ربما هو نفس المسار، ونفس الفترة الزمنية استغرقتهما السياسة الأمريكية للتأقلم مع أوضاع جديدة غير متوقعة أو مفاجئة أو متناقضة مع توجهاتها.. أعني هنا الحالة الصينية والحالة الايرانية، في الأولى كانت المدة الزمنية حوالي سبع وثلاثين سنة بعد انتصار ماوتسي تونغ وإعلان جمهورية الصين الشعبية، وفي الثانية أربع وثلاثين سنة بعد سقوط نظام الشاه وإعلان جمهورية إيران الاسلامية خطرت بذهني الواقعة الأولى وأنا أتتبع ما يمكن أن تسفر عنه الواقعة الثانية. أكيد هناك شبه بين الحالتين الصينيةوالإيرانية من زاوية العداء المتبادل بينهما وبين الولاياتالمتحدة وأيضا من زاوية الحصار الذي تعرضت له ومحاولات عزلهما دوليا من قبل واشنطن لأكثر من ثلاثة عقود، وثالثا من خلال انتهاج سياسة الاعتماد على النفس التي إن كانت باهظة التكاليف اجتماعيا فإنها بالمقابل أدت إلى إنجازات علمية وتكنولوجية استطاعت من خلالها الصين الشعبية دخول النادي النووي منذ ستينيات القرن الماضي وهي اليوم دولة فضائية، واستطاعت إيران أيضا أن تمتلك كل التقنيات النووية مخبريا، مما يجعل مسألة السلاح النووي مجرد تطبيق لمعارف علمية أصبحت تمتلك قاعدتها البشرية والصناعية والتجهيزية. كما أدى التطبيع بين واشنطن وبكين آنذاك إلى انفراج دولي وأيضا إلى التخفيف من استراتيجية الاستقطاب العسكري أساسا في جنوب شرق آسيا ومن نتائج ذلك آنيا خروج الولاياتالمتحدة وانسحابها من مستنقع الفيتنام سنة ,1975 فهل يؤدي التطبيع مع طهران، من بين ما ينتج عنه الانسحاب من أفغانستان بأقل الخسائر مع ضمان نوع من التهدئة وحفظ ماء الوجه للرئيس أوباما الذي جعل من هذه القضية أحد محاور وعوده الانتخابية في العهدتين الأولى والثانية؟. مع أن الإتفاق النووي الذي تم في جنيف بين طهران وأعضاء مجلس الأمن الدائمين بالاضافة إلى ألمانيا، هو من حيث الشكل متعدد الأطراف إلا أن دور واشنطن كما طهران فيما سيسفر عنه اقليميا سيكون حاسما من خلال دور كل منهما في المنطقة وسياسة الاستقطاب التي يمارسانها في الخليج والشرق الأوسط أساسا. الشيخ حسن روحاني وبالمناسبة هو دكتور وأستاذ جامعي، مثله مثل سلفه أحمدي نجاد أستاذ الرياضيات والهندسة المعمارية في جامعة طهران قد يكون شوان لاي إيران من الجانب السياسي والديبلوماسي وهو أيضا قد يكون دانغ هيسياوبينغ من الجانب الاقتصادي.. ذلك أن الأول اتفق مع نيكسون على التطبيع والثاني تجاوز الدوغماتية الإيديولوجية في قضايا الاقتصاد والتنمية وكانت له قوته الشهيرة:''لا يهم لون القط أحمر أو أصفر أو أسود المهم أنه قادر على اصطياد الفأر''... وبالفعل كاد العالم كله أن يصبح في مرمى شباك هذا القط الصياد! وبين الايديولوجيا التي تبدو متشددة في كلا البلدين، فإن البراجماتية الاقتصادية والعقلانية في التعامل مع وقائع عالم يتغير دوما ويتحول فإن الخلفية الحضارية والثقافية والفكرية لأمتين عرفتا وأنتجتا لتمدن وأيضا التوسع منذ آلاف السنين أورثتهما تراكما معرفيا في التعامل مع وقائع متشابكة ومتناقضة ومتصارعة، ولكنهما يجدان دوما الطريق والمسلك الذي يوصلهما إلى أن يكونا فاعلين فيه مؤثرين وليس مجرد أطراف تتأثر فقط بما يقوم به الآخرون ويقررونه. توجه