زخم هائل اعترى السياسة الخارجية التركية على الصعيدين الإقليمي والدولي خلال الآونة الأخيرة، ما بين حرص على الانخراط في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي بشكل فعال، من خلال عمليات الوساطة في تسوية بعض النزاعات المزمنة والخلافات المستعصية، بدءا من الصراع العربي الإسرائيلي عبر رعاية المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا، وإبداء أنقرة استعدادها لوساطة أخرى بين تل أبيب من جانب وكل من بيروت والفلسطينيين من جانب آخر، مرورا بعروض للمساهمة في تسوية المسألة النووية الإيرانية، وحلحلة الأزمة السياسية اللبنانية، وانتهاء بمساعي التقارب التركي مع المحيط الإقليمي والفضاء الدولي، ولكن ما حقيقة الدور التركي ؟ وما طبيعته ؟ وماهي الظروف التي اسهمت في تحركه ؟ وما أهدافه ؟ الظروف المحيطة دفعت إلى تحرك جيوإستراتيجي مختلف أسهمت سلسلة من التطورات الإستراتيجية المهمة في حث الأتراك على إعادة صياغة سياسات بلادهم الخارجية بما يتماشى وتلك التغيرات، والتي كان من أبرزها: وصول حكومة حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم عام ,2002 ثم الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وما تمخض عنه من تصعيد للتوتر في العلاقات التركية الأمريكية، وكذا المراوغة الأوروبية في قبول عضوية تركيا بالاتحاد الأوروبي، علاوة على تنامي النفوذ الإيراني بشكل ملحوظ في العراق ولبنان وسوريا والأراضي الفلسطينية، واضطرار الولاياتالمتحدة للحوار السري مع طهران برغم إصرار الأخيرة على مواصلة أنشطتها النووية، مما شجع تركيا على مضاعفة اهتمامها بمحيطها العربي والإسلامي والانغماس في قضايا وملفات طالما كانت بعيدة عنها. وبناء عليه، جاء التوجه التركي نحو لعب دور الوساطة في تسوية القضايا الإقليمية الخلافية العالقة، والتي استهلتها بالصراع العربي الإسرائيلي توطئة لدور بارز في المسألتين اللبنانية والإيرانية. ومنذ العام ,2004 تعلن حكومة العدالة والتنمية عن رغبتها في التوسط بين إسرائيل والعرب في عملية التسوية، وهي الرغبة التي تحولت إلى واقع فعلي إثر المشاركة التركية في مؤتمر أنابوليس للسلام نهاية العام .2007 وبعد جمود دام ثماني سنوات، بدأت مفاوضات السلام السورية-الإسرائيلية تتنفس مجددا منذ أفريل 2007 بوساطة تركية، وعقب زيارة أردوغان التصالحية لواشنطن في نوفمبر ,2006 والتي أنهت الفتور والتوتر اللذين خيما على العلاقات بين الدولتين جراء المسألة الكردية ورفض البرلمان التركي نشر القوات الأمريكية في تركيا إبان غزو العراق، كما حصل بموجبها أردوغان على ضوء أخضر أمريكي للتوسع في الدور الإقليمي التركي، الذي يعد التوسط في عملية التسوية بين إسرائيل والعرب أحد ركائزه. ولا تستغل تركيا فقط علاقاتها الوثيقة مع الأطراف المختلفة، بل تسعى لتوظيف كل طاقاتها لإنجاح مساعيها على هذا الصعيد، حتى إنها أبدت استعدادها لتوظيف مواردها المائية الوفيرة في تذليل أية عقبات تعترض عمليات التسوية، سيما وأن مسألة المياه إحدى العقبات الكبرى أمام إبرام أي اتفاق سلام سوري إسرائيلي. وقد أبدت تركيا استعدادها للمساهمة في تسوية تلك المسألة الخلافية المعقدة عبر تزويدها الجانبين السوري والإسرائيلي بالمياه العذبة، أو إقناع سوريا بعدم التعنت مع إسرائيل بخصوص مياه بحيرة طبرية، مقابل تعهد أنقرة بتزويد دمشق بالمزيد من مياه نهر الفرات إلى جانب مساعدة السوريين في تدشين محطات تحلية متطورة. علاقات سوريا وتركيا الوطيدة تهدد التعاون الاستراتيجي بين