فيروز تغني وتقول عن بيروت إنها مثل وجه بحار قديم، وهي تخرج من رمادها في كل وقت! وما أكثر ما غنت فيروز لبيروت ولغير بيروت في زمن لا يريد العرب فيه أن ينقذوا ماء الوجه، أيا ما كان هذا الوجه طالما أنه وجه عربي تنبسط تقاطيعه من المحيط إلى الخليج. وتتساءل فيروز في أغنية أخرى: لم لا أحيا؟ كلما سال دم في الحمراء أو في الروشة أو في طريق المطار أو في شارع فردان أو في جونية وحارات صيدا وطرابلس وغيرها من الأماكن التي تتنفس الحضارة الأصيلة، يسيل دمي، ولا يندمل جرحي. شخصيا، تعلمت من بيروت معنى الكتاب ومعنى الكتابة الأدبية. تابعت حركاتها وأنا طفل صغير في الخمسينيات، وحفظت الكثير من شعرها بدءا من أديب إسحاق ونجيب الحداد والأخطل الصغير وأمين نخلة وسعيد عقل وسهيل إدريس وصلاح لبكي وأمين مشرق وغيرهم من الذين جعلوا من بيروت بيروتا حقيقية تخضل الحضارة على جنباتها في كل ثانية. وتعلمت من بيروت معنى المقاومة في مطالع هذه الألفية الثالثة حتى وإن كان بعض البيروتيين يجدون فرقا بينهم وبين أنصار حزب الله. ليس سهلا أبدا أن يوجد الإنسان على خط النار في كل لحظة، ولقد عرفت ذلك خلال حرب التحرير وأنا طفل أيضا يترصد كل حركة ونأمة في أرجاء الوطن الجزائري كله. ولذلك، قد لا نفهم موقف بعض البيروتيين من حزب الله، وقد لا يفهمنا بعض البيروتيين حين نقف وقفة التأييد والمناصر لهذا الحزب الذي يواجه اللهيب الصهيوني في كل لحظة. بل وقد يلومنا بعض البيروتيين على وقفتنا هذه مثلما فعلوا ذلك في أثناء وقفتنا مع المقاومة الفلسطينية وهي تخرج من بيروت عام 1982 وتمتطي متون السفن صوب بعض الموانئ الآمنة. لم يخولني أحد لكي أكتب كلمة التأييد هذه، لكنني أومن إيمانا جازما بأنه لا يوجد جزائري واحد يرضى السقوط لبيروت، لا داخليا، ولا خارجيا. كلنا نحب هذه المدينة الحرة الشامخة، نحب أولئك الذين انطلقوا منها في أخريات القرن التاسع عشر صوب المهاجر العربية والأمريكية من أجل حفظ هوياتهم وافتكاك لقمة العيش، ونحب كل من حمل السلاح ووقف في وجه الصهاينة، ولا نحب أبدا أن تسقط بيروت ولا أن تهدمها قنابل الصهاينة والأمريكيين، ولا نحب أن يتقاتل البيروتيون وغير البيروتيين، بل نريد لهم، أي للبنان جميعا أن يبقى مشعلا من مشاعل الحضارة العربية، وأن يجيئنا الكتاب العربي طازجا من مطابع بيروت، وأن تظل فيروز صوتا يجمعنا تحت لوائه الجميل.