عودة الحديث عن إيداع حزب جبهة التحرير المتحف لا يضير الحزب العتيد في شيء، بل يزيد من قوة هذا الحزب ووزنه، ويدفع الناس إلى التفكير مليا في ماهية وحجم الجبهة وأبعادها التاريخية والسياسية. حديث المتحف يذكر الجزائريين مرة أخرى أن جبهة التحرير ليست حزبا ككل الأحزاب التي لا تُثير الانتباه وإن فُبركت فبركة، وصُنعت صنعا، وبُرمجة برمجة وأُخرجت للناس كبيرة. حزب جبهة التحرير لم يكن وليد اليوم، ولا وليد الصدفة، ولا من إنتاج المخابر، ولم يؤسس بقرار، ولم يكن نتاج نزوة، ولا إبداعا شخصيا، وليس أداة محدودة الصلاحية حتى يتم حله بقرار وإيداعه المتحف وكأنه تحفة فنية عتيقة لم يعد لها مكان بين تكنولوجيا الأشياء وأحزاب »عبز يسيل« كما يُقال بلغة الشارع. * الجبهة متحف وليست تحفة جبهة التحرير لا يمكنها أن تودع المتحف لسببين رئيسين موضوعيين وعلميين ومنطقيين تفرضهما ماهية وكنه المتحف في حد ذاته مهما كان نوعه، وتاريخ وحقيقة الجبهة ككيان سياسي اختصر ملحة الثورة، ثم تبنى وقاد مشروع بناء الدولة الوطنية، ثم عاد إلى وظيفته كحزب سياسي بين الأحزاب في عهد التعددية.. فجبهة التحرير وهذا ليس كلام مناضل والمتحف خطان متوازيان، كيانان اثنان قد يلتقيان لكن لا يندمجان. فالمتحف يكتنز التحف ويحافظ على الأشياء والتاريخ والمعالم، وجبهة التحرير ليست تحفة لا سياسية ولا نضالية ولا حتى تاريخية.. إنها كيان سياسي قد يشكل هو نفسه في أحد أبعاده متحفا سياسيا يؤرخ لملحمة شعب بحلوه ومره صالحه وطالحه، لكنه أكبر من أن يسعه متحف مهما كان مداه وبُعده.. * فيها الجمال والقبح والانتصار والانكسار جبهة التحرير ليست إبداع فنان ولا قطعة أثرية. إنها عمل ونشاط بشري فيه الجمال والنجاح والانتصار، وفيه القبح والفشل والانكسار. ففي هذا العمل البشري بعض الانجازات التي بلغت درجات عليا من الإتقان والندرة ما يمكنها من تبوء مكانة التحفة، فثورة التحرير مثلا من التحف السياسية التاريخية التي صنعها الشعب وأطرتها الجبهة، وهنا تبقى الجبهة تلعب دور المتحف لهذه التحف التاريخية النضالية فهي في حد ذاتها، وفي أحد أبعادها متحف للكفاح يكتنز منحوتات تاريخية نُقشت بأحرف من ذهب ورُصعت بدم الجزائريين.. جبهة التحرير يستحيل عليها أن تودع المتحف ولن يستطيع أحد مهما كانت قوته وحجمه أن يدخلها المتحف لأنها أولا ليست تحفة إنما كيان سياسي يؤطر عملا سياسيا فيه من كل الألوان والأشكال والاستقرار والتقلبات، وسجل سياسي لمآثر ومواقف سياسية، وسقطات وإخفاقات أيضا.. ثم ثانيا لأنها بتاريخها الطويل وسجلها السياسي تلعب دور المتحف الذي يحتفظ بمنحوتات سياسية، وتحف نضالية تؤرخ وتجسد انجازات شعب في فترات تاريخية وتمجدها. *حديث المتحف: مؤشر خير إعادة بعث الحديث عن المتحف من المفروض أن يستبشر بها آل الجبهة خيرا، لأنه لا يثار إلا عندما تُصبح الجبهة تقلق أكثر كل هؤلاء الذين لا يعلمون، فكذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم بضرورة وضع جبهة التحرير في المتحف بحجة أنها لم تعد صالحة لهذا الزمن، تشابهت قلوبهم وتخوفاتهم وقد بين التاريخ آياته للناس لعلهم يعقلون، فمنهم قوم يعرفون الحقيقة كما يعرفون أولادهم، لكنهم يكتمون الحق ويسعون إلى طمس معالمه وإبعاد شهوده درءا للفضيحة وخوفا من حكم التاريخ والشعب.. لأن الجبهة جزء من الذاكرة وأحد الشهود على تاريخ هذه الأمة.. * حقيقة أننا في زمن الأحزاب الكارتونية وأحزاب الساندويتش، وأحزاب الأنابيب، والنضال الاصطناعي، لكن هذا لا يلغي الطبيعة وأشياءها، ولا يمكنه أن يملأ الساحة مهما مكن له الفاعلون والمستحكمون في البلاد، ولا أن يؤدي دور الأحزاب الفعلية.. فالشمس والقمر والنجوم ورغم قدمها وجمالها، فإنه لا يمكن وضعها في المتحف وإن كانت هي ذاتها متاحف لتحف جميلة، ولا يمكن للأقمار الصناعية ولا حرب النجوم، ولا أفلام الخيال ولا هوليود أن تقوم مقامها أو تؤدي دورها، كذلك الجبهة وغيرها من الأحزاب التاريخية التي ولدت من رحم المعاناة ومخاض النضال والكفاح من أجل إعلاء كلمة الحق، من أجل حياة شعب كان يتهدده خطر المسخ والإلغاء.. إن أحزاب الكارتون والساندويتش وأحزاب الأنابيب هي التي ستتحول ولو بعد حين إلى المتحف لأنها تحف تؤرخ للتزوير وتجسد للتدليس ومحاولة استغفال التاريخ وتغيير مسار أحداثه. ذلك لأنها ترمز إلى الإبداع الذاتي في تشكيل ونحت وسائل وأدوات بهدف التحكم أو التأثير في الواقع وتوجهاته، وتغيير ملامحه..