أنقرة وتل أبيب تتسم العلاقات السورية - التركية بالثقة المتبادلة والرغبة المشتركة بين الطرفين في تعميقها والارتقاء بها لتحقيق مصالح الشعبين الصديقين وتعزيز العمل الإقليمي لتوفير متطلبات الأمن والاستقرار في المنطقة. ويشكل التعاون الإقليمي السوري - التركي الأساس للعمل المشترك مع دول المنطقة من أجل حل مشكلاتها وأزماتها بما يسهم في تخفيف التداعيات المترتبة عليها وذلك انطلاقاً من الأهمية الكبرى للدور المهم الذي يضطلع به البلدان في المنطقة وكذلك من موقعهما الإستراتيجي كصلة وصل بين أوروبا والعالم العربي وآسيا، ولقد فتحت زيارات الرئيس بشار الأسد إلى تركيا وزيارات كبار المسؤولين الأتراك إلى سورية خلال السنوات الماضية الآفاق لتعاون وثيق في المجالات كافة.. التفاهم السوري - التركي ينطلق من محددات عدة في مقدمتها التلاقي في المواقف ووجهات النظر حول قضايا المنطقة واتفاق وجهتي نظر البلدين على ضرورة مواصلة الجهود لاستئناف عملية السلام وفق مرجعية مدريد ومبدأ الأرض مقابل السلام وانسحاب إسرائيل الكامل من الجولان وجميع الأراضي العربية المحتلة لتحقيق السلام العادل والشامل في المنطقة وتأكيد ضرورة وحدة الشعب الفلسطيني لضمان حقوقه المشروعة إضافة إلى ضمان وحدة العراق أرضاً وشعباً وتحقيق أمنه واستقراره واستقلاله. وبحكم العلاقات الوثيقة بين أنقرةودمشق، ابدت تل ابيب قلقها من العلاقات السورية - التركية، وكان ذلك واضحا من خلال ابداء اسرائيل انزعاجها من المناورات التركية - السورية التي جرت الشهر الماضي. وقد وصل الامر بإسرائيل الى حد التلويح باعادة النظر في العقود العسكرية المبرمة مع انقرة نتيجة التعاون العسكري بين سورية وتركيا. مما لا شك فيه أن وصول العلاقات التركية - السورية الى درجة إجراء مناورات مشتركة هو تعبير بالغ الدلالة على العمق الذي وصلت اليه العلاقات منذ وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة العام 2002 ، وهذه المناورات تعكس رسالة اقليمية مهمة من الجانب التركي. وهذا قد يؤدي الى هزة سياسية قوية للعلاقات التركية - الاسرائيلية، وتقود إلى مقاطعة وتباعد تركي - إسرائيلي، لأن هذا الاندفاع والتقارب التركي - السوري بات ينافس إسرائيل في علاقاتها مع أنقرة. ولكن يقول الخبراء من المبكر جدا القول إن المناورات العسكرية التركية - السورية الأخيرة التي شهدتها مناطق الحدود المشتركة بين البلدين ستكون بديلا لأكثر من 15 عاما من التنسيق العسكري والأمني والاستخباراتي بين أنقرة وتل أبيب وضعت أسسه القيادات السياسية والعسكرية على السواء بتأن وعناية. ولكن ذلك سيترك تأثيره مستقبلا على الدور التركي في رعاية أي مفاوضات مستقبلية بين سورية وتركيا. ذلك ان إسرائيل ستتجه الى التحفظ عن اي دور تركي. وقد سبق لاسرائيل ان أبدت انزعاجها من التعاطف التركي مع الفلسطينيين ابان الحرب الاسرائيلية الاخيرة على قطاع غزة. وتبعاً لذلك فإن أي محاولة تركية للعب دور اقليمي ستصطدم بتحفظات اسرائيلية واضحة. ميزة الوساطة التركية التي لا تتوفر في غيرها على الرغم من التسريبات الإعلامية التي أشارت إلى الحديث عن احتمال دخول أطراف جديدة وسطاء للسلام بين سورية وإسرائيل فإن الاعتقاد العام في أوساط المحللين السياسيين هو أن تركيا بزعامة حزب العدالة والتنمية هي أفضل من يقوم بدور الوساطة بين الجانبين، نظراً لما لتركيا من علاقة جيدة ومتوازنة بكل من الدول العربية ولاسيما سورية من جهة وإسرائيل من جهة ثانية، فضلاً عن علاقاتها المتينة مع واشنطن منذ أكثر من نصف