أن يعمل من تُحتل أرضه على استعادتها بالقوة، أو بالتفاوض، أو بالقوة والتفاوض، أمر معرف ومشروع، وفي هذا السياق تأتي محاولات سورية استعادة الجولان السوري المحتل، فاستعادته بكل الوسائل أمر مطلوب وفعل مشروع ولا شرعية لسواه وفق معاني المواطَنة والسيادة والكرامة الوطنية.. وهو واجب كل مسؤول في أية درجة من درجات المسؤولية، وواجب كل مواطن تحتل أجزاء من أرض وطنه في أي وقت وفي أية أرض. وثمن استعادة الجولان بالتفاوض مع المحتل الصهيوني هو الاعتراف بكيانه الدخيل بوصفه "دولة ذات وجود وحقوق" على أرض لا حقوق للعدو فيها ولا مسوّغ لشرعية وجوده عليها. وكل اعتراف من أي نوع بالكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين هو، من وجهة نظري ونظر كثيرين من العرب، سحبٌ للاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في وطنه والعودة إليه وتقرير المصير بحرية فوق ترابه.. وهو تقويض لكل ما بُني على طريق قضية فلسطين وقدم لها من جهد وجهاد ودم وتضحية وعمل في كل المجالات وصبر على الكوارث والمحن والامتحانات.. والاعتراف بالكيان الصهيوني دولة ذات سيادة في فلسطين أمر مرفوض وطنياً وقومياً وإنسانياً وقانونياً، لأن اغتصاب اللص لحق شخص آخر لا يعطيه شرعية المالك ولا يصبح صاحب حق بل هو الملاحق بقوة القانون والعدل، وإلا دخلنا قانون الغاب المطلق لا قانون القوة التي تسيطر ثم تدول دولتها بقوة أخرى. فكيف تستقيم المعادلة الشائكة التي نحن بصددها بين تفاوض لاسترداد الجولان نتيجته الاعتراف بالكيان الصهيوني، ورفض للاعتراف بالكيان الصهيوني مع استعادة الجولان أو أهمية ذلك وضرورته في وضع يختل فيه الوضع الدولي وميزان القوى لصالح المحتل؟ تلك ذروة قائمة الأسئلة الحادة القديمة الجديدة المتجددة التي أثارها ويجدد إثارتها إعلان سورية والكيان الصهيوني والوسيط التركي عن مفاوضات غير مباشرة جرت في فندق كونراد في استانبول 19 21/ أيار 2008 بين ممثليْن لسورية وصهيونيَّيْن من مكتب أولمرت يمثلان العدوان والاحتلال الصهيوني للجولان وفلسطين وأجزاء من جنوب لبنان.. وجاءت الاتصالات غير المباشرة تلك بعد جهود تركية طويلة، وتعطيل أميركي متعمَّد، وانتهت بعد ثلاثة أيام من اتصال غير مباشر عبر الوسيط التركي هدفه وضع جدول أعمال لقاءات مقبلة، بعد أن أعلن العدو الصهيوني وقدم للوسيط التركي ما يشير إلى استعداده لإعادة الجولان لسورية حتى حدود الرابع من حزيران وهو الذي يتمسك به السوريون وليس الحدود الدولية التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو، لأن هناك فروق جغرافية وإستراتيجية على الأرض. والتسليم بعودة الجولان نهج لم يبتدعه الفاسد أولمرت بل هو نهج قديم بدأ بما يعرف بوديعة رابين وبمفاوضات حققت تقدماً في شيبردزتاون واتصالات مع رئاسة وزراء الكيان الصهيوني في عهد بيبي نتنياهو وايهود باراك.. ولكن الجديد في الإعلان هذه المرة أنه مصحوب بمطالب مستجدة لم تكن في السابق، وهي مطالب أميركية