تقول الأخبار إن المفاوضات بين الكيان الصهيوني وسورية قد تستأنف خلال أيام عبر الوسيط التركي، لا يهم المكان استانبول أو سواها المهم هو الحدث وأبعاده ومناخه ومراميه. منذ بدايتها تبدو هذه الجولة عرجاء بل كسيحة، فنحن مع رئيس وزراء صهيوني فاسد أعوج وأعرج، لا يمكن تصديقه ولا يستطيع البت بشيء ولا إلزام غيره بشيء ، لأن قضية "مغلفات الدولارات" التي تحاصره، تجعله ساقطاً بنظر جمهوره وغير قادر على اتخاذ قرار أو تثبيت وعد، فكيف يتحمل مسؤولية مفاوضات جدية تقود إلى سلام بهذا الحجم، لأن معنى السلام مع سورية نهاية الممانعة وربما نهاية الصراع؟ وكيف يفي أولمرت بوعد إعادة الجولان كاملاً حتى الشاطئ الشمالي الشرقي لبحيرة طبرية وهو لا يستطيع أن يدير مكتبه الخاص؟ وكيف يلزم من بعده بما لم يلتزم به من جاء قبله، أعني "شارون ووديعة اسحق رابين"؟ وهل يفي أولمرت من خارج الحكومة والرئاسة بالتزامات قد يقطعها لسورية وهو غير قادر على تسويغ" قروض مغلفات" موشيه تلنسكي وقطع وعد بعدم العودة للفساد؟. في الكيان الصهيوني تملي ستيبي ليفني، رئيس الوزراء المحتمل بعد أولمرت، شروطاً على سورية بنبرة متعالية، مثل قطع الصلة بالمقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية.. إلخ وبإيران، وهناك يعلقون أهمية كبيرة على اضطرار سورية اقتصادياً إلى القبول بشيء من ذلك الذي يملونه، لأنها من وجهة نظرهم تحتاج لعلاقات أفضل مع الولاياتالمتحدة الأميركية والغرب ومفتاح ذلك " إسرائيل"، وسورية تحتاج إلى مساعدة في حل أزمتها الاقتصادية التي بدأت تلوح في الأفق بعد ارتفاع قيمة الدعم الحكومي للمواد استهلاكية إلى الحد الذي أصبح معه يرهق الموازنة العامة، وتراجع عائدات النفط، وغلاء الأسعار العالمي، وشكوى الجمهور السوري من ارتفاع الأسعار والضرائب وتوجسه خيفة من ضرائب مقبلة. وينسون أن سورية هي الدولة الوحيدة في المنطقة تقريباً التي حصّنت نفسها من ضغط الأزمات الاقتصادية الخانقة، مستفيدة من دروس مطلع الثمانينات من القرن الماضي، بتوفيرها المحاصيل الاستراتيجية الرئيسة لا سيما الحبوب والزيوت.. إلخ والمحافظة على نسبة مخزون منها يكفيها شر الخضوع لشروط مذلة تحت ضغوط من هذا النوع أو ذاك. أما رد سورية على قطع العلاقة بإيران فكان واضحاً وكافياً في زيارة وزير الدفاع السوري إلى إيران على رأس وفد كبير وتعزيز العلاقات الاستراتيجية وتوقيع اتفاقيات جديدة في موقف واضح ورد صريح على التلميحات والتصريحات التي دلقها الأميركيون على لسان وزيرة الخارجية تسيبي ليفني. إن استئناف المفاوضات بين الطرفين هو مصلحة أو لعبة " إسرائيلية" أولاً في هذا الوقت بالذات.. تسمح بها من الولاياتالمتحدة الأميركية التي لا ترغب فيها ولكنها تكمن في زاوية من زوايا طريقها لترتب شيئاً لا يؤذي حليفها الإسرائيلي بمقدار ما يرمي إلى ابتزاز سورية. وسورية التي ألحت منذ سنوات على تمسكها بمسار المفاوضات السلمية لاستعادة الجولان، وأكدت أنها ترغب في ذلك سلماً وإلا اضطرت إلى المقاومة طريقاً لاستعادة هذا الجزء العزيز من أرض الوطن، لا يمكن أن ترفض تفاوضاً تدعو إليه، ولا تستطيع أن تتحكم بتوقيت إعلان قادة الكيان الصهيوني عن استعداهم المبدئي الذي أعلنوه بالانسحاب من الجولان.. كل الجولان بنتيجة المفاوضات لتقبل سورية عليها. هل كان هذا مخرجاً لأولمرت من أزمة داخلية يعاني منها؟ هل هو مجرد لعبة سياسية ذات أهداف مركبة داخلية وخارجية في كيان العدو المأزوم، أم أنه زفير مختنق يريد أن يفرج عما في صدره من أكسيد الكربون ليستعيد التنفس ولو بصعوبة ليكسب وقتاً في مرحلة انتقالية؟ المفاوضات العقيمة قد تطول وتطول، وقد تنتهي إلى لا شيء أبداً، وقد يصل العقل الصهيوني إلى استنتاجات يراها في صالحه فيوافق على الانسحاب الكلي من الجولان ليكسب اعترافاً به من دمشق هو اعتراف عربي شامل بالنتيجة، وتطبيعاً للعلاقات معها يعزز التطبيع الرسمي المعلن والخفي مع دول عربية، ويشكل دفعاً لمسارات الاعتراف والتطبيع مع الكيان الصهيوني إسلامياً، ويأتي في وقت يحتاج فيه العدو إلى حاضنة أمان و" تفهم" وموافقة صامتة وهو يخطط لاقتحام معاقل المقاومة ويستعد لاجتياح غزة، ويحاول أن يضعضع وقفة المقاومين الشرفاء بزعزعة حواضنهم في دول الممانعة ومن ثم في الأوساط الجماهيرية العربية التي يستندون إلى دعمها. المؤكد، من وجهة نظري، أن سورية لن تطرد المقاومة ولن تتخلى عنها لأنها تعرف شرعيتها وقيمتها وضرورتها من جهة، ولأنها تلتزم بثوابتها ومبدئيتها وتؤمن بحق الشعب الفلسطيني بوطنه وبحقه في العودة إلى ذلك الوطن، وأن المقاومة مدخل العودة والتحرير وحماية الحق.. ولذلك فوضع المقاومة الفلسطينية من هذه الناحية محمي ومطمئن.. وحتى إذا استدعى الأمر تحرك مكتب سياسي لفصيل من فصائل المقاومة من الشمس إلى الظل أو من هذا الموقع العربي إلى ذاك، فإن سورية ستبقى على موقفها الإيجابي والمبدئي من دعم المقاومة، وستبقى المقاومة فاعلة لأنها تُدار من الداخل وتعمل في الداخل ولن يستطيع أحد زعزعة حواضنها الشعبية العربية التي تضغط باستمرار ليبقى الموقف الرسمي العربي من المقاومة ضد الاحتلال وضد الكيان الصهيوني المحتل ايجابياً.. وينسحب هذا على المقاومة العراقية واللبنانية وقلبها حزب الله، لأن رؤية الشعب العربي استراتيجية في هذا المجال.. وسورية رسمياً لا يمكن أن تقف ضد إرادة الشعب العربي ورغباته وتوجهاته. سورية إذن هي الموقع الأخير الذي إذا اخترقه " سلام العدو" كسب سلام العرب.. وهي على هذا النحو أو ذاك بيضة قبان في هذا الموقع وهذا الوقت، وتدرك معاني وأبعاد "السلام" الصهيوني معها. إذن على العدو الصهيوني الذي يضع جدول أعمال ويحدد مطالب ويرفع صوتاً هنا وصوتاً هناك، أن يدرك ويفهم أن المطالب التي سربها عشية التفاوض الأولي غير المباشر بين ممثلين له وممثلين عن سورية في استانبول مرفوضة تماماً وسوف تؤدي إلى عكس ما يتطلع إليه، وأنه حين ينسحب من الجولان السوري المحتل لا يقدم تنازلات بل ينصاع للمنطق، وأنه لن يتملص من التعويضات التي تستحق لسورية عن استغلاله للجولان وطرده لسكانه طوال العقود الماضية، وأنه أولاً وأخيراً لن يكسب الشعب العربي في سوري ولن يطبع علاقات معه، ولن تفتح له بوابات دمشق السبع.. فقلب الشعب سيبقى مغلقاً حيال العنصرية والنازية الجديدة والصهيونية البشعة وإرهاب الدولة الذي يبيد الفلسطينيين ويتسبب في تشريدهم ومعاناتهم طوال كل هذه العقود الملمة من الزمن.. وهذا الحال لن يقرب تطبيعاً شعبياً على المستوى الشعبي العربي حتى لو قرب تطبيعاً رسمياً، فلكل اعتباراته ومعطياته في هذه الظروف العربية. قد يقول قائل: انطلاقاً من هذا المنطق المستعصم بالرفض والحق التاريخي وعروبة فلسطين.. ما معنى المفاوضات، وما معنى السلام، ولماذا تنسحب "إسرائيل" من الجولان إذا لم تحصل على اعتراف وتطبيع وسلام، وجولات سياحية لليهود في دمشق وحُمّص من مطاعمها..؟ إنها ليست غبية إلى هذا الحد.. ونقول بكل الوضوح: نعم، ندرك ذلك.. ونريد الجولان وكل الأرض المحتلة والسلام والأمن ولكن ليس بهذا الثمن. ولمن يهمه أن يعرف جوهر الأمور في العمق وأن يسمع من العرب وغير العرب، نقول: لا نرى أية إمكانية للتعايش مع الكيان الصهيوني بوصفه دولة قامت على الإرهاب والاغتصاب وتستمر بقوة العدوان والحصار والمعتقلات والتصفيات وقتل الأطفال والاستيطان وقهر الشعب الفلسطيني وتنفيذ مسلسل إبادة ضده، وتهدد الأمة العربية بمشروعها المضاد لكل مشروع نهضوي عربي.. لا