يسمح تحليل مسار أي تشكيلة سياسية، والوقوف على المنعطفات الحاسمة في تاريخها، الحكم على مدى نجاعتها، وعلى المناعة التي تتمتع بها والتي تقيها من التصدع أو التلاشي، والذي يعود إلى تاريخ حزب جبهة التحرير الوطني منذ ميلاده وإلى غاية الآن يتأكد، من خلال الوقوف على التحديات التي واجهها، والأزمات التي مر بها، والمؤامرات التي تعرض لها، أن هذا الحزب هو أقوى بكثير من أن تزعزعه بعض الحركات الموسمية العابرة أو حتى السيناريوهات المشبوهة التي تبحث عن موته السياسي. واجه حزب جبهة التحرير الوطني في طريقه منذ ميلاده إلى غاية الآن الكثير من الأزمات والعديد من محاولات النيل منه بتشتيت صفوفه أو محاولة إلغائه من الساحة السياسية، وكان مصير كل السيناريوهات التي استهدفت الجبهة الفشل والانكسار، فالمنعرجات الحاسمة في حياة الحزب العتيد لم تنل منه وعلى العكس من ذلك زادت من قوته ومنحته مناعة جعلته يصمد أمام أعتى العواصف ويستعيد مواقعه كأول قوة سياسية في البلاد. والمتتبع لخطابات الأمين العام للأفلان عبد العزيز بلخادم في المدة الأخيرة، خاصة خلال المؤتمرات الجهوية لتحضير المؤتمر التاسع ينتبه من دون شك إلى مسألة في غاية الأهمية ترتبط خصوصا بالتذكير بماضي الحزب العتيد ورصيده السياسي والمعارك التي خاضها وبثقله داخل الدولة والنظام وبالدور الذي يلعبه في الساحة الوطنية والمثل التي يدافع عنها والبرنامج الذي يحمله، والمقصود بكل هذه الرسائل هو لفت الانتباه نحو مسألة في غاية الأهمية وهي أن حزب بحجم جبهة التحرير الوطني لا تهزه الأزمات العابرة مهما كانت شدتها وقوتها. لقد ولدت جبهة التحرير الوطني في ظل ظروف اشد خطورة ، وفي أجواء كانت فيها الصراعات السياسية والأزمات المتتالية متزامنة مع حرب وثورة كان يقودها في الميدان سياسيا وعسكريا ضد أعتى قوة استعمارية في العصر الحديث، وما حصل في مختلف المنعرجات السياسية، إبان الثورة أو حتى في الأيام الأولى من الاستقلال،خاصة ما سمي بأزمة صائفة 62، وجولات الصراع بين رموز الثورة للسيطرة على مقاليد الحكم، من خلال السيطرة طبعا على المكتب السياسي للحزب، وما تبعها خلال كامل عهد الأحادية التي انصهر فيها الحزب العتيد مع الدولة لأداء مهمة واحدة وهي مهمة البناء، ساهمت كلها في صقل تجربة الأفلان الذي اكتسب على مر العقود مناعة سياسية انتفع بها خاصة في السنوات الأولى من الانتقال الديمقراطي، وخلال أحداث أو بالأحرى »مؤامرة« أكتوبر 88 التي كانت تستهدفه في العمق حسب شهادات الكثير من صناع القرار وممتهني السياسة في تلك المرحلة. أطروحة المتحف.. أطروحة إحالة حزب جبهة التحرير الوطني على المتحف ولدت كما هو معروف في السنوات الأولى للاستقلال، وهي عبارة عن »بدعة سياسوية« اخترعها البعض في إطار حروب شخصية واستملها البعض الأخر لتصفية حساباته مع خصومه السياسيين، وبقيت هذه الأطروحة نائمة في بواطن البعض وكانت تعود من حين لأخر كلما توفرت لأصحابها مبررات إعادة الترويج لها. فالحملة المركزة التي تستهدف الأفلان هذه الأيام، هي وعلى شراستها مجرد حلقة في سلسلة محاولات قديمة جديدة للقضاء على حزب، كان ولا يزال يشكل القوة السياسية الأولى في البلاد، فما يشاع حول ما سمي بالصراعات على خلفية التحضيرات الجارية لعقد المؤتمر التاسع للحزب، قد يدخل في باب الخطأ في تفسير غضب بعض المناضلين أو حتى القياديين في الحزب العتيد، والنقاش الساخن الذي يطبع دوما التحضيرات للمواعيد السياسية والحزبية الكبيرة يجعل من يجهل طبيعة الجبهة ينغمس في أطروحة الصراع قبل أن يكتشف بمجرد تجاوز المواعيد السياسية المذكورة بان الحزب قد حافظ على وحدته ولم يتفتت كما اعتقد أو تمنى البعض، لكن يبدو من جهة أخرى أن إثارة مسألة إحالة الأفلان على المتحف ليست مجرد سوء فهم أو تقدير للموقف، فالذين يروجون لهذه الأطروحة التي تعود إلى عقود كثيرة مضت