لم يعد القلق الذي يصيب المريض من آلامه بدرجة القلق والخوف الذي يحدث له جراء ذهابه إلى طبيب لعلاج حالته، هذا يعود لكثرة ما يسمع من قضايا وشكاوى تتداول في المحاكم بسبب الأخطاء الطبية التي تتسبب أحيانا في عاهات مستديمة تقلب حياة المريض رأسا على عقب. عند سماعنا لبعض القصص المتعلقة بالمرضى ضحايا الأخطاء الطبية ظننا للوهلة الأولى أنها من نسج الخيال ولا تمت للواقع بأي صلة لذا ارتأت »صوت الأحرار« الغوص في الموضوع وسماع تلك الحقائق من مصادر موثوقة، أي المرضى أنفسهم ومكاتب المحاماة، لكي تتشكل لدينا أجوبة لأسئلة كثيرة منها، ما الأخطاء الطبية؟ وكيف ولماذا تحدث؟ ومن المسؤول عنها بالدرجة الأولى؟ وكيف يتم تصنيفها في القانون؟ وما عقوبة مرتكبها؟ٌ. مرضى من المستشفى إلى أروقة المحاكم سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة عبر عرض حالات لمرضى بعد خروجهم من المستشفى أصبحوا يترددون ملزمين ومجبرين إلى أورقة المحاكم ومكاتب المحاماة بحثا عن تعويض أو حل لمشكلاتهم الصحية. مازالت قضية الطفلة الضحية التي فتحت عينيها على إعاقة مستديمة بعد ولادتها قبل الأوان بثلاثة أشهر تتداول في المحاكم وذلك بسبب إهمال طبي كلفها حياة مليئة بالمعاناة ورحلة عذاب في المراكز الطبية ومكاتب المحاماة. ولدت الطفلة »س. م« قبل الأوان في إحدى المصحات الخاصة وضعت في حضانة وتم إعطاؤها وصفة حسب الطبيب المشرف على حالتها مجموعة محاليل طبية عبر الوريد، لكن حسب التقارير الطبية ونتائج التحقيق التي باشرتها الجهات المسؤولة، تبين أن الممرضة أخطأت في كيفية إعطائها جرعات الدواء عبر الوريد فانسدت شرايين الذراع لديها ما تسبب لها باحتقان في الأوردة، ومضاعفات أخرى أدت إلى بتر ذراعها بالكامل وهي لا تتجاوز الشهرين من عمرها، اعتبرت هذه الحالة قانونيا كتسبب في المساس بسلامة جسم المجني عليها، نتيجة الإخلال بما تفرضه أصول المهنة من قبل الطاقم الطبي. قصة أخرى لا تخلو من الغرابة كانت الضحية فيها أم لم تفرح بمولودها الجديد ولا بحياتها، فبعد أن اتجهت السيدة »ك. ب« إلى إحدى المستشفيات وهي تعاني من آلام المخاض، لم يكن زوجها يتوقع في ذلك اليوم انه سيودع زوجته وطفلته، دخلت الضحية إلى غرفة العمليات لكي تجري لها عملية قيصرية، لم تخرج لا هي ولا مولودها حيث توفيت هي وطفلتها خلال العملية بخطأ طبي في التخدير وحينها توجه الزوج للشكوى لدى الجهات المعنية ورفض المستشفى منحه التقرير الطبي الخاص بالضحيتين إلا بعد تدخل وكيل الجمهورية وفتح تقريرا كبيرا ومعمقا حول ملابسات القضية. قصة أخرى أغرب من كل القصص، عائلة كل الإخوة بها أطباء، أحدهم مختص في التحذير، الآخر في البطن والجراحة، والآخر في الأعصاب، مرض أخوهم الأكبر فاستشاروا زميل لهم مختص في أمراض القلب، نصحهم بإدخاله المستشفى ومصلحة القلب بعدما فحصه، والكل كان يعلم بأن حالته ليست بالخطيرة وإنما وعكة صحية عابرة، فتم إدخاله في المساء وفي الليل زاروه وجدوا صحته في طور التحسن، ولما عاد في الصباح وجدوه قد توفي، ولما أرادوا الاستفسار لم يجبهم أحد، حسبهم قد أجريت له عملية جراحية دون علمهم أو طلب الاستئذان منهم ولا من أخيهم الذي كانوا قد تركوه في صحة لا بأس بها وكان من المفروض أن يخرج في الغد وبالرغم من إلحاحهم على معرفة السبب لم يسمع لهم أحد ولم يعيروهم أدنى اهتمام، حتى تدخلت وزارة الصحة بعد مراسلتهم لها وأوفدت لجنة للتحقيق وتم استقبالهم بمقر الوزارة إلا أن القضية لم تعرف نتيجتها حتى الآن. أما السيدة »ن ب«، فدخلت إحدى المستشفيات لإجراء عملية جراحية في البطن، فتم ترك أنبوب بلاستيكي بجسمها مما تسبب لها في آلام شديدة في بطنها وبعد ثلاثة أشهر اشتد عليها الألم كثيرا فذهبت عند أحد الأطباء الخواص الذي اكتشف الأنبوب بداخل جسمها من خلال الأشعة المصورة فأجريت لها عملية لنزع الأنبوب الذي يفوق 10سم وهو بحوزتنا الآن. وعن سؤال وجهناه للإخوة الأطباء والسيدة »ن.