قرن. وبغض النظرعن التوتر التركي الإسرائيلي الذي ساد خلال العدوان على غزة ، فلا يعتقد أن هذا سيؤثر على العلاقات بشكل عميق، وهذا ما ذكره وزير خارجية تركيا، عند دعوته لحماس بانتهاج سبيل سلمي، حيث قال إن ''العلاقات التركية الإسرائيلية قد تتضرر على المدى القصير لكني لا أتوقع نتائج سلبية على المدى المتوسط أو البعيد.'' وهذا يعني أن تركيا لن تضحي بتحالفها التقليدي مع إسرائيل الذي تم تجسيده في 1996 بتوقيع اتفاق للتعاون العسكري. فتركيا تتمتع بحسب ما يرى السفير الأمريكي الأسبق ''صامويل لويس'' بميزة ''المكانة الرمادية'' بين إسرائيل والعرب، كدولة تملك مكونات ثقافية وتاريخية مشتركة مع العرب، لكنها أيضا ذات ميول واهتمامات وارتباطات غربية عميقة، تدعمها العلاقات الإستراتجية مع الولاياتالمتحدة من جهة، والرغبة التركية في عضوية الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، وتبعا لذلك العلاقات المتميزة مع إسرائيل. وعليه فإن زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وبرفقته وزير خارجيته أحمد داود أوغلو مهندس العلاقات التركية مع معظم دول الجوار إلى دمشق تكتسب أهمية بالغة، فهي تأتي بعد فترة من جمود الوساطة التركية عقب الحرب الإسرائيلية على غزة والتغيرات الداخلية التي شهدتها إسرائيل بعد مجيء نتنياهو إلى سدة الحكم خلفا لباراك. فضلا عن أنها تأتي في ظل بلورة إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما للكثير من مواقفها بشأن إطلاق عملية السلام في المنطقة من جديد على وقع الجولات التي يقوم بها المبعوث الخاص جورج ميتشل، وعليه فإن زيارة أردوغان في هذا التوقيت وفي هذا المناخ يحمل معه إمكانية إحداث انطلاقة جديدة في الوساطة التركية، دون أن يغير هذا من المعادلة التي تقول إن تحقيق السلام في المنطقة بحاجة إلى أطراف ثلاثة أساسية . معادلة السلام وأطرافها الأساسية يقول الخبراء ان ان معادلة السلام على المسار السوري - الاسرائيلي بحاجة إلى أطراف ثلاثة أساسية . أولا سوريا : التي أعلنت على الدوام أن السلام هو خيارها الإستراتيجي، ولها رؤية واضحة تقوم على استعادة الأرض مقابل السلام وفقا لمرجعية مؤتمر مدريد وقرارات الشرعية الدولية وما تم إنجازه على المسار السوري والذي تقول التقارير إنه وصل إلى أكثر من ثمانين بالمئة، وعليه فإن سورية تدعم الوساطة التركية بقوة، إذ أعربت مراراً عن ترحيبها بمواصلة التعاون مع تركيا في كل ما يحقق أمن المنطقة واستقرارها. ثانيا إسرائيل: التي تشهد علاقاتها نوعاً من الفتور مع تركيا بعد الحرب على غزة وقدوم حكومة بزعامة الثنائي نتنياهو- ليبرمان إلى سدة المشهد السياسي تتجه نحو التطرف أكثر فأكثر، إلا أنه على الرغم من ذلك تدرك هذه الحكومة جيداً أن ثمن السلام مع سورية في النهاية هو الانسحاب من الجولان السوري، ومسيرة المفاوضات السابقة تؤكد هذه المسألة بوضوح لا لبس فيه. ثالثا أمريكا : لا يختلف اثنان أن السلام بين سورية وإسرائيل لا يمكن تحقيقه دون وجود قرار من الإدارة الأميركية ورعايتها المباشرة، ولا يخفى على أحد أنه منذ قدوم أوباما فإن هذه الإدارة تسعى جاهدة لإطلاق عملية السلام على أسس عملية وآلية متوازنة ومقبولة من الجميع. في ظل هذه المعطيات تبدو مهمة الوسيط التركي أسهل من قبل، وخاصة أن الجولات الأربع للمفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل برعاية تركية وضعت التصورات اللازمة لتهيئة الأرضية المطلوبة للانتقال إلى مرحلة جديدة وربما المفاوضات المباشرة. التأكيد أن