نرى سلاماً مع عدو تاريخي للسلام والإسلام منذ يوشع بن نون حتى شارون في سباته الأبدي وأولمرت ومن بعده.. لا يمكن أن يُقبل هذا الكيان العنصري البغيض دولة معترفاً بها في أرضنا العربية على حساب شعبنا ومستقبلنا.. شعبنا يرفض ذلك وسنعمل على أن يرفض ذلك بكل ما أوتينا من قوة، نحن الآن نتوجه إلى الحاضر والمستقبل، وسوف نتوجه إلى الأجيال القادمة بخطابنا الذي يحمل رائحة دمنا ودمعنا ومعاناتنا ووصايا شهدائنا في كل وقت على طريق قضية فلسطين وفي صراعنا مع العنصرية الصهيونية: " ارفضوا الكيان الصهيوني ومن لا يرفضه". إن الطريق السليمة للسلام والاستقرار في هذه المنطقة، بتنازل كبير وتضحية: قيام دولة فلسطين التي تبسط سيادتها على كل فلسطين، دولة لكل مواطنيها، وتحفظ من يريد أن يعيش فيها بأمن واطمئنان، دولة عربية في فلسطين لكل فلسطين، ومن يريد العيش من اليهود في ظلها فله الحق والأمن والأمان، كما كان عهده في ظل دول العرب والمسلمين على مدى تاريخهم الحافل بالتسامح، ومن يريد من اليهود العودة إلى بلد عربي كان يعيش فيه فليعد إليه، عودة مقابل عودة، يعود الفلسطيني إلى وطنه التاريخي ويعود اليهودي إلى المكان الذي كان يعيش فيه مع العرب والمسلمين في وطن العرب والمسلمين غير ملاحق بجرائمه التي ارتكبها.. والطريق يمكن أن تكون مفتوحة، أو ينبغي أن تكون مفتوحة، ليعش اليهودي الذي كان يعيش في أي مكان من الوطن العربي في المكان الذي يرغب في أن يعيش فيه ويعود إليه إذا كان يرغب في العودةٍ إليه.. عودة فلسطين لأهلها وعودة في مقابل عودة.. وإلا فصراع إلى أن ينتصر الحق. أمّا القلعة الصهيوني الصليبية المتقدمة " إسرائيل"، واليهود الخزر، ويهود الاستعمار الغربي الجديد المتجدد الذين ما زالوا يحملون جنسيات البلدان التي أتوا منها فعليهم أن ينقضوا معمارهم ويعلنوا عن إفلاس أحلامهم ومشاريعهم الاستعمارية، وأن يعودوا من حيث جاؤوا ويتعلموا كيف يندمجون في المجتمعات التي يعيشون فيها وليس داخل " غيتوات" تأبى الاندماج وتنمي الكراهية والحقد.. ومن يريد من أولئك العيش في فلسطين أو في بلد عربي آخر فتطبق عليه قوانين الهجرة والجنسية النافذة في البلد الذي يختار العيش فيه. هل تلك أوهام وأحلام في زمن تراجع العرب وتصدع الأحلام وقوة العدو وعنجهية بوش؟ ربما.. ولكن الحلم أحد المداخل المشروعة لتغيير الواقع، والحق القائم في نفوس أبناء الأمة لا يمكن أن يزيله قهر وقت وضعف حال ورجال. كفانا معاناة وكفانا كذباً على الذات وكفى قتلاً وموتاً وإماتة.. المستقبل إمّا لنا وإما لهم على هذه الأرض، أرض فلسطين في إطار الصراع، والمستقبل لنا ولهم في إطار نقض معمار الكيان الصهيوني العنصري وإقامة دولة فلسطين على أرض فلسطين كلها بسيادة عربية كما كانت فلسطين عبر تاريخها كله منذ ما قبل الكنعانيين وإلى أبد الآبدين. العيش المشترك يختاره من يرغب فيه ويحرص عليه، " وإسرائيل لم تصبح بعد ولن تصبح أبداً دولة من نسيج المنطقة الجغرافي والسكاني والاقتصادي والأمني والثقافي.. ذاك وهم الصهاينة وحلم الفلسطينيين والعرب.. لن يتنازل الفلسطينيون عن بلدهم وحقوقهم ووطنهم، ولن يتنازل السوريون أو سواهم من العرب عن رابطة الدم والتاريخ والعقيدة والثقافة التي تربطهم بالفلسطينيين وبفلسطين، وهم ملزمون بنصرتهم ونصرتها. التاريخ الدامي في هذه المنطقة طويل وهو سوف يكون أطول مع بقاء الكيان الصهيوني.. فاوضوا كما شئتم ولكن تذكروا أن الشعب العربي يرفض " إسرائيل"، وسوف ندعوه إلى أن يرفضها ويزلزلها ويقيم دولة فلسطين على أنقاضها.. المستقبل لنا وليس لهم في أرض آبائنا وأجدانا فلسطين الجزء الجنوبي من بلاد الشام، الجزء الهام من أرض العرب وأمتهم التي ستعود ويعود مجدها إن شاء الله.