يُقال إن السرّ إذا تجاوز الاثنين شاع.. ويبالغ البعض فيوصي بأن يظلّ السرّ دفيناً بين ثنايا صدرك، فبمجرّد خروجه إلى غيرك سوف تفقد السيطرة عليه.. ولتأكيد الاحتفاظ بالسرّ يقول المرء لمن استأمنه على سرّه: إنّه في بئر.. كما يستعمل البعض تعبيرا مستوحى من عالم البناء، فيقول لصاحب السرّ: سرّك في مأمن فقد بنيتُ عليه بالإسمنت المسلح. السرّ والأسرار من أهم خصائص عالم السياسة والسياسيين، خاصة إذا تعلّق الأمر بممارسة السياسة من الطريق الأوسخ المليء بالكواليس والمؤامرات والخطط غير البريئة والكمائن والمصائد، وكل ما يحمله قاموس اللغة العربية وغيرها من اللغات في هذا السياق. والأسرار السياسية الشفوية قد تظل على حالها إلى وقت متوسط أو طويل، وقد تتحول إلى ألغاز محيّرة، أما الأسرار الموثّقة رسميا فقد تجد طريقها إلى أيادي الباحثين والمهتمّين بعد انتهاء الوقت المخصص لحظرها، وهكذا تفرج الحكومات عن أسرار ووثائق ومحاضر واتفاقيات كانت سرّية في وقت ما، ثم تودعها ضمن الأرشيف الوطني العام، ويحدث هذا غالبا في الدول التي قطعت أشواطا طويلة على طريق الممارسة الديمقراطية. والحديث عن أسرار السياسة مستساغ هذه الأيام في الجزائر، بل مطلوب، لأننا نتابع ولادة أسرار جديدة في الوقت الذي تتواصل معاناة الباحثين والمؤرّخين الجزائريين وهم يخوضون في بعض زوايا التاريخ القريب للجزائر، خاصة فترة الثورة التحريرية الكبرى والسنوات الأولى للاستقلال.. وإن كانوا في المقابل قد تنفّسوا الصّعداء، بعض الشيء، من خلال المذكّرات الشخصية التي بدأت تظهر تباعا في المشهد السياسي الجزائري، أو المقابلات الصحفية والتسجيلات والوثائق المفرج عنها. هذه السنة مشحونة بكثير من الأسرار سواء ما تعلّق بمرض رئيس الجمهورية ورحلة العلاج والعودة، أو التحضير للانتخابات أو الترتيبات الرئاسية القادمة، أو خفايا سوناطراك الأولى والثانية وما تبعها من توجيه الاتهام لوزير الطاقة والمناجم السابق شكيب خليل، وهو اتهام لشخصه في الظاهر، لكنّ بين السطور أمورا أخرى قد تستقرّ في خانة الأسرار حتى حين. إنّنا قاب قوسين أو أدنى من بوّابة دخول خدمات الجيل الثالث من الهواتف النقالة، تلك الخدمة التي ستوفّر تدفّقا عاليا للإنترنت عبر الهاتف الشخصي لكل مواطن، وعندها يسهل تداول المعلومات وتبادلها بحجم سيفوق ما نراه الآن بعشرات المرات.. فلينتبه صنّاع الأسرار ويتحرّروا من أوهام الماضي، فنحن في عصر يعرف إعلاما جماهيريا جديدا تتقلّص فيه المسافة يوما بعد يوم بين الصحفي المحترف والمواطن العادي الذي وجد نفسه صحفيا بشكل من الأشكال مع انتشار وسهولة استعمال التقنيات الحديثة في عالم الاتصال. الكلام موجّه للسياسيين وصناع القرار الذين يملكون قدرا من الوعي بأهمية التاريخ وسيفه المسلّط باستمرار علينا، أما الذين لا يكترثون للتاريخ.. فقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّا.. ولكن