ب« حول عدم لجوئهم للقضاء ورفع دعوى قضائية حول ما جرى لهم أجابنا الإخوة الأطباء، »أننا لا نبحث عن تعويض أو مقاضاة الطبيب وإنما كل ما نريده هو وقف مثل هذه المهازل واللامبالاة وعدم الإهتمام بالمريض وتركه بين أيدي أطباء غير أكفاء للتجربة العلمية واكتساب الخبرة«. أما السيدة »ن.ب« فقالت حسبي الله ونعم الوكيل في الطبيب الذي أجرى لي العملية ما فائدة المال مقابل صحتي أخبرته فقط عن أخطائه كي لا يعيد الكرة مع مريض آخر وينتبه أكثر لعمله ومريضه. الخطأ الطبي ناجم عن جهل الطبيب لمهنته أم..؟ ولكن هذه الأسباب سنحاول أولا معرفة معنى الخطأ الطبي من الناحيتين الطبية والقانونية، توجهنا للدكتور ر.ع بلقاسم مختص في مثل هذه القضايا الذي أوضح لنا بعض النقاط في الموضوع قائلا: أولا علينا أن نفرق بين الخطأ الطبي والمضاعفات الطبية، فالأول ناتج عن سوء استخدام أدوات العلاج أو طرق العلاج كالفحص وتشخيص المرض مثلا وذلك راجع إلى جهل الطبيب لمهنته وهنا يصبح المريض ضحية خطأ طبي مركب، أي أنه في البداية أتى للعلاج من مرض بعدها أصبح يبحث عن علاج للخطأ الذي عولج به من قبل مرضه وهنا تكمن المشكلة إذ نجد أمامنا شخصا يعاني مرضا تراكميا يصعب علاجه، أما المضاعفات الطبية فهي موجودة سواء على مستوى العلاج أو حتى على مستوى تعاطي الأدوية، فكل عملية جراحية مثلا لها مضاعفاتها، وكل دواء له أيضا أثاره الجانبية وفيما يخص أخلاقيات المهنة يقول محدثنا، يكون الخطأ الطبي خاصة إذا ما نتج عن إهمال طبي دوما مقترنا بأخلاقيات المهنة التي يجب أن تحترم من قبل الطبيب المعالج، الذي عليه من البداية أن يشخص المرض بشكل دقيق، وإن شك في بعض نقاط التشخيص عليه أن يستشير زملاءه وعليه أيضا أن يشرح للمريض حالته ونوعية المرض الذي يعاني منه وآثاره. وللأسف هناك أطباء ليس لديهم الإستعداد الكافي للقيام بذلك على الرغم من أن هذا بمثابة الحق المتبادل بين المريض والطبيب. وعن المسار الإداري الذي تمر به الشكاوى الطبية، يقول أنه هناك لجنة عليا متخصصة في المسؤولية الطبية التي تحول لها كل قضية وهي عبارة عن لجنة حيادية متكونة من مختصين تتبع القضاء وتلجأ إليها كافة المؤسسات الطبية لحل قضية ما وهنا أشير إلى دورها المهم في حماية حقوق المريض بالدرجة الأولى. ويختم محدثنا حديثه بتقديم بعض الإرشادات والنصائح للأطباء الذين عليهم بالدرجة الأولى التحلي بأخلاقيات المهنة، واعتماد الدقة والإستشارة لدى زملائهم الأكثر خبرة وعلى المريض أيضا أن يعرف ما يكفي عن مرضه وأن يطرح أسئلة على الطبيب وألا يكون الطرف الأضعف في عملية العلاج التي هي عملية تبادلية ومن المفروض أن تكون متوازنة بينه وبين الطبيب المعالج. من جهته يؤكد الدكتور»ج.تيجاني« الاختصاصي في علاج الأمراض الجلدية والتناسلية، صحة ما قاله زميله وأضاف، علينا أن نعرف جميعا سواء الطبيب أو المريض أن الخطأ الطبي يبدأ من الخطأ في العلاج، وعليه يجد كل من الطبيب والمريض نفسيهما أمام مشكلة صحية وقانونية، وهنا علينا الإعتراف بأن كل هذا صادر عن الإهمال الطبي من قبل الطبيب المعالج خاصة فيما يتعلق بالأمراض الخطيرة أو المعقدة التي غالبا ما تحتاج إلى أكثر من استشارة طبية لمناقشتها، والبحث عن علاج ناجح لها لكن للأسف ما نجده في معظم الحالات هو أن الطبيب يكتفي بتخمين المرض دون استشارة زملائه، فيحاول بذلك إعطاء المريض علاج تجريبي، وإذا كان العلاج خطأ فعليه أن يتحمل المسؤولية كاملة، وعن المصدر الأساسي للخطأ الطبي بعيدا عن