إن الحديث عن حزب جبهة التحرير الوطني، ليس حديثا عاديا، ولا يمكن أن يكون حديثا عاديا، لأنه حزب لم ينشأ في زحمة الموضة السياسية الناشئة عقب زوال »الثنائية القطبية« وميلاد توجه عالمي جديد نحو الليبرالية السياسية والرأسمالية الاقتصادية، ولم ينشأ من رحم »الاحتجاجات الشعبية« التي أعطت الميلاد لأحزاب إصلاحية مثل الأحزاب الإسلامية أو أحزاب الأقليات الثقافية، ولم ينشأ أيضا من رحم الإدارة بقرار سياسي لمواجهة التحولات السياسية والاجتماعية المستجدة. لقد ولدت جبهة التحرير من أجل التحرر، وهي بذلك تعد اليوم ضمن قائم " كبار الأحزاب في العالم التي كان لها هم وطني تحول إلى فكرة، ثم تحولت الفكرة إلى ثورة ، وحركة سياسية عامة توحدت مع تاريخ البلاد مثل حزب المؤتمر الوطني في جنوب إفريقيا، أو الحزب الشيوعي الصيني ، وغيرهما. وكان طبيعيا، أن يتحول الحزب الذي قاد الثورة إلى حزب حاكم بعد الإستقلال ، لأنه المؤهل أكثر لقيادة البلاد حينذاك لأنه كان أكثر جاهزية، مثله في ذلك مثل اللاعبين المحترفين في كرة القدم، فالأكثر تنافسية وجاهزية هو الذي يحظى بالمشاركة مع الفريق. * حزب المواطنين كثير من البلدان اليوم، تعرف سياسيا بأحزابها، بالأحزاب التاريخية أولا وقبل كل شيء، فكلما ذكرت أمريكا إلا وذكر الحزبان الكبيران : الجمهوري والديمقراطي، وكلما ذكرت الهند حتى أصبح حزب غاندي : حزب المؤتمر عنوانا سياسيا، وكلما ذكرت الصين وزعيمها ماو تسي تونغ إلا وذكر الحزب الشيوعي الصيني، وجنوب إفريقيا تعرف بنيلسون مانديلا وحزبه المؤتمر الإفريقي ، وحتى في شمال إفريقيا تذكر المغرب بحزب الاستقلال وتونس بالدستوري. لماذا تذكر البلدان بأحزاب دون أخرى ؟ لأن هناك حزبا قدّم أكثر من الآخر، وهناك حزب ارتبط بشعبه وآلامه وآماله وطموحاته أكثر من الآخر. ولهذا أصبحت الجزائر لصيقة بجبهة التحرير الوطني ورجالها. ورغم أن الأحزاب في الأنظمة التعددية ، مهما كانت درجة الحرية السياسية التي تتمتع بها، فإنها تعد تعبيرا عن طبقة اجتماعية، مثل حزب العمال الذي هو أساسا تعبير عن العمال، وحزب الأقليات مثل الأكراد في العراق، وأحزاب إصلاحية مثل الإسلاميين ، وأحزاب تعبر عن الإدارة ورجال الأعمال، وغيرها. وتقريبا تخضع الساحة السياسية في الجزائر لهذا المنطق نفسه. لكن جبهة التحرير الوطني تأخذ موقعا متميزا، من الناحية الفكرية والإيديولوجية، فهي بفعل تاريخها النضالي الطويل قبل الاستقلال، وبفضل المبادئ التي بنيت عليها ، وبكونها الحزب الواحد بعد الاستقلال لمدة ثلاثين سنة، ونظرا لخصوصية المجتمع الجزائري المختلف تماما عن البلدان الغربية التي كانت سباقة في معرفة الأحزاب السياسية العصرية، ستظل حزبا »فوق طبقية«، فهي وعاء فكري لمختلف الشرائح الاجتماعية للمجتمع الجزائري، وهذه الخاصية هي أهم ما يميز حزب جبهة التحرير الوطني عن مختلف الأحزاب السياسية في الجزائر حاليا. وبذلك أصبح حزب المواطنين بدون منازع. لذلك نجده اليوم يتبنى أكثر من غيره من الأحزاب النشطة المطالب الاجتماعية والعمالية ، إلى درجة فشلت الأحزاب في منازعته على تبني اهتمامات المجتمع، بل حدث صراع واضح بين حزب جبهة التحرير الوطني وأحزاب أخرى على رفع رواتب العمال مثلا، ففي الوقت الذي جعله حزب جبهة التحرير أولوية وحقا