائر في التسعينات والتي توصف في الأدبيات السياسية بالمأساة الوطنية إلى ضرورة تطوير مفهوم الكتلة التاريخية حيث حل محله التحالف بين التيارات الفاعلة في المجتمع لقيادة الدولة في إطار الاتفاق على برنامج عمل يتماشى والظروف القائمة ولمواجهة الضغوط المتزايدة التي تقودها قوى صاعدة في ظل تطورات إقليمية ودولية مستجدة أهمها البروز الملفت لظاهرة العولمة وما يرافقها من إفرازات أهمها أن الدولة لم تعد لاعبا أساسيا وفاعلا رئيسيا على مستوى العلاقة مع مواطنيها من جهة ومع العالم الخارجي من جهة أخرى. لقد ضعفت تلك العلاقة لصالح قوى عابرة للقارات وفوق الدول والمجتمعات. وترافق ذلك التطور مع ظهور عنصر الدين كلاعب جديد على مستوى الدول وبروز ما يعرف بالظاهرة الإثنية والتي تعني بكل بساطة إعادة تفكيك مجتمعات الشرق الأوسط إلى أصولها البدائية وإعادة ترتيب خريطة المنطقة بما يجعل إسرائيل القوة الكبرى فيها لتسود هيمنتها لعقود طويلة قادمة في ظل تحالفها مع القوى المسيحية المتطرفة في الدول الغربية وبحكم الاعتراف بها من طرف القوى الجديدة التي تفرزها الصراعات الجارية في الشرق الأوسط. إن الحفاظ على الجزائر وإشعاعها ضمن محيطها في عصر ما بعد الاستعمار الاستيطاني ولمواجهة إفرازات العوْلمة، يتطلب الحفاظ على الثوابت الوطنية كما تم التوافق عليها في منتصف التسعينات وتجسيد مفهوم المواطنة قولا وعملا وترسيخ مبدإ المشاركة بديلا عن الإقصاء والتهميش، وبعث ثقافة الأمل والتوافق بديلا عن بث روح التيْئيس والتفرّد، وذلك حتى تترسّخ أسس الدولة الجزائرية المعاصرة بصورة لا رجعة فيها، في جو يسوده التسامح والإخاء ويعززه التفاعل الطّوعيّ بين مكونات المجتمع وتقوده الإرادة الواعية في العيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد. ¯ انتهى