يحلمون دوما بطي صفحة الحزب العتيد لكن صناعة السياسة وصناعة التاريخ لا تخضع لأهواء وأمزجة الفاشلين في المعارك السياسية، ولعل من بين البراهين الدامغة على أن حركة ما سمي بأوفياء جبهة التحرير قد ولدت ساكنة حتى لا نقول ميتة إعلان الأمين العام السابق للأفلان عبد الحميد مهري، حينها، براءته من هذا التنظيم المزعوم مؤكدا بأنه يقف بعيدا عن هذا الطرح الذي يغذي الصراعات والخصومات الشخصية. فالفراغ السياسي، أو بالأحرى العطالة السياسية، التي نالت من العديد من الأحزاب والشخصيات السياسية، جعلت البعض يحول حزب جبهة التحرير الوطني إلى قضية يتلهى بها بشكل يومي متواصل، واللافت للانتباه أن من يتحركون على محور التحامل على الحزب العتيد هم في الغالب عبارة عن "سياسيين متقاعدين"، أو بالأحرى شخصيات أحيلت على البطالة السياسية أو أقصيت من المضمار السياسي لأسباب مختلفة، فاستغلت التحضيرات الجارية لعقد المؤتمر التاسع للأفلان للعودة إلى الواجهة من خلال محاولة الاستثمار في غضب بعض المناضلين الذين لم يجدوا ضالتهم في الاستحقاقات الانتخابية الماضية، أو أولائك الذي تم إقصاؤهم من القيادة على المستوى الوطني أو المحلي، فالحديث عن الصراعات داخل الحزب العتيد ليس بالأمر الجديد ولكن الجديد ربما، رغم قدم الطرح، هو أن يتم الربط بين هذه الصراعات المزعومة وما يسمى بالمبادرة من أجل استرجاع الأفلان. نتذكر جيدا الحركة التي تزعمها السيناتور السابق جمال الدين حبيبي وبعض الوجوه السياسية الأخرى، والحقيقة أن المطالبة بوضع الحزب العتيد في المتحف ليست جديدة وقد عرفت رواجا كبيرا سنة 89 بعد أحداث الخامس من أكتوبر وانتقال البلاد من الأحادية إلى عهد التعددية السياسية، إلا أن إعادة طرحها تثير شبهات أخرى خاصة وأن البعض حاول منذ أشهر قليلة الربط بين هذه التحركات وما سمي بسعي شقيق الرئيس السعيد إلى تشكيل حزب سياسي جديد على طريقة الأرندي في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وهو ما دفع حينها البعض إلى القول باحتمال أن يكون حبيبي قد تطوع لأداء مهمة تحضير الأرضية لميلاد هذا الحزب المزعوم، أو أن مهمته تقتصر فقط في محاولة هدم الجبهة وإجبارها على العودة إلى مرحلة ما قبل 2004، أو ربما إحالتها عنوة إلى المتحف وإقصائها من الحياة السياسية؟ السيناتور السابق جمال الدين حبيبي قال كلاما عن الأفلان لم نسمعه حتى لدى ألد خصوم الجبهة، ووصف الحزب العتيد بأنه مجرد »جثة لم تجد من يدفنها« وادعائه بأنه أضحى مرتعا للحركى والخونة، هو مجرد محاولة هدفها ضرب الأفلان في مرجعيته التاريخية والتشكيك في شرعيته الثورية، وتبرير أطروحة »المتحف«. لقد أفل نجم أصحاب مبادرة باسترجاع الأفلان، وتأكد الجميع بان الهدف الحقيقي للشخصيات بالتي كانت تحرك هذا المطلب ليس » حماية سمعة الجبهة« كما كانت تدعي وإنما تصفية حسابات شخصية مع القيادة الحالية للأفلان، أو ربما السعي إلى تحقيق أهداف اكبر، حتى أن البعض لم يستبعد أن تكون مبادرة جماعة حبيبي مجرد سيناريو كان يستهدف الرئيس بوتفليقة شخصيا. الجبهة والمؤامرات.. واجه حزب جبهة التحرير الوطني سلسلة طويلة من المؤامرات التي حاول أصحابها إزاحته من الحياة السياسية تحت عناوين مختلفة، فأحداث أكتوبر 1988 التي قدمت رسميا على أنها مجرد أحداث شغب انطلقت بشكل عفوي أو دبرها بعض معارضي النظام، لم تكن بشهادة الكثير من المتتبعين إلا مؤامرة من الوزن الثقيل كان هدفها التضحية بحزب جبهة التحرير الوطني لإيجاد مبررات الانتقال من الحزب الواحد إلى النظام التعددي والديمقراطي، ومن دون الدخول في تفاصيل الصراعات التي كانت موجودة أنذالك بين من كانوا يسمون بالمحافظين داخل الجبهة والسلطة وخاصة الرئاسة آنذاك، تجدر الإشارة إلى أن هذه الأحداث التي نقلت الجزائر إلى مرحلة التعددية السياسية فتحت مجالات جديدة أمام المنافسة السياسية، ورغم