مشروعا، ودافع عنه بكل ما استطاع ، خاصة في ظل رئاسته للحكومة ، فقد عارضته بعض الأحزاب مثل الأرندي، واعتبر الزيادات لا تتماشى ومستوى الدخل القومي للبلاد. * التجذر التاريخي.. تجذر في المستقبل ويأتي البعد التاريخي للحزب، ليمنحه التجذّر الشعبي والمرجعية الفكرية، وهو ما لا تملكه الأحزاب التي نشأت في زحمة الموضة الإيديولوجية التي تمخضت عن نهاية التاريخ .. تاريخ القطب الإشتراكي بعد انهيار الإتحاد السوفياتي. لذلك عملت أحزاب الإيديولوجيات الناشئة فقي الجزائر كل ما في وسعها لسلب جبهة التحرير " بعدها التاريخي " بالإدعاء أن تاريخ جبهة التحرير " ملك مشترك لجميع الجزائريين ". والحقيقة أن هذا الكلام صحيح من حيث كون جبهة التحرير ملك وإرث مشترك لجميع الجزائريين، لكنها ليست إرثا للأحزاب الناشئة التي تريد أن تبني مجدا سياسيا على مجد تاريخي غير مجدها. وحزب جبهة التحرير ما زال يحمل التاريخ بين جناحيه، فمن لا تاريخ له لا مستقبل له. ولذلك نجده دوما يجدد تمسكه، بضرورة اعتذار فرنسا لجرائمها في الجزائر، وبادر بعض نوابها بمشروع قانون لتجريم الاستعمار، وهو ما اعتبره حزب الأرندي ب »سجل تجاري« في تناغم واضح مع أطروحات وزير الخارجية الفرنسي كوشنير والفكر الفرنسي الإستعماري الجديد، الذي يقوم على نظرية " ارم التاريخ في المزبلة من أجل علاقات ممتازة مع دولة المستعمر ". وهنا أيضا تتميز جبهة التحرير بين الأحزاب الجزائرية الناشطة، فالحاضر هو مستقل الماضي، والمستقبل هو ماضي الحاضر. فالحياة تواصل. لذلك هناك رغبة في قطع جبهة التحرير عن ماضيها الذي هو ماضي الجزائر حتى تكون بدون مستقبل. ولأن المرجعية التاريخية بالغة الأهمية في حياة أي حزب، شهدنا كيف اتخذت بعض الأحزاب من أحداث وطنية راهنة مرجعية لها. إذ هناك من يتخذ " مقاومة الإرهاب " مرجعية إيديولوجية ومشروعا سياسيا، وهناك من يتخذ من أحداث 5 أكتوبر 1988 مرجعية سياسية، وهناك من يبني شرعيته ومرجعيته على أحداث الربيع الأمازيغي لعام 1980 ، حتى بعض الحركات جعلت أحداثا مأساوية بمثابة مرجعية فكرية مثلما حدث مع حركة العروش عام 2001. إنها مفارقة غريبة، ففي الوقت الذي يبحثون فيه عن مرجعية تاريخية في أحداث ظرفية، يعملون كل ما في وسعهم لإبعاد جبهة التحرير عن مرجعيته التاريخية. إن هذه الجدلية بالذات، هي التي جعلت الغرب كله يطالب تركيا بالإعتراف بجرائم إبادة الأرمن، وهو ما ترفضه تركيا وتعتبر الإبادة لم تحصل أصلا، ووصل بها الحد إلى استدعاء سفرائها للتشاور. فلو لم يكن للتاريخ مدلول ومضمون سياسي، ولو لم يكن مؤسسا للمستقبل، فلماذا كل هذه العودة إلى التاريخ ؟ ولماذا ترفض فرنسا مثلا الإعتذار عن " جرائم الإستعمار " في الجزائر وهي فعل تاريخي ؟ * الحلقة المفقودة .. حلقة حساسة بالموازاة مع كل هذا، مازال حزب جبهة التحرير الوطني يمثل »الحلقة الذهبية للتوازن السياسي« في البلاد. فاليوم لم تعد جبهة التحرير اللاعب الوحيد في الحقل السياسي الجزائري، بل هناك لاعبون جدد، كل ومهارته، والإدعاء بامتلاك المهارة الأفضل حق مشروع للجميع، لكن عندما نلجأ إلى نظرية رقعة الشطرنج مثلا، ونسحب الأحجار واحدة تلو الأخرى، لنرى أي الأحجار مصيرية أكثر من الأخرى، ندرك بسرعة أهمية جبهة التحرير الوطني في الساحة السياسية الجزائرية. لقد لاحظ المواطنون والسياسيون والمراقبون كيف تحول الثقل في العمل السياسي إلى المعارضة بمجرد أن التحقت بها جبهة التحرير الوطني في مطلع التسعينيات ؟ واختبر الملاحظون مستوى اللقاءات السياسية الكبرى التي غابت عنها جبهة التحرير الوطني أواسط التسعينيات مثل لقاء الحكومة بالأحزاب وندوة الوفاق الوطني عام 1996 وغيرها، وشاهد الناس المستوى السياسي للمؤسسسات التي غابت عنها جبهة التحرير الوطني في فترة الأزمة السياسية – الأمنية في التسعينيات. كذلك يمكننا اليوم أن نختبر مكانة الجبهة في التكتلات والمؤسسات القائمة، لنأخذ مثلا التحالف الرئاسي الذي يضم ثلاثة أحزاب سياسية : الأفلان، الأرندي وحمس، ونتصور هل يمكن إقامة هذا التحالف بعيدا عن الجبهة ؟ هل يبق للتحالف معنى لو تنسحب منه جبهة التحرير ؟ رغم أن شريكيها في التحالف مستفيدين سياسيا أكثر من جبهة التحرير الوطني، وهذا موضوع آخر للنقاش. لنتصور أيضا، وعلى سبيل المثال كذلك، برلمانا بدون جبهة التحرير بوصفها »حزب المواطنين« الذي يجسد الوسطية والاعتدال السياسي والإيديولوجي؟ ألا يفسح المجال للصراع السياسوي على شاكلة التشكيك في تعداد الشهداء ؟ لنتصور انتخابات، أي انتخابات، في غياب حزب جبهة التحرير..ألا تكون بدون ذوق ولا رائحة؟ وبالمقابل، يمكننا أن نتصور، ويمكن أن يكون، برلمان في غياب أي حزب من الأحزاب، ومؤسسات في غياب أي حزب من الأحزاب، ويمكن أن يكون أيضا تحالف سياسي بأي حزب في حضور جبهة التحرير الوطني. * المعارضة الشريفة وهناك ميزة أخرى تميز جبهة التحرير في الحقل السياسي الجزائري، وهي ميزة نادرة إن لم تكن مفقودة في الأحزاب الأخرى، وهي الحراك الديمقراطي الداخلي، بمعنى وجود معارضة داخلية، وهو ما يمكن تسميته بالتنافس الشريف أو المعارضة النبيلة، وهو ما يعكس فعلا حجم الحزب ووزنه السياسي، ويؤكد نظرية »حزب المواطنين« نظرا لتعداد المناضلين والمناصرين والمحبين جغرافيا واجتماعيا ومهنيا وثقافيا. ومفهوم المعارضة الشريفة مفهوم مركزي لأي نظام ديمقراطي سواء كان في رحاب الدولة أو في رحاب المنظمات أو في رحاب الأحزاب. فهو يعني أن جميع الجهات المشاركة في النقاش السياسي، والمتنافسة على المناصب القيادية ، مهما كانت حدة النقاش والتنافس وعمق الاختلاف ، فإنها تتقاسم في نهاية المطاف القيم الأساسية للديمقراطية ، ممثلة في حرية التعبير عن الرأي، ومن يخسر الانتخابات، ينتقل بصدر رحب إلى المعارضة، وهو واثق من أن الفائز سيوفر له المجال الحر في التعبير عن رأيه ، في انتظار فرصة القيام من جديد بحملة للترويج لأفكاره والحصول على أصوات تؤهله للفوز. إن التنافس الحاصل بشفافية، هو تنافس بين الأشخاص، وكل متنافس يؤمن بأنه يتنافس لخدمة الحزب، والحزب يتنافس مع الأحزاب الأخرى لخدمة الشعب. ويحدث الحراك السياسي داخل حزب جبهة التحرير الوطني بشفافية وبتعرض دائم للصحافة، بينما كثير من الأحزاب الجزائرية، وخاصة تلك المتبجحة بالديمقراطية، تسير بطريقة ستالينية، حيث يعتبر رئيسها هو الكل في الكل. أليس إذن حزب جبهة التحرير الوطني هو الرقم الصعب في الخريطة الحزبية ؟ أوليس هو أيضا الحلقة الذهبية للتوازن والاعتدال ؟ وهل أخطأت قياداته المختلفة عندما رفعت شعارات : من التحرير إلى التنمية إلى البناء الديمقراطي ؟