فتحت تصريحات أمين عام حزب جبهة التحرير الوطني، عمار سعداني، حول دور مديرية الاستعلامات والأمن »جهاز المخابرات« في الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد، ومرافعته لتأسيس »دولة مدنية«، الأبواب على مصراعيها لنقاش لم تشهده البلاد قط في السابق، وتسببت في جدل محموم وردود فعل أحيانا مجنونة من أطراف مختلفة تباينت وجهات نظرها أحيان في قراءة التصريحات وتحليل مضمونها وإدراك أهدافها. لقد بدت هذه المواقف متفقة حول تأثيرات هذه التصريحات إلى درجة الحديث عن كوارث قد تصيب البلاد بفعل ما اسماه البعض باستهداف إحدى المؤسسات التابعة للجيش الوطني الشعبي والتي كان لها ولا يزال دور، قد نختلف حول نتائجه، إلا أنه مهم في لضمان أمن واستقرار البلاد خصوصا خلال العقدين الأخيرين. المشكل قد يكمن في ربط تصريحات عمار سعداني بالرئاسيات المقبلة، ويكمن في أطروحات الاصطفاف وتقسيم السلطة إلى عصبتين، واحدة مع تمكين الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من الترشح لعهدة رئاسية رابعة، أو على الأقل السماح لبوتفليقة وأنصاره داخل النظام من اختيار خلفية له من محيطه المقرب، وأخرى ضد هذا التمديد ترى ربما أن الرئاسيات المقبلة يجب أن تقترح تغير معين يقبله الجزائريون يوحي وكأن البلد انتقل فعلا إلى نظام حكم جديد أو ما يسميه البعض بالجمهورية الثانية التي أجهضت بعد اكتو بر ,88 مع أن هذا الانتقال إذا كان يستوجب دم وروح جديدة تفتح الباب أم شخصيات أخرى قد تصنع مستقبل الجزائر وتواصل عملية إعادة البناء وبنفس القوة والإرادة، فإنه يستوجب أيضا التخلص من الإرث القديم أو تجاوزه من دون نكران ما بذله الرجال وما أنجزته المؤسسات على درب الانتقال الديمقراطي وتجنيب البلد السقوط في الفوضى بعد سنوات من المواجهة الضارية مع إرهاب شرس قل مثيله في التاريخ. لن نخوض في مسألة تشخيص الصراع وخلفيات ذلك، ونركز فقط على قضية في غاية الأهمية تتعلق بأطروحات طالما رافقت كل النقاشات السياسية في الجزائر منذ دخول معترك الديمقراطية والتعددية، ونقصد بذلك مسألة تدخل العسكر في السياسية، والدور الذي تقوم به المؤسسة العسكرية في الجزائر والذي أصبح ظاهرا وأحيانا مبالغ فيه خصوصا بعد توقيف المسار الانتخابي في جانفي من سنة .92 علاقة السياسي بالعسكري في الجزائر بسابقة لتأسيس الدولة الجزائرية، وقد برزت هذه الإشكالية بشكل واضح وصريح في مؤتمر الصومام سنة ,1956 وطرح على الشكل التالي: »أولية الداخل على الخارج وأولوية السياسي على العسكري«، وهي أول محاولة للبحث عن توازن حقيقي يسمح بإعطاء أولوية للعمل السياسي فيما يتعلق بالمجهود الدبلوماسي الذي كان يبذل بالتوازي مع العمل العسكري الداخلي، وبعد الاستقلال برزت الشرعية التاريخية والشرعية الثورية التي لم تترك مجالا لإعادة صياغة على هذه الإشكالية على اعتبار أن شرعية السلاح غلبت شرعية الكلمة وشرعية العمل السياسي والدبلوماسي، وهذا الأمر كان طبيعي لاعتبارات كثيرة معروفة، فالثورة الجزائرية كانت عسكرية بالدرجة الأولى، وقوتها التي قهرت المحتل الفرنسي في الجبال والأودية وحتى الصحراء هي التي انتزعت الاستقلال والسيادة من فرنسا، وهذه الحقيقة شكلت قاعدة بالنسبة للدولة الجزائرية الفتية حيث كانت المؤسسة العسكرية ممثلة وبشكل علني ورسمي في الأجهزة القيادية للحزب الواحد، ودور العسكر في الحياة السياسية لم يكن يخفى على أحد، بل لم يكن أحد يتحرج منه لأنه كان يعبر عن طبيعة نظام ثوري يمثل دولة فتية انتزعت استقلالها بعد تضحيات جسام قل مثيلها في العالم وفي تاريخ البشرية جمعاء. إشكالية تدخل العسكري في صناعة القرار السياسي في البلاد لم تكن وليدة تصريحات أمين عام الأفلان الأخيرة، فهذه الإشكالية تعاطت معها المعارضة منذ عقود، وطرحت بشكل واضح وصريح خصوصا خلال السنوات الأخيرة ضمن نظرة قائمة على فكرة التغيير وتأسيس دولة مدنية حقيقية، صحيح أن طرح الدولة المدنية كان يقابل دوما طرح الدولة الدينية، لكنه يعني أيضا تغليب دور المدني على