لا حياة لمن تنادي.. وأقصد بهم ذلك النفر من السياسيين والمسؤولين الذين لا يفكّرون أبعد من حدود جيوبهم وبطونهم، وإذا تحرّك الفكر بهم بعيدا فلن يتخطّى البنوك الدولية التي تقبل إيداع واستثمار أموال مشبوهة، والدول التي تبيح شراء العقار، ومن ثم الاستقرار لأصحاب الأموال والسياسيين الفاسدين الهاربين من شعوبهم وحكوماتهم. إن الذين يكدّسون الأسرار، كما يكدّسون الأموال، واهمون لأن الموازين والقواعد التي كانت تحكم بلادنا منذ ثلاثين سنة فقط قد بدأت في التغيّر التدريجي، وهكذا لن يغني بعد اليوم إلا الصدق والشفافية ومصارحة الشعب بكل شيء، وعندها سينتشر الأمن والأمان وتعود الثقة بين المواطن والمسؤول، وقد أدرك غيرنا خطورة هذا الأمر قبل فترة طويلة، حيث قال الرئيس الأمريكي السادس عشر أبراهام لنكولن: زدعوا الناس يتعرفون على الحقائق، وعندئذٍ ستكون البلاد آمنةس. إن أسرار مراحل ليست بعيدة من تاريخ الجزائر قد بدأت في الظهور منذ سنوات، ومن خلال الذين صنعوا بعض فصولها أو كانوا في الخط الموالي لدائرة صناعة القرار الأولى، وإن ظل هذا الظهور في حاجة إلى المزيد أو كان في الشكل أكثر من المضمون أو جنح إلى التلميح بدل التصريح؛ فإنه مؤشر قويّ على أن قلعة الأسرار لن تظل حصينة إلى الأبد. وفي هذا السياق أحب دائما مراجعة وتصفّح كتاب زالجزائر، الحلم والكابوسس للدكتور محي الدين عميمور، مع أن الكتاب، في طبعته الثانية، بين أدراج مكتبتي منذ سنوات وربما قرأت بعض مواضيعه عدة مرّات. وهذا الكتاب في أصله مقالات متفرقة للكاتب، الطبيب والإعلامي والدبلوماسي والسياسي، كانت مفرّقة عبر صحف جزائرية وعربية، وقد كتب بعضها في أشدّ أيام التسعينيات سوداوية من الناحية الأمنية والسياسية، وقد عبرّت كلمات الكاتب فعلا عن الحلم والكابوس في جزائر الاستقلال، باعتبار الكابوس حلما مزعجا، وباعتباره أيضا مسدّسا كما هو في اللهجة الجزائرية.. كما زاد من أهمية الكتاب عددٌ من المداخل التي قدمّ بها الكاتب لكل فصل يحوي مجموعة مقالات متقاربة، وأكثر من ذلك تلك الهوامش التفسيرية لبعض مواطن الغموض أو التلميحات التي ربّما لجأ إليها الدكتور عميمور مضطرا، فمجرّد الكتابة عن موضوعات محددة في سنوات الدم والنار قد تكون مغامرة مجهولة العواقب. وسوف أكتفي بمثالين فقط من الكتاب، الأول جاء ضمن مقال زأكتوبر يتآمر على نوفمبرس، وفيه: زوخلال الولاية الثانية للرئيس بن جديد كان وزراء كثيرون لا يلتقون بالرئيس رغم صدور بلاغات عن استقبال الرئيس لهم وتلقّيه تقريرا عن مهامهمس، والمثال الثاني جاء في أول هامش بمدخل الفصل الثاني، وفيه: زقلت لوزير الداخلية في تلك المرحلة بأنه يتحمل أمام التاريخ مسؤولية تلك المعتقلات، وصعقتُ عندما قال لي بأنه قرأ قرار إنشاء المعتقلات، الصادر باسمه، في الصحف مثل ما قرأناه نحن تماماس.