يبدو أن التصريحات الاستفزازية التي أطلقها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قد نسفت كل الآمال بتحسين العلاقات الثنائية بين الجزائر وباريس، والتي فتحتها زيارة الوزير الأول جان مارك أيرو وتوجت بالعديد من الاتفاقيات لتوسيع مجال الشراكة بين البلدين في مختلف المجالات. يصعب فهم أسباب النفاق السياسي الفرنسي في التعامل مع الجزائر، ففي مقابل التصريحات المثقلة بعبارات الود والأحاسيس المرهفة للوزير الأول جان مارك أيرو خلال كل مراحل زيارته للجزائر، والاتفاقيات الكثيرة التي تم إبرامها بين البلدين والتي جعلت البعض يتحدث عن »عام العسل« بين الجزائر وباريس، أطلق الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند تصريحات استفزازية كشفت مرة أخرى عن الوجه الحقيقي للسياسة الفرنسية اتجاه الجزائر، سياسة قائمة على الابتزاز. هولاند قال في خطاب ألقاه في الذكرى السبعين للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا أنه جد سعيد بعودة وزيره للداخلية مانويل فالس من الجزائر »سالما معافى«، وأضاف بأسلوب استهزاء واستفزاز في أن واحد: »لقد عاد سلما معافى وهذا بحد ذاته شيء كبير جدا«، وكان الرئيس الفرنسي يريد أن يوصل رسالة مفادها بأن الجزائر بلد غير أمن وغير مستقر، وهو ما يتناقض كليا مع تصريحاته وتصريحات مسؤولين فرنسيين سابقين كانوا يقولون في كل مرة بأن الجزائر أصبحت مستقرة وأنها انتصرت على الإرهاب، ويتناقض حتى مع ابسط أبجديات السياسة والدبلوماسية، فعبارات هولاند لا تليق حتى وإن كان يقصد بلد يعيش حربا مثل سوريا أو العراق. فما الذي يجعل الرئيس الفرنسي يسقط إلى هذا المستوى المنحط، هل كان الرجل في وعيه أم أنه لم يكن يدري ما يتفوه به من فرط سعيه لإبراز مفاتنه السياسية أمام يهود فرنسا الذين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتفوه أمامهم بأي عبارة قد تسيء إلى الكيان العبري أو مصالح اسرائيل في العالم. Åويبدو أن رفض الجزائر المشاركة إلى جانب باريس في أي سياسة أمنية أو عسكرية لها خصوصا في منطقة الساحل الصحراوي هو السبب المباشر للغضب الفرنسي الذي ترجمه هولاند بعبارات استفزازية، فوزير الأول أيرو نجح في افتكاك العديد من العقود التي قد تنقذ الاقتصاد الفرنسي المتأزم، لكنه فشل في المقابل في الحصول على موافقة من الجزائر تسمح لباريس بأن تخرج من منطقة الساحل بشرف، خصوصا وأن تقارير الأممية تقول بأن عملية »سرفال« التي قامت بها فرنسا في شمال مالي لم تكلل بالنجاح، خلافا لما تدعيه باريس، وان الإرهاب الذي تقول فرنسا أنها هزمته وطردته من شمال مالي لا يزال يتمتع بالقوة وينفذ عملياته في شمال مالي وحتى في دول الساحل الصحراوي الأخرى. لقد توجت زيارة الوزير الأول الفرنسي جان مارك أيرو للجزائر بالتوقيع على تسعة اتفاقيات للتعاون بين البلدين وقيل حينها أن ذلك ربما يؤشر لتحول كبير في العلاقات الثنائية، أو يشكل منعطفا حاسما وغير مسبوق في هذه العلاقات مما قد ينبئ بآفاق واعدة في المستقبل، لكن مهما قيل لا يمكن أن نقتنع ولو للحظة بان العلاقات بالجزائرية الفرنسية تخلصت أخيرا وإلى الأبد من المشاكل التي كانت تقيدها وتعرض طريقها، وان الطريق أصبحت ممهدة لقيام علاقات دون مشكل، علاقات متحررة حتى من ثقل الذاكرة. فمن حق أيرو أن يعبر عن سعادته للتقارب الذي حصل، ففرنسا حققت الأهم من زيارة وزيرها الأول، وكل الاتفاقيات التي تم إبرامها تصب في صالح الجانب الفرنسي وهذه حقيقة لا يمكن نكرانها، ولست أدري إن كانت فرنسا ستحتفظ للجزائريين بشيء واحد على الأقل، فالجزائر مدت مرة أخرى يدها للاقتصاد الفرنسي في ظل ظروف اقتصادية دولية جد صعبة، وعلى الذين يهللون للاستثمار الفرنسي أن ينتبهوا جيدا إلى هذه الحقيقة التي لا يتم الالتفاتة إليها وتصوير الزيارة الأخيرة للوزير الأول الفرنسي وكأنها إعلان عن نهاية لمرحلة جفاء في العلاقات بين الجزائر وباريس وبمثابة إعلان جديد لعلاقات متوازنة تكون في مستوى طموح الشعب الجزائري على الأقل. ويبدو أن الساسة في الجزائر وباريس تعمدوا هذه المرة ترك ملف التاريخ جانبا، والحقيقة أن هذا الملف كثيرا ما سمم الأجواء بين البلدين، لكن