حسين روحاني الديبلوماسي والسياسي والاقتصادي كان أساس برنامجه الانتخابي فهو يدرك أن المصاعب الاقتصادية والاجتماعية التي عاناها ويعانيها الشعب الايراني نتيجة الحصار المالي والاقتصادي والنفطي طيلة ثلاثة عقود، إن لم تؤدي إلى إركاع ايران واستسلامها، فإنها بالمقابل تسببت في مصاعب كبرى للشعب الايراني وأدت أحيانا إلى ظهور تساؤلات مشروعة عن مدى ما يمكن أن يتحمله الشعب الذي تأثرت كل جوانب حياته اليومية نتيجة ذلك الحصار.. وهو الإحساس الذي فهمه الدكتور حسن روحاني ووعد بالعمل على تحسين حياة الايرانيين وتطويرها من خلال مقاربات جديدة في حل القضايا الخلافية، بل المتناقضة مع الغرب وأساسها الملف النووي الذي بادر بديبلوماسية جريئة لعلاجه دون أن يؤدي ذلك إلى التنازل أو التسيلم عن جوهره المتمثل في امتلاك قدرة نووية سلمية، ولكن الباب بقي مفتوحا على تطبيقات أخرى يخضع لتقييم القيادة الإيرانية وحدها، فتجميد تخصيب اليورانيوم لا يعني إلغاءه ومبدأ التخصيب، في إيران وأيضا إنتاج الماء الثقيل بقيا كما أصرت طهران على ذلك. الإتفاق الصيني الأمريكي في السبعينات أدى إلى غضب عارم لحكومة تايوان أو نظام فرموزا الذي ترك مكانه في مجلس الأمن الدولي لجمهورية الصين الشعبية، نفس المسلك الذي سلكته حكومة المملكة العربية السعودية وإسرائيل وقد تكون تل أبيب تمتلك بعض أوراق الضغط على الإدارة الأمريكية من خلال الكنونغرس واللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة، لكن الرياض لا تمتلك شيئا، بل تحنط وجمود سياستها الخارجية وقصر أفق ديبلوماسيتها التي لديها منظارات فقط ترى بهما العالم، الأبيض والأسود، فإن ذلك سيؤدي بها إلى الانكماش وفقد أي تأثير إقليمي أو عربي. ما عدا تبني خطة لنشر الإرهاب وتمويله وهو توجه بدأ يصطدم بسياسة واشنطن والغرب عموما في المنطقة. إسرائيل عارضت اتفاق جنيف لأنها اعتبرته خروجا عن المألوف فيما يتعلق بالتعامل مع إيران على أساس التقييمات الإسرائيلية، وإسرائيل تدرك أنها دوما الحيلف الأول لواشنطن في المنطقة وهذه ''الأزمة'' إن سميناها تجاوزا أزمة لا تؤثر على الدعم العسكري والسياسي والديبلوماسي الذي تتلقاه من واشنطن، أما الرياض التي تتعامل بسذاجة مع قضايا المنطقة الشائكة ولا تعي لعبة التوازنات الدولية والمتغيرات التي تتحكم فيها وتوجهها وتعتقد دوما أن ديبلوماسية الصك ودفع الأتعاب هي العامل الحاسم في العلاقات وهي قد تشتري أصواتا في الجمعية العامة للأمم المتحدة أو في الجامعة العربية مثلا.. ولكنها لا تستطيع شراء صوت أو أصوات قوى كبرى تسير العالم والكون من منطق التوازنات وأيضا المصالح الكبرى التي لا تستطيع الرياض وحدها تقديمها.. يذكرني هذا الواقع بما يمكن بالنسبة للعلاقات السعودية الأمريكية أن الرياض إن تعتبره زواجا كاثوليكيا، فإن واشنطن تعتبرها مثل زواج المتعة أو زواج المسيار، وهي ممارسة سعودية وخليجية صرفة !! السياسة الأمريكية، كما وصفها ذات يوم الكاتب الصحفي حسنين هيكل تسير مثلها مثل شركة مساهمة، ظهر مساهم جديد يملك من المقومات والإمكانيات وأيضا الأفكار والتأثير ما يمكنه إضافة شيء جديد للشركة فهي مستعدة لزحزحة مساهم أو مساهمين آخرين ...!