أن الساحة السياسية كانت تعج بالأحزاب من اليمين إلى اليسار، مع هذا بقي الحزب العتيد وفيا لخطه، وعاد إلى أحضان المجتمع الذي احتضنه في اشد وأخطر المراحل السياسية التي مرت بها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، ورغم اندلاع مسلسل العنف الإرهابي وفبركة حزب جديد للسلطة يسمى الأرندي لم ينته الأفلان بل كبر في أوساط الشعب ونال شرعية ديمقراطية لا جدال فيها، شرعية ظهرت جليا للعيان في تشريعيات ومحليات 97، رغم التزوير الواسع والممنهج الذي شهدته العملية الانتخابية آنذاك، وواصل الحزب العتيد انتصاراته السياسية في كل المواعيد الانتخابية فيما بعد ليسترجع مكانته عن جدارة واستحقاق كأكبر حزب سياسي في البلاد. وما من شك أن ما حصل من تشتت وانقسامات غير مسبوقة قبيل رئاسيات 2004 ونجاح قيادة الجبهة في إعادة اللحمة إلى الحزب خلال المؤتمر الجامع للحزب هو دليل أخر يضاف إلى الكثير من الأدلة والحجج بان الأفلان هو حزب له مقومات البقاء والصمود في وجه أعتى الأزمات، وبالنتيجة فإن الذين لا يزالوا يراهنون على العودة به إلى مربع البداية أي الصراع والانقسام هم بالتأكيد واهمون وسوف يواجهون الفشل ذاته الذي مني به أصحاب المتحف وأصحاب مؤامرة أكتوبر. منابع القوة..وأسباب فشل الخصوم.. لم يكن صمود الأفلان في وجه خصومه، ولم تكن المناعة السياسية التي اكتسبها في التصدي للأزمات ورفع التحديات والوقوف في وجه المؤامرات مسألة عفوية أو اعتباطية مبنية على فراغ، فهناك أسباب وعوامل كثيرة صنعت قوة بالجبهة ومكنته من البقاء في الساحبة السياسية وجعلته يستعيد مواقعه السياسية رغم ما أحيك ضده من بدسائس كما رأينا سابقا. جبهة التحرير في الذاكرة الجماعية للجزائريين ليس مجرد حزب عادي شبيه بباقي التشكيلات السياسية التي تعج بها الجزائر، والتي تتداخل أسماؤها وتتشابه أحيانا حتى في برامجها ومرجعياتها السياسية والايديولوجية، فهي رمز من رموز الماضي المشرف لهذا الوطن، قادت معركة التحرير الوطني وحققت نصرا كبيرا على الاستعمار، وقادت البلاد في مرحلة صعبة بعد الحصول على الاستقلال والحرية. ولا احد بإمكانه أن ينكر بوزن هذه القيمة التاريخية في قلوب وعقول السواد الأعظم من الجزائريين ثم إن الجبهة تعتبر ذلك الإطار الذي انصهرت فيه كل الاختلافات السياسية والإيديولوجية للشعب الجزائري. وتعتبر الشرعية الثورية أو التاريخية احد أهم الأعمدة التي يرتكز عليها حزب جبهة، وما من شك أن جزءا هاما من سر الالتفاف الشعبي حول الجبهة يكمن في هذه النقطة بالذات، وإن كان ذلك لا ينقص بطبيعة الحال من قيمة الجبهة كحزب حمل برنامجا كبيرا وطموحا على جميع الأصعدة وحقق انجازات لا ينكرها أحد، سواء في مرحلة الأحادية أو مرحلة التعددية، فانتقال الشرعية باعتبارها ركيزة أساسية بالنسبة لأي منتظم سياسي من التاريخ أو الثورة إلى شرعية الصندوق أو الشرعية الشعبية أو ما يسمى بالشرعية الديمقراطية لم يجعل الأفلان يتنازل عن موقعه باعتباره القوة السياسية الأولى على الساحة الوطنية، وباعتباره حامل لبرنامج سياسي واجتماعي واقتصادي طموح أهله دوما للعب دور حامي استقرار وانسجام الشعب الجزائري بعيدا عن التطرفات السياسية والإيديولوجية التي كادت أن تعصف بالبلاد خلال »الفوضى التعددية« التي برزت في نهاية وبداية تسعينيات القرن الماضي. هناك سر آخر يفسر قوة الجبهة، فالحزب الذي كان يتهمه خصومه بالفكر الأحادي، شكل مثال للممارسة الديمقراطية الداخلية، وفضلا عن النقاش الحاد الذي يشهده داخل هياكله النظامية، سواء خلال المناسبات السياسية الكبرى كالمؤتمر أو في باقي الأيام، أعطى الأفلان أحسن دليل عن التناوب على القيادة، وتغيير قيادة الحزب، في وقت تحولت فيه جل الأحزاب السياسية الأخرى المتواجدة في التحالف أو المعارضة إلى إمبراطوريات صغيرة تحكمها شخصيات قضى البعض منهم عقود على رأس الحزب.