صهيونية، ومطالب بعض العرب من تحت الطاولة، أعلنتها تسيبي ليفني في 22 أيار الجاري ورفضتها دمشق على لسان زير الإعلام. أنْ تستعيد سورية الجولان وتنهي علاقتنا المباشرة وغير المباشرة بقضية فلسطين، ويلوَّح لها بما ينبغي أخذه بالاعتبار عند رسم سياستها، مع من تتعاون ومن تصادق ولمن تعطي ظهرها، وأن تتخذ موقفاً سلبياً من المقاومة الفلسطينية وأن تدير ظهرها للمقاومة اللبنانية التي تتصدى للاحتلال، ولأي مقاومة عربية ضد أي احتلال لأجزاء من الوطن العربي.. تلك قاصمة ظهر كبرى لكل سياسة وكل سيادة وكل شعار وطني وقومي وكل تفكير عربي نظيف.. ولا يمكن لسياسي مؤتمن على وطن وقضية وتوجه قومي أن يسجل ذلك في سجله، ولا يمكن أن يقبل به وطن ولا مواطن.. فهل يبقى مع مثل هذه التلويحات والتلميحات والتصريحات تفاوض يجدي، وحل يستقر، ومسوغ للاتصال أصلاً؟ وأنْ تستعيد سورية الجولان بالتفاوض بصرف النظر عما يرتبه ذلك من التزامات، أياً كان نوعها وسقفها، لكي تستأنف منه نضالها ضد العدو الصهيوني ومشروعه الذي يستهدفها ويستهدف الأمة العربية.. ذاك فعل مأمول ولكنه على أرض الواقع مدخول بالخيالات والتمنيات وربما بنوع من مجاملة الذات.. إنه فعل يحق للسياسي الذي تُحتل أرضه أن يقوم به لأنه ملزم بالقيام بكل ما من شأنه أن يساعد على استرداد الحق والأرض وكرامة الوطن، ولأنه يقوم بواجب من واجباته عليه أن يؤديه في كل الظروف، وأن يتوصل إلى ما يمكن أن يوصل إلى مفاتيح ذلك، وأن يبذل كل ما يستطاع على تلك الطريق.. لكن القيود والأغلال المرئية وغير المرئية فيما يطرحه الصهاينة، والأميركيون الذين حجبوا إشارة الضوء الأخضر ثم أعطوها في زيارة بوش الأخيرة إلى الكيان الصهيوني للتفاوض، ستكون ثقيلة وثقيلة جداً على سورية في هذه الظروف وفي سواها، وهي تنطوي على نقض للثوابت المبدئية الأمر الذي سيكون أثقل وأشد فتكاً بالمصداقية والمبادئ على المدى البعيد.. وهو ما لا يمك أن تقبله سورية. وأنْ تلعب السياسة تكتيكاً سياسياً بذكاء أو أن تتذاكى على الآخرين فذاك فعلُ قائم في عالم السياسة ولكن السياسي يفترض في هذه الحالة أن عدوه مغفّل أو أنه يلعب اللعبة ذاتها، وفي الحالين لا تقوم جسور ثقة بينهما تمكِّن من التفاهم أو التعايش. والتعايش بالذات لا يُفرض على إنسان مع أفعى في جيبه، مع عدو يريد قهره وسلبه أرضه وحقوقه، ومحاصرته بكل الأشكال الممكنة، وإجباره على الخضوع لإرادته، مع محتل صاحب مشروع توسعي على الأرض ومشروع ثقافي يستهدف الهوية والعقيدة والبنية الخلقية والاجتماعية للعرب، عدو يتقوّى بحلفائه وبكل الأسلحة الممكنة ويمنعه هو وحلفاؤه من الحصول على أقل سلاح يمكن أن يدافع به عن قلب قلبه وليس عن حدود وطنه. أنْ تصدُق سورية وتلتزم سياسياً فتعترف بدولة " إسرائيل" وتقيم علاقات طبيعية معها، وأن يرفرف لتلك الدولة علمٌ في دمشق، وأن تساهم مع العرب الآخرين في حماية أمن الكيان الصهيوني بوصفه دولة من دول المنطقة، حسبما نصت عليه المبادرة العربية "قرار