العسكري وإعادة العسكر إلى الثكنة وحصر دور المؤسسة العسكرية في تلك المهام التي ضبطها الدستور بدقة والتي تتمحور أساسا حول الدفاع عن حدود البلد وصون وحدته واستقلاله. تصريحات عمار سعداني أخافت البعض ربما انطلاقا من الاعتقاد السائد بأن استهداف جهاز المخابرات أو رأس هذا الجهاز قد يدخل البلاد في صراع خطير بين مؤسسات الدولة، وقد يعطي، حسب البعض طبعا، الفرصة للخارج، وخصوصا لبعض الدوائر الفرنسية لابتزاز الجزائر وإعادة فتح بعض الملفات المرتبطة بالعشرية السوداء، عشرية الإرهاب، خصوا ما تعلق ببعض الملفات الحساسة على غرار ملف قضية تبحرين التي استعملت من قبل الفرنسيين كورقة ضغط كثيرا ما كانت تشهرها باريس في وجه السلطة في الجزائر كلما اعترضتها عوارض أو احتاجت إليها لتحقيق أهدافها المختلفة، ناهيك عن الأطروحة الشهيرة »من يقتل من« التي وظفتها دوائر فرنسية أيضا للتشكيك في جرائكم الإرهاب خلال مرحلة التسعينيات، في مسعى معروف لإلصاق تهمة المجازر ضد المدنيين التي ارتكبت بشكل خاص منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي إلى سنة ,2000 وهذا باستعمال بعض الضباط الفارين على غرار سوايدية وسمراوي..الخ وربما ما يفسر الجدل الذي أحيط بتصريحات أمين عام الأفلان هو ربطها بشكل مباشر بالانتخابات الرئاسية المقررة في 17 أفريل القادم، وقول البعض أن عمار سعداني عبر عن صراع عصب داخل النظام، وأنه تحدث باسم ما يسميه البعض بجناح بوتفليقة في النظام، ويجب أخذ هذا الطرح بالكثير من الحذر على اعتبار أن تصريحات سعداني انتقدت حتى من قبل أشد المناصرين للعهدة الرابعة على غرار عمارة بن يونس ورئيس حزب تاج عمار غول، وهما وزيران في حكومة عبد المالك سلال، ناهيك عن شخصيات أخرى كثيرة قرأت التصريحات كما قرءها الكثير من المراقبين بأنها هجوم مفتوح على جهاز المخابرات، يمكن أن يؤدي إلى أزمة حقيقية داخل النظام ويفضي إلى نتائج قد لا يقدر على التحكم فيها لا الرئيس بوتفليقة ولا العسكر، حتى أن رئيسة حزب العمال لويزة حنون قالت بأن الجزائر تمر بأزمة سياسية أخطر من تلك التي وقعت فيها في صيف ,62 مباشرة بعد الاستقلال. لكن وبغض النظر عما قاله أمين عام الأفلان، وعن خلفيات تصريحاته المثيرة للجدل، وصل النقاش حول العهدة الرابعة مستوى لم يبلغه قط من قبل، والسبب أن ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية رابعة أصبح شبه مؤكدا بعد التصريحات المتتالية لأنصاره، وبعد إعلان ما يزيد على 24 حزبا سياسيا تأييدها لترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لفترة رئاسية جديدة، حتى وإن رأى البعض بأن الأمر لم يحسم بعد ما لم يعلن بوتفليقة شخصيا ترشحه للرئاسيات. لقد أعلنت حركة النهضة الإسلامية عن مقاطعتها للانتخابات الرئاسية المقبلة، لتتضح بذلك الصورة أكثر فأكثر خاصة وأن هذا الموقف جاء بعد إعلان حركة مجتمع السلم عن رفضها دخول المعترك الرئاسي، وقد بدا جليا ولأول مرة أن الرئاسيات ستجري من دون هذا التيار الذي تعتبر مقاطعته عن حالة الإحباط التي أصيب بها بعد الانتكاسات المتتالية لتجارب دول »الربيع العربي«، خصوصا بعد سحب البساط من تحت أرجل الإخوان في مصر، وإعلان فشل حكومة النهضة في تونس. اللافت أن وسط هذا الجدل المحموم حول تصريحات أمين عام الأفلان، والنقاش المتواصل حول شروع أنصار الرئيس بوتفليقة في حشد القواعد استعدادا لخوض غمار عهدة رئاسية رابعة، اندلعت أحداث غرداية مجددا ليلة الثلاثاء المنصرم، ونسفت المواجهات الجديدة الهدوء الذي تحقق خلال الأيام الأخيرة بشق الأنفس، وسقطت ضحية ثانية ليرتفع عدد ضحايا أحداث غرداية إلى أربعة، فضلا عن سقوط أكثر من 100 جريح، بينهم عناصر من الشرطة، وقد حملت الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان السلطات السياسية والأمنية مسؤولية تصاعد أعمال العنف والمواجهات وقال بيان للرابطة إن »السلطات السياسية والأمنية في الجزائر مسؤولة بشكل كامل على تعفن الوضع والانزلاقات الخطيرة التي تشهدها مدينة غرداية«.