أكثر من ثلاث سنوات مرت على ''الثورات'' في تونس ومصر وليبيا، وهي في سنتها الثالثة بالنسبة لسوريا، ما المشهد؟ الأولى وأعني تونس التي وصفت منذ بدايتها ''ثورة الياسمين'' فإن أول انحراف فيها حدث حين استأثرت حركة النهضة بالسلطة مما فتح المجال لتسلل تيارات سلفية متطرفة وعنيفة وجهادية تتناقض مع كل تراث الشعب التونسي المتفتح والمتجانس في نسيجه الاجتماعي وهو في هذه الحالة مثله مثل المجتمع السوري. أدت تلك الحالة، إلى ظهور حركات جهادية بدايتها كانت ''تصدير'' الشباب التونسي للقتال في سوريا بتواطؤ من حركة النهضة وبتمويل خليجي وتعزيز من القرضاوي وأمثاله من شيوخ الفتن وهكذا فإن تونس التي كانت تنتج السياحة و=-==-=- تحولت إلى بؤرة لتصدير الارهابيين، وكم حز في نفسي رؤية تلك الأمهات وهن يترددن على دمشق للبحث عن أبنائهن. الانحراف يتجه للعنف، ولعل تواجد مجموعات ارهابية في جبل الشعابني وفي منطقة القصرين تكشف أن السلفيين في هذا البلد المحدود الامكانيات يسعون إلى فرض ''الشريعة'' حسب فهمهم ولو بالقوة. وكما قال أحد المحللين التونسيين أن دول الخليج تستثمر أموالها في الغرب، وتبعث بشيوخها إلى تونس للحث على الجهاد في سوريا،. أما ليبيا التي كانت ''ثورتها'' دموية منذ البداية وهي ''الثورة'' التي شرعت تدخلات الناتو جنوب المتوسط فإنها تتجه نحو تفتت البلاد وعودتها إلى حكم قبائلي متصارع وتحولها إلى مصدر للسلاح لكل منطقة الساحل وسوريا، كما أن الآلاف من مقاتليها وأمراء الحرب فيها يتصدرون قائمة الارهابيين الأجانب في سوريا البلد يتجه بخطى حثيثة نحو التفتت في ظل عجز تام للسلطات السياسية والعسكرية والأمنية على فرض الأمن في مدينة واحدة فما بالك بالبلاد الشاسعة كلها، ولعل الاستقالات المتوالية التي تحدث داخل الحكومة ووسط قيادات عسكرية وأمنية رغم تمتعها بالمراتب والرتب إلا أنها لا تسيطر على شيء، فالجيش غير موجود والمليشيات مزدهرة، وكل أمير حرب وقائد مجموعة مسلحة يعتبر نفسه السلطة والدولة والحكومة وبين منطقة برقة ومنطقة فزان ومنطقة درنة والجبل الغربي ومصراتة وغيرها، فإن مستقبل ليبيا يبدو قاتما. يحدث ذلك في وقت يقف فيه الغرب متفرجا مبتهجا بما يحدث لأن ذلك يدفع الليبيين إلى المزيد من التطاحن والتقاتل عوض التفكير في مصير ثروتهم النفطية التي كانت السبب المباشر للتدخل الأطلسي وليس الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان المعايير الغائبة في ليبيا بعد القذافي. ودائما في شمال افريقيا، لكن باتجاه الشرق أكثر فإن الحالة في مصر التي يسيرها الاخوان المسلمون لا تبدو مطمئنة، فبجانب المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة والمتزايدة فان الاخوان الذين لا يملكون مشروع مجتمع أصلا، ماعدا بعض الشعارات الفضفاضة التي إن تمس بعض العواطف فإنها تزيد الأوضاع احتقانا هناك للاستقرار سياسي، رغم المظاهر، وهناك مشاكل أمنية في سيناء، والفقر يزداد نموا وانتشارا وتوسعا. إن أضفنا لذلك الأزمة المالية الخانقة، فإن مصر التي أصبحت اليوم مهددة بالجفاف وبالمجاعة نتيجة سد النهضة في أثيوبيا الذي سيحرمها من كميات كبيرة من مياه النيل الأزرق مما يعني تهديدا غذائيا أكيدا لبلد يعاني أصلا من الأزمة الغذائية. هيرودوت قال منذ ثلاثة آلاف سنة أن مصر ''هبة النيل'' وحتى في عهد الفراعنة السحيق كان التوجه دوما غرب نحو جريان هذا النهر والنيل في المفهوم الاستراتيجي لمصر في عهد عبد الناصر يشكل مجالها الحيوي ولهذا كانت الديبلوماسية المصرية ابان عهد الدولة الوطنية أكثر من نشطة على المستوى الافريقي وأساسا مع دول المنبع والمجرى