قمة بيروت 2002" التي تعتبر إحدى مرجعيات عملية السلام التي ينادي بها العرب، أنْ تفعل سورية ذلك وأن يقبل الشعب العربي الكيانَ الصهيوني "دولة" تشكل وجوداً على حساب وجود عربي هو الوجود الفلسطيني الذي لا يمكن أن تمثله دولة البلدية التي يلوح بها جورج بوش، وتحمل مشروعاً مضاداً ومناقضاً لأي من مشاريعنا النهضوية العربية الحقيقية على الصعيدين القطري والقومي.. تلك حالة بؤس لا يقود إليها إلا يأس، ولسنا كذلك بوجود المقاومة وما حققته حتى الآن في جنوب لبنان وفي غزة والعراق.. عدونا هو الذي على مشارف البؤس واليأس ونحن نمد له طوق نجاة في حالات كثيرة.. إننا إذا فعلنا وقبلنا بما ما يلوَّح لنا به كانت تلك أم الأخطاء القاتلة، وأم المصائب الدائمة.. كان ذاك أس البلاء والابتلاء.. لأنه يقدم شرعية لمن لا شرعية له عربياً، والشرعية العربية أهم بكثير من الشرعية الدولية في هذا المجال، ولأن اعتراف العرب يسلب الشرعية العربية التاريخية من الشعب الفلسطينيين في كل وطنه التاريخي، فضلاً عن أنه في البعد الاستراتيجي تأسيس لصراع مستمر قادم، وخطر دائم. أنْ تترك سورية الجولان تحت الاحتلال للزمن الآتي والأجيال القادمة.. هذا خيار أنهى به الرئيس الراحل حافظ الأسد لقاء جنيف الشهير مع كلنتون عام 2000.. هذا.. خيار متاح لكنه خيار مشروط بالعمل على تحقيق أهدافه البعيدة هو الخيار الجيد إذا كان لدينا مشروع تحرير نؤسس له قطرياً وقومياً على الصعد كافة: العسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والدبلوماسية.. إلخ ولكن هذا غير موجود عربياً، وسورية لا تحققه بمفردها، فلا بد لها من العرب ومن إمكانيات وتحالفات تمكنها من ذلك، وقد تلكأنا كثيراً في الإعداد والاستعداد له، بل فصمنا عرى التواصل مع ذلك النهج منذ سبعينيات القرن الماضي تقريباً حين اختار العرب "السلام الاستراتيجي مع العدو الصهيوني خياراً وحيداً.. وحيداً"، وبدأ تملصهم من القضية الأساس، قضية فلسطين، من جهة ومحاسبتهم على صدق نواياهم فيما أعلنوه، بل ملاحقتهم إذا ما فكروا بشراء دبابة ولا نقول صنعها من جهة أخرى. هذا الخيار غير موجود الآن، وربما لم يكن في أفق تفكير السياسي العربي في الوقت الراهن.. إنه مطلوب ولكنه غير موجود في أي مستوى استراتيجي عربي حقيقي، ولا هو على قائمة أو جدول أعمال العمل العربي المشترك والتوجهات السياسية القطرية والقومية فعلاً؟ إنه بالتأكيد غير موجود.. وكل المؤشرات تدل على ذلك بل تشير إلى نقيضه أحياناً، فهناك استراتيجيات مضادة لمثل هذا التفكير الاستراتيجي العربي.. والمؤشرات على ذلك والدلائل كثيرة.. ذلك أن من يعزز موقفه بالعدو ويتحالف معه من تحت الطاولة لأغراض وأهداف أخرى وضد أعداء يختارهم له من يكلفونه بحروب بالوكالة أو بدفع قيمتها لا يفكر بجبهة مضادة لذلك " العدو الحليف من تحت الطاولة"، ولأن من يختار السلام مع الكيان الصهيوني خياراً استراتيجياً وحيداً ويغلق الباب على نفسه وعلى أمته، ويدير ظهره لما يقوم به