الجهل وعدم الإستشارة من قبل الطبيب يوضح الدكتور تيجاني في حديثه إلينا نقطة مهمة قائلا، بعد الثورة التكنولوجية والعلمية ظهرت تخصصات طبية دقيقة في العالم، كما هو الحال في بلادنا، وعلى المريض أن يتجه إلى الطبيب المختص. مثال على ذلك توجد تخصصات دقيقة في طب العيون، لكن ليس كل طبيب عيون يستطيع أن يجري عملية زرع قرنيه. وفيما يتعلق بفقدان المريض ثقته بشكل شبه كلي في الطب بمستشفياتنا العامة والخاصة معا، الأخطاء الطبية واردة في أي دولة من العالم، وليست مقتصرة على بلادنا فقط في الدول المتقدمة إحصاءات مخيفة فيما يتعلق بالأخطاء الطبية وهنا يكمن دور الإعلام الذي يهول الأمور ويبت الخوف في قلب المريض وعلينا أن نعلم بأن وزارة الصحة تحفظ حقوق المريض وتعاقب كل من يرتكب خطأ طبي وفي الوقت نفسه تزرع التوعية المستمرة وتؤكد كفاءة الأطباء العاملين بمستشفيات الدولة. المسؤولية المهنية تنشأ عند الإخلال بأصول وقواعد المهنة وفي هذا الإطار تطرقنا إلى الشق القانوني لهذه القضية مع الأستاذ »ب.سليمان« مستشار قانوني ومحامي مختص في مثل هذه الأمور، أوضح لنا معنى الخطأ الطبي قانونا وما يترتب عليه من مسؤولية جنائية ومدنية على الطبيب وأيضا على المريض، فقال لكل مهنة واجبات وأخلاقيات، والمسؤولية المهنية تنشأ عند الإخلال بأصول وقواعد المهنة، وهنا على الطبيب أن يمارس مهنته بالحيطة والتبصر وأن يوفر العناية الكاملة للمريض. وبالحديث عن أنواع المسؤولية الطبية يؤكد في حديثه دائما ويقول، لم تعد مسؤولية الطبيب مقتصرة على علاج المريض فقط وإنما ظهرت إلتزامات على عاتق الطبيب، وعدم احترامها يؤدي به إلى تحمل المسؤولية المهنية والقانونية مثل إعطاء المريض المعلومات الكافية قبل العلاج وللمريض الحق في رفض هذا العلاج بكل أشكاله أو قبوله وهذه العلاقة ناتجة عن مفهوم وأصول المهنة، وبالتالي فإن عدم مراعاتها يؤدي إلى تقصير الطبيب. ويواصل الأستاذ سليمان كلامه بتحديد النقاط التالية: المسؤولية الطبية هي أيضا إلتزام الطبيب بالسر الطبي وبالعمل على سلامة المريض وذلك ببذل العناية اللازمة له والقيام بالتشخيص الدقيق، لكن الطبيب لا يضمن الشفاء وإنما يبذل كل ما بوسعه لتحقيق ذلك، وهذا ما يسمى »بذل عناية وليس تحقيق غاية«، وعن طبيعة المسؤولية الطبية الجنائية المتعلقة بالخطأ الطبي يشرح الأستاذ أنها تتحقق بتوافر الأركان التالية: خطأ طبيب أو إهماله، وقوع الضرر للمريض، والعلاقة السببية بين الخطأ والضرر الذي وقع على المريض، وعلى من وقع عليه الخطأ أن يثبت ذلك ومسؤولية الطبيب لا تقتصر عليه فقط وإنما تلحق بكل من الممرض أو المحلل أو طبيب التخدير، وتتحقق المسؤولية الطبية الجنائية مثلا إذا أدى خطأ الطبيب أو إهماله إلى وفاة أو إصابة المريض بعاهة أو إعاقة أو مرض آخر. وهنا مسؤولية أخرى يتعرض لها الطبيب إضافة إلى المسؤولية الجنائية أو المدنية أوالإثنتين معا، وهي المسؤولية التأديبية ذلك إذا خالف قواعد سلوك المهنة من حق الجهة التي ينضم إليها أن تعاقبه بعقوبة تأديبية وإضافة إلى مسؤولية الطبيب هناك ما يسمى بمسؤولية المتبوع عن تابعيه أي يمكن للمتضرر أن يقاضي الطبيب. إضافة إلى مقاضاة المؤسسة التي ينتمي إليها الطبيب وهناك إختصاصيين في الطب والقانون لديهم الكفاءة اللازمة لتحديد هل هناك خطأ طبي فعلا أم لا من قبل الطبيب وإذا ما كان الطبيب مخطئا والمدعي ليس على حق، وبعدم تقديم المريض الأدلة اللازمة لشكواه بحق للطبيب أن يرفع دعوى بالكذب والافتراء على المدعي، لأن هذه قضية جنائية تؤثر سلبا على سمعة الطبيب المعالج، كما أن القانون لا يحكم بناء على العلم الشخصي بحيثيات القضية وإنما بتوافر الأدلة والقرائن والشهود فالقانون يقوم على اليقين.