وكان للكنيسة القبطية دورا مع الكنيسة الاثيوبية في عهد هيلاسلاسي الذي كانت علاقاته ممتازة مع مصر وبالذات مع عبد الناصر. ضمن هذ المنظور فإن الأمن ا لقومي المصري كان دوما مرتبطا بالجنوب، بالعمق الافريقي في المقام الأول وليس بالخليج كما هو التوجه منذ حكم الاخوان اللذين ساءت علاقتهم ليس فقط مع اثيوبيا وإنما مع كل دول حوض النيل. وعلينا أن نتذكر هنا أن اسرائيل كانت دوما تسعى لتركيز وجودها في الدول الافريقية التي ينبع منها النهر ودول المرور والمجرى، وكان تواجدها يتركز أساسا في المشاريع الزراعية والفلاحية. هل تقع حرب المياه التي توقعتها دراسات وأبحاث منذ سبعينات القرن الماضي والتي ستشمل أساسا كل منطقة المشرق العربي. اثيوبيا تقول أنها لن تتراجع عن حقها و مصر تهدد بعمل عسكري الذي قد ينجح ولكنه سيزيد المشكلة تعقيدا وستكون افريقيا كلها تقريبا في صف اثيوبيا؟! ومما يصعب من مهمة هذا الاحتمال الوضع في سودان عمر حسن البشير الذي أدى إلى انفصال جنوبه فإنه يتجه نحو المزيد من التفتت في مناطق جنوب كردفان ودارفور.. وهكذا فإن السودان سيكون حليفا لمصر يمثل عبئا أكثر مما يشكل سندا. ضمن نفس هذا المشهد فإن الحرب الارهابية عل سوريا تأتي لتكشف أكثر أن هذه الثورات'' أو الربيع العربي ليس من أجل الحرية ولا الديمقراطية ولا حقوق الانسان ولا كرامة الفرد المهانة يوميا ودوما وأكثر في بلدان هذه الثورات''. القضية تندرج ضمن بيت عنكبوتي اسلاموي يرتبط أساسا بتيار ''الاخوان المسلمون'' الذين تسعى مصر لتكون قطبهم في شمال افريقيا وفي المشرق العربي فإن تركيا أردوغان تعمل هي الأخرى لتمكينهم من السلطة كما تكشف تدخلاتها في سوريا وفي النهاية ستار اسلاموي على كامل المنطقة العربية هو بداية ونهاية يدور ضمن المدار الغربي والأمريكي أساسا. هذا الستار الاسلاموي الموعود تقف اليوم بشجاعة وثبات في وجه سوريا بالنسبة للمشرق العربي، وبصورة ما الجزائر بالنسبة للمغرب العربي، وسوريا وهي تواجه وحدها هذا المشروع المدمر استطاعت بعد مرور ما يقارب العامين والنصف أن تفتح ثغرة في بيت العنكبوت هذا بل وتمزقه في المفصل وهوما أدى إلى جنون تركي-خليجي نتيجة هذا الصمود غير المتوقع حسب توقعات كل الأطراف التي راهنت على سقوط سوريا ليس كنظام بل كدولة مؤثرة في المنطقة. أود هنا بما أن الأمر متعلق بسوريا وبمصر أن أذكر أن كل الانتصارات في المواجهات التاريخية الكبرى التي حدثت مع الغزاة سواء من الشرق أو من الغرب كانت نتيجة التحالف السوري-المصري ضد المغول وضد التتار وضد الصليبيين وصولا إلى أكتوبر .73 كل هذا الرصيد حذف نتيجة تفضيل الولاء الإخواني على الولاء للدولة الوطنية وللتوجه القومي. إن العزف على الصراع المذهبي الذي يحمل لواءه داعية الفتنة القرضاوي وبعض شيوخ السلاطين والملوك والأمراء وشيوخ ''الملل والنحل'' الجدد، يستهدف العرب أساسا في المقتل، وأود هنا أن أذكر أنه زمن حكم الشاه الذي كان يمثل درك واشنطن في المنطقة الخليجية كانت، ''الخليجيات'' حينئذ تقيم علاقات أكثر من ودية مع عرش الطاووس، ولم تطرح لا تصريحا ولاتلميحا يوما ما قضية التهديد الشيعي كما تفعل اليوم، بل حين احتل الشاه الجزر الثلاثة في الخليج ''بلعت'' هذه الكيانات الأزمة ولم تتحرك، فلماذا اليوم هذا التهويل بالخطر الشيعي المزعوم والعزف على أوتار الطائفية والمذهبية الذي تغذيه في سوريا وفي العراق؟ هل سيفلح العنكبوت الاسلاموي في لف خيوطه على العالم العربي كما يسعى ''الإخوان'' بالتحالف مع أردوغان؟ آمل أن لا يحدث ذلك، وأومن أن الثقب الذي أحدثته المقاومة السورية في وسطه سيؤدي إلى تقطعه وتفككه.