ذلك العدو من إعداد واستعداد عسكريين وترسيخ للاحتلال والاستيطان وتهويد للقدس، وما يقوم به من عدوان واجتياح وإبادة وحصار، وما يتهيأ له من بسط هيمنة متدحرجة بكل أشكالها، ومن يقدم مبادرات تضمن أمن العدو قبل أن تضمن أمن الذات والشقيق والوطن والأمة.. ومن يعترف بالعدو الصهيوني ويغذيه بالطاقة ويساهم في حصاره للمقاومة ويتعامل معه ويعمل وسيطاً له، وينقض كل معمار للثقة مع العربي الآخر، ويسكت على اختراقات خطيرة لأمنه ومجتمعه وثقافته ومقدساته.. من يفعل ذلك لا يؤسس بالتأكيد لجبهة مواجهة عربية ولا لزمن تحرير عربي قادم ولا لنهضة يشارك فيها كل العرب.. ولا يستطيع أن يعلن عن تبني إستراتيجية من هذا النوع.. بل ينصرف لاستراتيجيات مضادة أو ينصرف عن أية استراتيجيات ذات أبعاد عربية منقذة. وفي ظل عالم مختل التوازن لغير مصلحة الحق والحرية والتحرير.. على المرء أن يفكر بالبدائل التي لا تنهي وجوده المعنوي وشرعية طموحه الوطني والقومي والإنساني. وفي هذا السياق يأتي السؤال الأساس الذي يتصاعد مع الإشكالية الأساس: كيف نسكت وكيف نقبل وكيف نمضي في الطريق التي يشبه المضي فيها حركة تأتي على مقومات الجسد والعقل والمستقبل؟، وما هو البديل للسكوت والكلام وعدم المضي في تلك الطريق في وضع عربي وإقليمي ودولي راهن معروفة تفاصيله على المستوى الداخلي والعربي والإقليمي والدولي؟! أبدأ مقاربة الإجابة السؤال من حقيقة أن العدو ليس بالوضع الأمثل، وأنه يغوص في مشكلات عويصة ويبحث عن حلول مجدية، وأن حليفه الأميركي الذي يفرضه ويحميه ويقويه يدرك ذلك ويبحث له ومعه عن مخارج ملائمة، وجدها في فرض الاعتراف وفرض " المصالحة" والحلول بعد نقض البنية العربية المتكاملة، وعزل الجزء العربي وحصاره وإنهاكه، وتحريض الأخوة عليه، وإنهاكه في الداخل، والإيحاء له بأنه لا يملك سوى أن يقبل بما يقدم له.. وأن يعطي ظهره "لأمة ميؤوس منها".. هذا هو الطعم السام الذي يريدون لنا أن نبتلعه في الوقت الذي يعاني العدو من سموم داخلية قتالة تمزق أمعاءه.. ليس من أبرزها فساد رموزه مثل أولمرت وسواه، ولا الهجرة المعاكسة.. بل قدرته على المواجهة بعد أن تغيرت معادلاتها ومعطياتها بانتصار المقامة عام 2006، وقدرته على البقاء مستقبلاً مع تدحرج صحوة عربية إسلامية شعبية يدرك نتائجها على وجوده.. ولذا يرفع في الحقل العربي فزّاعات أو "خيالات المآتة" كما يقول المصريون، لتقوم الفزاعات أو "الخيالات" بلجم الثورة والصحوة والشعب العربي. ولكن هل يستمر ذلك إلى أبد الآبدين.؟ في الإجابة على السؤال الأساس: نريد الجولان وكل الأرض العربية المحتلة، ونريد فلسطين كلها .. والمستقبل لنا.. فليفكر الساسة، وليفكر الشعب.. ولكن لا يقتربن أحد من المقاومة التي تنمو في أحشاء الأمة العربية.. فتلك هي رأس حربتنا إلى التحرير الذي لا بد منه ولا بديل عنه.. وما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة.. مع بقاء الكرامة والحق والحرية الحقيقية للوطن والشعب والأمة.