السلام بين سورية وإسرائيل أضحى مصلحة تركية كبيرة، نظراً لأن معظم المشاريع الاقتصادية الإقليمية الضخمة التي تفكر بها تركيا وتخطط لها هي بحاجة إلى الاستقرار الذي لا يمكن تحقيقه دون السلام في المنطقة، ومع قول الإدارة الأميركية إن السلام أصبح مصلحة قومية أميركية فإنه تبقى قدرة الولاياتالمتحدة وباقي الأطراف الدولية في الضغط على إسرائيل بأن السلام لا يمكن تحقيقه دون الانسحاب من الأراضي المحتلة وأن الطريق إلى السلام هو أقل كلفة من الحروب. دوافع داخلية تحرك الرغبة التركية في السلام يرى عديد من المراقبين أن الأهداف الداخلية في سعي حكومة العدالة والتنمية الى لعب دور اساسي في السلام في الشرق الاوسط تتجلى في توسيع قاعدة شعبيتها وتأكيد جدارتها، علاوة على الاستقواء بهذا الدور الإقليمي لتحسين موقفها السياسي في مواجهة خصومها السياسيين المتربصين بها على نحو ما تجلى في الدعوى القضائية التي كانت مرفوعة ضد حزب العدالة الحاكم وقياداته أمام المحكمة الدستورية العليا، طلبا لتجميده ومنع قياداته من مزاولة العمل السياسي بتهمة مناهضة العلمانية والسعي لأسلمة الدولة التركية، كما انه محاولة انتخابية بالدرجة الأولى، يستهدف بها الحزب الحاكم التركي ''العدالة والتنمية'' مشاعر قاعدته الانتخابية في الاستحقاقات القادمة ، والرأي العام التركي الذي يقف تقليديا، ضد السياسات الإسرائيلية في الشرق الأوسط. لكن موقف اردوغان لم يكن مقبولا في تركيا بشكل كامل، فقد اتهمت المعارضة التركية خلال العدوان على غزة عبر صحفها وساستها، الحزب الحاكم، بموالاة حماس، بما يعنيه ذلك من الإشارة الضمنية، لإسلامية الحزب، التي يتوافق بها مع الحركات الإسلامية العربية ومنها حماس. ولكن تقارير أشارت أيضا، إلى تذمر في قيادات الجيش التركي، من احتمالات تأثر العلاقات الاستراتيجية - الدفاعية التركية مع إسرائيل بسبب ذلك، كما لم يغب التخوف من إثارة أنصار إسرائيل لقضية الأرمن مجددا في الكونغرس الأمريكي، ردا على ذلك. قيود مبدئية حجر عثرة أمام دور أنقرة يقول الخبراء ان الدور التركي الراهن في دفع عملية السلام وتعزيزه المرتقب يصطدم بعدة عقبات لا يمكن التقليل من شأنها، منها أن مكانة تركيا في الإستراتيجية الأمريكية لم تعد كحالها خلال الحرب الباردة، ومواجهة الاتحاد السوفيتي، ويؤشر لذلك زيارة الرئيس الروسي السابق ''فلاديمير بوتين'' عام 2004 لأنقرة في أول زيارة من نوعها منذ 30 عاما. كذلك فإن التناقض الإيراني التركي، الذي يمكن أن يعزز التحالف مع الغرب في طريقه للخفوت، ولم يعد الصراع على مخلفات الاتحاد السوفييتي أو آسيا الوسطى بارزاً لدى الدولتين. بما يعني في الحالتين عدم ضمان الدعم الأمريكي بشكل تام. وكذلك فإن اولويات الأمن القومي التركي ليست منصبة على الشرق الأوسط بالذات، فتركيا مشغولة بمشكلة الأكراد، التي تتهددها بحرب أهلية لا تخفى مؤشراتها، وهكذا فإن أنظراها تنصب على العراق وكركوك أولا. كما إن أزمة قبرص والعلاقات مع اليونان، هي أولوية أخرى، ستكون سابقة على التوجه الشرق أوسطي الحالي. يضاف لذلك أن المشتركات والتشابه التركي - العربي تاريخيا وثقافيا، تناقضها في نفس الوقت، الطبيعة العلمانية الفاقعة لتركيا، والجفاء الذي تبديه النخبة التركية والطبقة السياسية التركية للعلاقات العربية عموما. وهكذا فالدور التركي في الشرق الأوسط، هو دور واعد، وإن كان محفوفا بالقيود والعقبات، ولكنه في كل الأحوال سيكون مفيدا جدا لتعزيز الدور التركي الدولي، في إحدى أكثر المناطق توترا، وأهمية في العالم.