مفهوم الوطن عندهم إما العقيدة، وإما القبيلة- هذا البحث اليوم ضرب من العبث- ومع هذا يجب أن نناقش أصحاب نظرية الحدود الترابية التاريخية حتى في هذه الأرضية لكي لا يكون تجاوزنا بعد ذلك لأرضية التراب تهربا. والقسم الأول الذي نحاول أن نلم شتاته في هذا المثال يتعلق بمشكلة الحدود الجزائرية المغربية، وهذ ملخص رأي العروي فيه: »قضية الحدود المغربية يجب أن نركز فيها البحث، ومما لاشك فيه أن قضية سنة 1963 كانت من وجهة المصالح المغربية قد أعدت إعدادا سيئا، وانتهت نهاية أسوأ. إن الجزائر قد نصبت نفسها وريثة للاحتلال الفرنسي في الحدود المغربية، وهي اليوم تريد أن تجبرنا على أن نتعرف لها بما كان طوال التاريخ عائدا إلى مراكش أو فاس، لقد وجد الجزائريون حلا مستقبليا لهذه المشكلة يدفع ثمنه المغرب، وهذا الحل يعتمد على مبدأ (أبقى حيث أنا)، ولكن هذا المبدأ لا يستطيع أحد أن يجبرنا على العمل به، إنه تجميد لعملية اقتسام امبريالية لا تضمن السلم، ولكن حرب 1963 أعطت للاحتلال الجزائري في هذه المنطقة صبغة من الشرعية كما لو احتلت من جديد بواسطة السلاح، والموقف أن نأخذ الاستعدادات اللازمة لإقناع القادة الجزائريين بخطأ سياستهم«. أريد أن ألاحظ للقارئ الجزائري أننا عندما نفتح هذا النقاش مع العروي على الحدود الترابية بين الجزائر والمغرب، فليس ذلك انسياقا منا إلى أرضية المعركة التي يريد أن يجرنا إليها، فهذه الأرضية نعتقد أن الزمن قد تجاوزها إلى أرضية الإنسان الذي سنتخذه محور نقاشنا، وسنجد فيه شيئا كثيرا يقال أهم من الذي نجده عن الأرض والتراب والرمال التاريخية. إننا نعتقد أن البحث في عصرنا عن الحدود التاريخية في عهد كان أهله أنفسهم لا يؤمنون بالحدود الترابية ولا يعرفونها لأن خذ أي فترة من فترات تاريخنا الإسلامي في بلاد المغرب- الأدنى والأوسط والأقصى- فستجدها صالحة لبداية قصة الحدود عند من يريد أن يبحث عن هذه المسألة، بل هو سيجدها في أي قطعة من الأرض المغربية كما سيجدها في أي فترة زمنية من تارخه، وهذا ما نجد العروي فيه يقف موقفين مختلفين حسب الطلب على ما يظهر، فهو مثلا في كتابه »تاريخ المغرب العربي« يعترف بأن بلاد المغرب العربي منذ هذه الفترة عرفت تيارين (وحدويين) أحدهما جاء من شرق المنطقة: الفاطميين والزيريين، وثانيهما من المغرب: المرابطين والموحدين، وهو يسمى هذه المحاولات (الوحدوية) بالمغرب الإمبراطوري. ثم يعقد فصلا يحمل هذا العنوان: »فشل الفكرة الإمبراطورية« فما أحوج الحسن الثاني لقراءة هذا الفشل الإمبراطوري كيف تم في عصر بناء الإمبراطوريات، ويتساءل كيف يمكن أن ينجح اليوم في عصر إفلاس الإمبراطوريات. ولكن العروي نجده حينا آخر في موضوع الحدود غارقا في الفكر الإمبراطوري إلى الأذقان، ويبدو أن لا شيء يرفع معنوياته كسياسي متخلف وأيضا كمفكر رجعي، مثل أن يرى جيوش الإمبراطور الحسن تكتسح الأراضي من كل جهة وهو يحتضنها بلهفة وهستيريا. وما يمكن أن نحتفظ به من هذا التاريخ درسان: أولهما يهمنا كجزائرين: ففي القرن الثالث عشر تكونت من قبيلة زناتة الجزائرية دولة الملك يغمراسن في تلمسان، وكانت في عهده عاصمة العبور التجاري بيت أوروبا وإفريقيا، وكانت دولته بالخصوص دولة بناءة وليست دولة فتح فقط، وكانت باستمرار في صراع بين مملكة الحفصيين في تونس والمرينيين في المغرب، بل كثيرا ما تحالفت تونسوفاس ضد تلمسان، كما حاولتا إثارة القبائل على ملوكها وتمكن المرينيون فعلا من احتلالها، ولكن لم يمض ربع قرن على هذا الاحتلال حتى انهارت دولة المرينيين فجأة وعادت مملكة تلمسان من جديد في منتصف القرن الرابع عشر، وهكذا ظل المد والجزر بين تلمسانوفاس يتقاذف القبائل الصاعدة إلى الحكم والنازلة منه دون أن تكون هناك حدود بينهما معروفة، وذلك رغم الحقيقة التي ظلت قائمة أكثر من قيام دول القبائل المتطاحنة على الحكم، وهي تحالف فاسوتونس ضد تلمسان من أجل ازدهارها الاقتصادي والتجاري الذي قل أن بلغته مملكة أخرى بعد الموحدين. أما الممالك العظمى من الرتسميين إلى الفاطميين إلى المرابطين والموحدين فقد كانت ممالك »دينية« وكانت الحروب بينها من أجل قضية عقائدية بحتة.