ليس بالصورة التي يتصورها الكثير ممن يتناولون العلاقات الجزائرية الفرنسية بالتحليل والتمحيص، فكثيرا ما استعمل ملف التاريخ لتنشيط النقاش خصوصا في الجزائر، وتصوير الوضع وكأنه رهينة هذا الملف، رغم أن العلاقات الجزائرية الفرنسية لم تعرف أي انتكاسة في أي مرحلة من المراحل بسبب ملف الذاكرة فحسب، فحتى لما صور الرئيس عبد العزيز بوتفليقة جرائم الاستعمار الفرنسي بالشكل الذي تستحقه هذه الجرائم وسوى بين الاستعمار والنازية بقيت العلاقات كما هي، ونفس الشيء يقال عن العلاقات الثائية في عهد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الذي حاول قلب الحقائق ونقل ملف الذاكرة إلى زاوية أخرى وأصبح بدلا من الحديث عن اعتراف فرنسا بجرائم الاستعمار والاعتذار عنها، الحديث عن »فضائل« الاستعمار وتمجيد الجرم الاستعماري ولاعتبار الوجود الفرنسي في الجزائر طيلة قرن وربع قرن مهمة حضارية وإنسانية. يجب أن نعترف بأن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ويسار الفرنسي عرفا كيف يتعاملان مع ملف الذاكرة من خلال تجنب سياسة تمجيد الاستعمار وتقديكم اعترافات ولو مجزأة وعير مباشرة بمسؤولية الدولة الفرنسية في ماسي الجزائريين طيلة الحقبة الاستعمارية، فهولاند تميز عن غيره من رؤساء فرنسا السابقين بهذه المواقف التي وفرت على حكومته الكثير من المعارك المتعلقة بملف التاريخ، مع هذا يجب القول بأن هولاند وحكومته لم يقدما أي شيء للجزائريين، ومن يعتقد بأن هولاند واليسار الفرنسي يعشقون الجزائر يخطئ كثيرا فهولاند وحزبه والكثير من السياسيين في فرنسا لا ينظروا إلى الجزائر إلا من زاوية مصالح فرنسا، والدليل على ذلك أنه بمجرد تحقيق الأهداف التي سطرتها لزيارة أيرو للجزائر، عاد هولاند ليهزأ بالجزائر على المباشر. لكن هذه الانجازات لا يمكن أن تخفي حقائق أخرى أصبحت تسيء إلى صورة الجزائر حتى في الخارج، وإذا صحت المعلومات التي تتحدث عن رفض المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان الطعن الذي تقدم به محامو رجل الأعمال الهارب في بريطانيا، صاحب فضيحة القرن كما تسمى، عبد المومن خليفة، فهذا يعني أن تسليمه للجزائر سيكون من دون أي مشاكل وقبل 30 ديسمبر الحالي، علما أن وزير العدل الطيب لوح كان قد أشار إلى هذا لتاريخ وربط هذا بالطعن المذكور أيضا، مع العلم أن كل الطعون التي ينص عليها القانون في بريطانيا استنفذت ، خصوصا وأن القضاء البريطاني كان قد وافق على تسليم خليفة رفيق عبد المومن للسلطات القضائية الجزائرية وهذا في سنة ,2009 ومنذ قرابة الأسبوع أعلنت الداخلية البريطانية عن ترحيل عبد المومن بخليفة إلى الجزائر بعدما استنفذ كل أجال الطعن في هذا البلد. لقد أدين الخليفة في سنة 2005 من قبل محكمة البليدة بتبديد الأموال بطريقة غير شرعية، كما اصدر القضاء الفرنسي حكما ضده أيضا، والسؤال الذي يطرح هنا يتعلق بمسلسل المحاكمات التي سيخضع لها هذا الشخص، وهل سيجر وراءه سلسلة أخرى من المتهمين ، أو بالأحرى من المتورطين الحقيقيين في فضيحة القرن، أم سيقتصر الأمر على بعض الضحايا فقط، ليبقى الغموض يسيطر على هذه القضية التي يجهل الجزائريون كل خباياها، فمن يجيب على السؤال الحقيقي حول الجهات التي فبركت إمبراطورية الخليفة ولأي غرض، ومن وفر كل تلك الأموال لشخص يقال عنه أنه مجرد »عربيد« لا يفهم في عالم المال والأعمال؟ والأهم ليس في تسلم عبد المومن خليفة وإدانته مجددا بأقصى العقوبات، بل في كشف المزيد من الحقائق حول هذه القضية اللغز التي حيرت كل الجزائريين وأفقدتهم ما تبقى من ثقة في مؤسساتهم، فالخليفة ليست مجرد قضية اقتصادية أو قضية تحايل أو تبديد غير شرعي للمال وتهريب الأموال إلى الخارج..الخ، بل هي انعكاس لحالة غير صحية داخل دواليب الحكم، فحتى وإن فرضنا أن بعض المسؤولين تورطوا في القضية طمعا أو بسبب نقص في الفطنة والذكاء كما وصف به نفسه وزير الخارجية السابق مراد مدلسي أمام هيأة المحكمة المكلفة بملف الخليفة، فكيف انطلت كذبة الخليفة على سلطة بكاملها، وكيف استطاع شخص ولو كان مدعما بأرمادة من اللصوص والمزورين أن يخادع بلدا برمته ويتسبب في اكبر علمية سطو في التاريخ الإنساني؟